||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 139- من فقه الحديث: قوله (عليه السلام): ((إنّ من الأشياء أشياء موسعة وأشياء مضيقة))

 157- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (4) : علم الهيئة- علم الطب- علم الحساب

 433- فائدة صحية: تقوية حافظة الإنسان

 239- عوالم الاشياء والاشخاص والافكار وسر سقوط الامم

 33- فائدة ادبية نحوية: الإضافة وأنواعها، وأثرها في الاستدلال

 318- الفوائد الأصولية: الحكم التكليفي والحكم والوضعي (5)

 177- مباحث الأصول: (مبحث الأمر والنهي) (6)

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 28- فائدة فقهية اصولية: من أنواع المناط الظني إلغاء خصوصية المضاف إليه

 الشخصيات القلقة والايمان المستعار



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23698431

  • التاريخ : 28/03/2024 - 13:10

 
 
  • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .

        • الموضوع : 364- (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (13) شروط استقامة التأويل والتدبر والتفكير في القرآن الكريم .

364- (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (13) شروط استقامة التأويل والتدبر والتفكير في القرآن الكريم
الأربعاء 25 جمادى الآخرة 1444هـ




بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم.

شروط استقامة التأويل والتدبر والتفكير في القرآن الكريم

(13)

قال الله العظيم في كتابه الكريم: {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ} (سورة آل عمران: الآية 7).

البحث يدور، بإذن الله تعالى، عن مساحات التفكير المسموح به ودوائر التفكير الممنوع منه في القرآن الكريم، وعن منطلقات التأويل الصحيح والباطل، فنقول:

القواعد والضوابط الأربعة لصحة التفكير والتأويل

إنَّ الدوائر والمساحات المسموح بها هي ما توفرت على احدى الأطر والضوابط والشروط العامة الآتية:

أولاً: أن يتحرك كلٌ من التفكير والتأويل ضمن أطر المستقلات العقلية.

ثانياً: أو أن يسبحا في محيطات دوائر النصوص الشرعية.

ثالثاً: أن ينطلقا من منطلق القواعد المنطقية – العقلائية، وقد مثّلنا لذلك سابقاً بدلالة الاقتضاء، دلالة الإشارة، ودلالة الإيماء والتنبيه، كلما أفادت الظهور العرفي أو طابقت المستقل العقلي.

رابعاً: أو أن يدورا في فلك قواعد اللغة والظهور العرفي...

وعلى ذلك فان ما ينبثق من التحليل الفلسفي، مثلاً، إذا اصطدم بالمستقلات العقلية أو النصوص الدينية الصحيحة الصريحة فليس بحجة ولا هو بالعقلائي، فكيف إذا اصطدم بهما معاً، وذلك هو ما سنذكر له شاهداً دقيقاً من علم الفلسفة، بعد أن نستعرض أولاً، تتمةً للبحوث الماضية، معاني (الصمد) في القرآن الكريم.

معاني (الصمد) حسب الروايات

فقد روى الإمام الصادق (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام): ((أَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ كَتَبُوا إِلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام) يَسْأَلُونَهُ عَنِ {الصَّمَدِ} فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَمَّا بَعْدُ فَلَا تَخُوضُوا فِي الْقُرْآنِ وَلَا تُجَادِلُوا فِيهِ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ فَسَّرَ {الصَّمَدَ} فَقَالَ: {اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}

{لَمْ يَلِدْ} لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ كَثِيفٌ كَالْوَلَدِ وَسَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْكَثِيفَةِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ وَلَا شَيْ‏ءٌ لَطِيفٌ كَالنَّفْسِ وَلَا يَتَشَعَّبُ مِنْهُ الْبَدَاوَاتُ كَالسِّنَةِ وَالنَّوْمِ وَالْخَطْرَةِ وَالْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْبَهْجَةِ وَالضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالرَّغْبَةِ وَالسَّأْمَةِ وَالْجُوعِ وَالشِّبَعِ تَعَالَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ وَأَنْ يَتَوَلَّدَ مِنْهُ شَيْ‏ءٌ كَثِيفٌ أَوْ لَطِيفٌ

{وَلَمْ يُولَدْ} لَمْ يَتَوَلَّدْ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ شَيْ‏ءٍ كَمَا تَخْرُجُ الْأَشْيَاءُ الْكَثِيفَةُ مِنْ عَنَاصِرِهَا كَالشَّيْ‏ءِ مِنَ الشَّيْ‏ءِ وَالدَّابَّةِ مِنَ الدَّابَّةِ وَالنَّبَاتِ مِنَ الْأَرْضِ وَالْمَاءِ مِنَ الْيَنَابِيعِ وَالثِّمَارِ مِنَ الْأَشْجَارِ، وَلَا كَمَا تَخْرُجُ الْأَشْيَاءُ اللَّطِيفَةُ مِنْ مَرَاكِزِهَا كَالْبَصَرِ مِنَ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ مِنَ الْأُذُنِ وَالشَّمِّ مِنَ الْأَنْفِ وَالذَّوْقِ مِنَ الْفَمِ وَالْكَلَامِ مِنَ اللِّسَانِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالتَّمْيِيزِ مِنَ الْقَلْبِ وَكَالنَّارِ مِنَ الْحَجَرِ، لَا بَلْ هُوَ اللَّهُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ وَلَا فِي شَيْ‏ءٍ وَلَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مُبْدِعُ الْأَشْيَاءِ وَخَالِقُهَا وَمُنْشِئُ الْأَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ يَتَلَاشَى مَا خَلَقَ لِلْفَنَاءِ بِمَشِيئَتِهِ وَيَبْقَى مَا خَلَقَ لِلْبَقَاءِ بِعِلْمِهِ فَذَلِكُمُ {اللَّهُ الصَّمَدُ} الَّذِي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ}))([1]).

وذلك إضافة إلى المعاني الني نقلناها في البحث الماضي للصمد وهي: (قال الإمام الباقر (عليه السلام): وحدثني أبي زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام) أنه قال: (({الصَّمَدُ} الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ وَ{الصَّمَدُ} الَّذِي قَدِ انْتَهَى سُؤْدُدُهُ([2]) وَ{الصَّمَدُ} الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَ{الصَّمَدُ} الَّذِي لَا يَنَامُ وَ{الصَّمَدُ} الدَّائِمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ)).

قَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): كان محمد بن الحنفية يقول: ({الصَّمَدُ} الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الْغَنِيُّ عَنْ غَيْرِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ {الصَّمَدُ} الْمُتَعَالِي عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ وَ{الصَّمَدُ} الَّذِي لَا يُوصَفُ بِالتَّغَايُرِ)

 قَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): (({الصَّمَدُ} السَّيِّدُ الْمُطَاعُ الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ آمِرٌ وَنَاهٍ))

قَالَ: وَسُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ زَيْنُ الْعَابِدِينَ (عليهما السلام) عَنِ {الصَّمَدِ} فَقَالَ: (({الصَّمَدُ} الَّذِي لَا شَرِيكَ لَهُ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُ شَيْ‏ءٍ وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْ‏ءٌ)).

قال وهب بن وهب القرشي قال زيد بن علي (عليه السلام): (({الصَّمَدُ} الَّذِي إِذَا أَرَادَ شَيْئاً قَالَ لَهُ {كُنْ فَيَكُونُ} وَ{الصَّمَدُ} الَّذِي أَبْدَعَ الْأَشْيَاءَ فَخَلَقَهَا أَضْدَاداً وَأَشْكَالًا وَأَزْوَاجاً وَتَفَرَّدَ بِالْوَحْدَةِ بِلَا ضِدٍّ وَلَا شَكْلٍ وَلَا مِثْلٍ وَلَا نِدٍّ))([3]))([4]).

وأكثر هذه المعاني مذكورة في لسان العرب ونحوه من كتب اللغة، ولكنّ الغريب أنهم، فيما وجدت من كلماتهم لم ينقلوا ذلك عن الإمام الباقر (عليه السلام) ولا عن الإمام السجاد (عليه السلام) ولا عن الإمام الحسين (عليهم السلام) مع أن هذه التفاسير تعود إليهم (عليهم السلام) وإلى تلامذتهم والفقهاء الذين أخذوا عنهم، فان أقدم كتب اللغة الموجودة بأيدينا تعود إلى القرن الرابع أو غاية الأمر القرن الثالث، فهي متأخرة عن زمن الإمام الحسين (عليه السلام) بمأتي سنة أو أقل أو أكثر، فلماذا ذلك الإجحاف؟ بل لماذا ممارسة سرقة المطالب العلمية من دون الإسناد إلى مصادرها وأربابها؟ أوليس أبو حنيفة درس عند الإمام الصادق (عليه السلام) سنتين حتى قال: (لولا السنتان لهلك النعمان)([5])، لكن كم رواية رواها عن الإمام الصادق (عليه السلام)؟ ولو كان كل درس من دروس الإمام الصادق (عليه السلام) يستغرق مدة ساعة أو نصف ساعة أو حتى خمس دقائق لبلغ ما تعلمه أبو حنيفة منه ألوف الروايات فلماذا لم يروِ عنه (عليه السلام) إلا النزر اليسير؟ ولماذا استنكف علماء اللغة – إلا النادر – أن يرووا معاني (الصمد) عن الإمام الحسين (عليه السلام) وهو حفيد الرسول (صلى الله عليه وآله) ومَن نزل القرآن في بيوتهم وهم سادة البلغاء وأرباب اللغة؟.

ولعل من العلل الكامنة وراء ذلك: انّ حكومات بني أمية وبني العباس كانت تعادي أهل البيت (عليهم السلام) أشد العداء وكيف يروي العلماء الذين يدورون في فلك السلاطين، (أو الذين يخافون منهم) عن أهل البيت (عليهم السلام) شيئاً؟.

وذلك تماماً كالسرقات العلمية التي اتخذت لدى معظم الغربيين طابعاً منهجياً، فانهم رغم تتلمذهم لمئات السنين على يد المسلمين في الأندلس، في القرون الوسطى في كل العلوم، إلا انهم يندر أن ينقلوا شيئاً عن المسلمين وعلمائهم، رغم ثبوت تلك الحقيقة تاريخياً، وتكفي إلقاء نظرة على كتاب (المسلمون آباء العلم الحديث) ونظائره.

التحليل الفلسفي إذا اصطدم بالعقل أو النقل

وعوداً إلى بدء، فإن التفسير والتفكر والتأويل يجب أن تدور كلها في دائرة المستقلات العقلية أو في فلك النصوص الصحيحة النقلية، أما التحليل الفلسفي فانه يفقد حجيته وصوابيته وصحته تماماً إذا اصطدم ببعض المستقلات العقلية ويكفي أن نقول عنه حينئذٍ أنه شبهة في مقابل البديهة، من غير حاجة إلى تجشم عناء مزيد استدلال (على أننا لا نُغفِل الاستدلال العقلي على إبطال أمثال تلك الدعاوى) فان كل استدلال وتحليل عقلي اصطدم بالوجدان أو الضروريات والبديهيات والمستقلات فانه باطل من أساسه لأن الفطريات والوجدانيات والمستقلات تشكل أساس العلوم فان اُنكِرت اُنكِرت كل المعارف التي تبتني في أولى لبناتها عليها، وقد نقل ان أبا علي بن سينا بعد أن درّس تلميذه المميز بهمنيار فترة طويلة، اصطحبه معه إلى النهر ولما جلسا على حافته أقام له سبعين دليلاً عقلياً على أن هذا الماء المتحرك إنما هو وهم أو سراب (وتلك مقدرة عقلية فذة) وطلب من تلميذه أن يجيب على استدلالاته، فما كان من بهمنيار إلا أن ملأ كفه بالماء ورماه على وجه أستاذه وقال هذا بمفرده يكفي رداً على جميع تلك الاستدلالات! وذلك كمن يستدل لنا على أن الظلام نور والليل ضياء فانه يكفي أن نطفئ السراج ونقول له تفضل وطالع في هذا الظلام الدامس الذي أقمت الأدلة على أنه نور ساطع! أو يكفي أن نقول لمن يقيم الأدلة العقلية على استحالة أن تتكسر عظام الإنسان إذا رمى نفسه من شاهق، يكفي أن نجيبه: تفضل وارمِ بنفسك ليشهد العيان على صدق ما نطق به اللسان!

نهاية الحكمة: الدليل على قاعدة الواحد

ولقد استدل في (نهاية الحكمة) على قاعدة الواحد، وأن الله تعالى لا يصدر منه إلا الواحد وانه يستحيل صدور المتعدد منه بالدليل الآتي قال: (ومن الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّةٌ ذاتيّةٌ هي المخصِّصة لصدوره عنها، وإلاّ كان كلُّ شيء علّةً لكلُّ شيء وكلُ شيء معلولاً لكلِّ شيء.

فلو صدر عن العلّة الواحدة التي ليس لها في ذاتها إلاّ جهة واحدة معاليلُ كثيرةٌ بما هي كثيرةٌ متباينةٌ لا ترجع إلى جهة واحدة، تقرّرت في ذات العلّة جهاتٌ كثيرةٌ متباينةٌ متدافعةٌ، وقد فرضت بسيطة ذات جهة واحدة، وهذا خلف.

فالواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد، وهو المطلوب.

وقد اعُتِرض عليه بالمعارضة: أنّ لازَمَهُ عدمُ قدرة الواجب (تعالى) على إيجاد أكثر من واحد، وفيه تقييد قدرته، وقد بُرهِنَ على إطلاق قدرته وأنّها عين ذاته المتعالية.

ويردّه: أنّه مستحيلٌ بالبرهان، والقدرة لا تتعلّق بالمحال، لأنّه بطلان محض لا شيئيّة له.

فالقدرة المطلقة على إطلاقها، وكلُّ موجودٍ معلولٌ له (تعالى) بلا واسطة أو معلولُ معلولِهِ، ومعلول المعلول معلول حقيقةً)([6]).

مناقشة الدليل

أقول: أما قوله: (ومن الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّةٌ ذاتيّةٌ هي المخصِّصة لصدوره عنها، وإلاّ كان كلُّ شيء علّةً لكلُّ شيء وكلُ شيء معلولا لكلِّ شيء).

فيرد عليه: ان صريح العقل وصحيح النقل يحكمان بخلاف ذلك:

الدليل العقلي على بطلان قاعدة الواحد

أما مخالفته لصريح العقل:

فأولاً: لأنه لو وجب أن تكون بين العلّة والمعلول سنخية ذاتية (مع تطبيق القاعدة على الله تعالى كما هو صريح كلامه([7])) للزم تركّب الله تعالى مما به الاشتراك الذاتي (التي سمّاها السنخية الذاتية) وما به الافتراق الذاتي وإلا لكان عين معلوله، فكان مركباً، هذا خلف إذ (قد فُرِضت بسيطة ذات جهة واحدة، هذا خلف) كما قال، بل قد فُرِضت بلا أجزاء) إضافة إلى بداهة تسليم الكل ومنهم المصنف بأن الله تعالى واحد أحد بسيط من كل الجهات.

ثانياً: لأن الواجب هو أن تكون للعلّة سلطة وقاهرية على المعلول، وإلا لصدر كل شيء من كل شيء، وليس (الواجب أن تكون بين المعلول وعلّته سنخيّةٌ ذاتيّةٌ هي المخصِّصة لصدوره عنها، وإلاّ كان كلُّ شيء علّةً لكلُّ شيء وكلُ شيء معلولاً لكلِّ شيء) فانه لو لم تكن لي سلطة على يدي لما أمكنني تحريكها ولو لم تكن لي قاهرية على الحجارة لما أمكن أن ازحزحها أو على زيد لما أمكنني حبسه مثلاً فإنما تكون العلة علة ويكون المعلول معلولاً لأن العلة هي الأقوى بقول مطلق بالنسبة إلى معلولها ولها القدرة والسلطنة والقاهرية، والمعلول هو الأضعف بقول مطلق؛ وإلا لصدر كل شيء من كل شيء، فقوله (وإلا لصدر كل شيء من كل شيء) دليل على لزوم تحقق السلطنة والقاهرية في العلة، لا على لزوم السنخية فانه حتى إذا لم تكن سنخية بين العلة والمعلول فانه لا يلزم صدور كل شيء من كل شيء مادام شرط الصدور هو سلطنة هذا على ذاك وقاهريته له.

بوجه آخر: لا شك أن بين الـمِثلين (كالجدار والجدار والأسد والأسد) سنخية ذاتية لكن لا يمكن أن يصدر أحدهما من الآخر، لا لأنه لا سنخية بينهما إذ الفرض أن بينهما السنخية التامة (والاشتراك في الجنس والفصل) بل لأن أحدهما ليس قاهراً على الآخر، أي لا سلطنة له عليه ولا قدرة فقوله: (وإلا لصدر كل شيء من كل شيء) أجنبي عن المدعى تماماً، بل هو دليل على لزوم تحقق السلطنة والقدرة والقاهرية، للعلة على معلولها.

ثالثاً: إضافة إلى ذلك فان الله تعالى هو عين الغنى والمخلوق (الممكن الموجَد) عين الفقر، فكيف يعقل أن تكون هنالك سنخية ذاتية بين ما هو عين الغنى وما هو عين الفقر؟

بوجه آخر: المخلوق، بناء على أصالة الوجود، إمكانه الوجودي فقري وهو عين الربط والتعلق بالله تعالى، كما صرح به بعضهم، أي أنه معنى حرفي، وأية سنخية ذاتية بين المعنى الحرفي والمعنى الاسمي؟

قال في المنظومة:

إن الوجود رابط ورابطي‌                    ثمت نفسي فهاك واضبط([8])


وليس الكلام في تفسيره لهذه المصطلحات بل في ما قاله بعض من أن وجود الممكنات هو عين الربط به تعالى والتعلق والفقر (لا ذات ثبت لها الربط).

رابعاً: بل نقول: لو قلنا بامتناع صدور الأكثر من الواحد عنه جل اسمه مستدلين بوجوب تحقق السنخية بين العلّة والمعلول.. إلخ لوجب القول بعدم صدور شيء منه أبداً حتى العقل الأول لنفس الدليل؛ إذ لا سنخية بين الواجب والممكن أبداً فكيف يصدر منه؟.

إن قلت السنخية هي الوجود؟

قلت: الوجود الفقري عين الفقر والتعلق، ووجوده تعالى عين الغنى فلا سنخية بينهما أبداً إلا أن يراد مجرد الاسم!

ثم: إذا كان الوجود كافياً في تحقق السنخية فللمتكثرات، على تكثر مراتبها، وجودات أيضاً فلتصدر منه تعالى لوجود السنخية بينه وبينها وهو (الوجود)!.

الدليل النقلي على بطلان قاعدة الواحد

وأما الدليل النقلي فعشرات الآيات والروايات، ويكفي أن نشير إلى بعضها:

1- قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ} (سورة الشورى: الآية 11) وإذا كانت بين العلة والمعلول (والواجب والممكن المخلوق له، أو فقل الخالق والمخلوق) سنخية ذاتية، لزم أن يكون المخلوق مثله تعالى في جهة ذاتية حقيقية هي ما سماه بالسنخية الذاتية.

2- في دعاء الصباح ((يَا مَنْ دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ بِذَاتِهِ وَ تَنَزَّهَ عَنْ مُجَانَسَةِ مَخْلُوقَاتِهِ))([9]) فلا مجانسة أبداً بينه وبين مخلوقاته فانه قد تنزّه عن مجانستها، ولا يعقل للسنخية معنى آخر غير المجانسة، بمعناها المتبادر إلى أذهان العرف الملقى إليهم الكلام.

3- ما رواه المفضل عن الصادق (عليه السلام): ((لَا يَلِيقُ بِالَّذِي هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ))([10]) والبينونة التامة المطلقة عن كل شيء تقتضي أن لا تكون بينه وبينها جهةُ سنخيةٍ أبداً، وإلا لما كان مبايناً على الإطلاق هذا خلف.

4- قال الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ((إِنَّ اللَّهَ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْ‏ءٍ فَهُوَ مَخْلُوقٌ مَا خَلَا اللَّهَ))([11]).

عن زرارة بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ((إِنَّ اللَّهَ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْ‏ءٍ مَا خَلَا اللَّهَ فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ تَبَارَكَ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))([12]).

عن خيثمة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ((إِنَّ اللَّهَ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْ‏ءٍ مَا خَلَا اللَّهَ تَعَالَى فَهُوَ مَخْلُوقٌ وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ))([13]).

والغريب: أن القرآن الكريم يصرح بـ{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ} ولم ترد فيه حتى مرة واحدة كلمة (السنخية بين الخالق والمخلوق) أبداً ولا في رواية من الروايات مع أن أساس القرآن، الله تعالى وقد تكرر ذكر اسمه جل وعلا مئات بل ألوف المرات في القرآن بتعابير مختلفة ولكن لم يرد ولا مرة واحدة أنّ له تعالى سنخيةً بخلقه أو أن بينه وبين معلوله سنخية ذاتية! مع انه كان من السهل جداً أن يقول مثلاً (وهو المسانخ لعباده) بدل أن يقول مثلاً {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} (سورة الأنعام: الآية 18) أو شبه ذلك.

هل الله عاجز عن خلق أكثر من الواحد؟

وأما قوله (ويردّه: أنّه مستحيلٌ بالبرهان، والقدرة لا تتعلّق بالمحال، لأنّه بطلان محض لا شيئيّة له.

فالقدرة المطلقة على إطلاقها، وكلُّ موجودٍ معلولٌ له (تعالى) بلا واسطة أو معلولُ معلولِهِ، ومعلولُ المعلول معلول حقيقةً).

ويرِد عليه: أولاً ما سلف ان أوضحناه من انّ برهانه على لزوم وجود السنخية باطل؛ لأنه يستلزم تركّب البارئ جل اسمه، والخلف؛ إذ فرضه بسيطاً من كل الجهات، كما أوضحنا أن علة صدور شيء من شيء هي علوه وقدرته وهيمنته عليه لا سنخيته له وإلا للزم أن يصدر كل سنخ من كل سنخ، إلى غير ذلك مما مضى.

وثانياً: أن ذلك مخالف بالصراحة للقرآن الكريم، الذي يؤمن به الكاتب القدير أكبر الإيمان، دون شك، إذ يقول تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَكيلٌ} (سورة الأنعام: الآية 102).

فهو {خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ} بالعبارة الصريحة، ولو كان لا يمكن أن يصدر منه إلا شيء واحد لوجب أن يقول (وهو خالق شيء واحد) ولكان من الغلط التعبير بـ{خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ} مادام يستحيل كونه خالقاً لأكثر من الواحد، وحمله على الطولية خلاف المفهوم العرفي بل مخالف لفهم كل الناس على مرّ التاريخ، إلا النادر من الفلاسفة، على أنه تعالى قد فرع عليه {فَاعْبُدُوهُ} ولو كان خالقاً لكل شيء طولياً للزم أن يُعبد العقل الأول أيضاً لأنه عندهم خالق كل شيء طولياً!.

ويؤكده قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} (سورة الرعد: الآية 16) مع أنهم كانوا قد جعلوا لله شركاء طوليين وقالوا: {ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏} (سورة الزمر: الآية 3) فرفض الله تعالى مقالتهم واعتبرهم مشركين وردّ عليهم بـ: {قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.

ثالثاً: كما صرح جل اسمه في عشرات الآيات (في 33 آية) بـ{إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ} (سورة البقرة: الآية 20) {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ} (سورة البقرة: الآية 106) {وَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ} (سورة المائدة: الآية 120) {وَأَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ} (سورة الحج: الآية 6).

ولو كانت القدرة لا تتعلق، عقلاً، إلا بالواحد وكان محالاً صدور أكثر من الواحد منه لما صح أن يقول: {إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَديرٌ} بل لوجب القول (والله قادر على شيء واحد، وأما ما عداه فلا يقال انه غير قادر إذ القدرة لا تتعلق بالمحالات فهو من السالبة بانتفاء الموضوع) ومع ذلك كله كيف يقال: (القدرة المطلقة على إطلاقها)!

بل نقول: (القدرة) ظاهرها اللغوي والعرفي والوجداني والفطري وبحسب مرتكز جميع عقلاء العالم هو القدرة المباشرة على الشيء فإذا قيل قدير فان ذلك هو المعنى المتبادر، والحمل على الطولية مجاز بحاجة إلى قرينة، بل نقول: انهم يرون من لا يتأتى منه الفعل المباشر عاجزاً غير قادر وانه امكنه فعله بالوسائط، بعبارة أخرى: لو صح فرض الطولية وامتنع غيرها (أي المباشرة) لوجب أن يصح السلب، لأنه بالمباشرة غير قادر مع انه لا يصح ذلك فيه تعالى بالوجدان!

وأما حديث عدم تعلق القدرة بالمحال فانه، بحسب ما عبّر عنه بعض الفضلاء، تلاعب لفظي في دلالة لفظ القدرة لا يقبله الوجدان السليم والعقل الفطري. فتأمل بعبارة أخرى: انه كمن يقول: الله تعالى لا يخلق حتى الواحد لاستحالة أن يخلق الغنيُّ المطلق الفقيرَ المطلق؛ إذ لا سنخية بينهما، وهو مع ذلك قادر مطلق والقدرة المطلقة على إطلاقها، إذ القدرة لا تتعلق بالمحال! هذا.

من المساحات الممنوعة: تفسير حروف القرآن

إنّ تفسير حروف القرآن الكريم خاص بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الكرام (عليهم السلام) فانهم الذين نزل القرآن في بيوتهم، دون غيرهم، وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): ((قَدِمَ وَفْدٌ مِنْ فِلَسْطِينَ عَلَى الْبَاقِرِ (عليه السلام) فَسَأَلُوهُ عَنْ مَسَائِلَ فَأَجَابَهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنِ {الصَّمَدِ} فَقَالَ: تَفْسِيرُهُ فِيهِ {الصَّمَدُ} خَمْسَةُ أَحْرُفٍ: فَالْأَلِفُ دَلِيلٌ عَلَى إِنِّيَّتِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ وَإِشَارَةٌ إِلَى الْغَائِبِ عَنْ دَرْكِ الْحَوَاسِّ وَاللَّامُ دَلِيلٌ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ بِأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ مُدْغَمَانِ لَا يَظْهَرَانِ عَلَى اللِّسَانِ وَلَا يَقَعَانِ فِي السَّمْعِ وَيَظْهَرَانِ فِي الْكِتَابَةِ دَلِيلَانِ عَلَى أَنَّ إِلَهِيَّتَهُ لَطِيفَةٌ خَافِيَةٌ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَلَا يَقَعُ فِي لِسَانِ وَاصِفٍ وَلَا أُذُنِ سَامِعٍ لِأَنَّ تَفْسِيرَ الْإِلَهِ هُوَ الَّذِي أَلِهَ الْخَلْقُ عَنْ دَرْكِ مَائِيَّتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ بِحِسٍّ أَوْ بِوَهْمٍ لَا بَلْ هُوَ مُبْدِعُ الْأَوْهَامِ وَخَالِقُ الْحَوَاسِّ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْكِتَابَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَظْهَرَ رُبُوبِيَّتَهُ فِي إِبْدَاعِ الْخَلْقِ وَتَرْكِيبِ أَرْوَاحِهِمُ اللَّطِيفَةِ فِي أَجْسَادِهِمُ الْكَثِيفَةِ فَإِذَا نَظَرَ عَبْدٌ إِلَى نَفْسِهِ لَمْ يَرَ رُوحَهُ كَمَا أَنَّ لَامَ الصَّمَدِ لَا تَتَبَيَّنُ وَلَا تَدْخُلُ فِي حَاسَّةٍ مِنْ حَوَاسِّهِ الْخَمْسِ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى الْكِتَابَةِ ظَهَرَ لَهُ مَا خَفِيَ وَلَطُفَ فَمَتَى تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي مائية [مَاهِيَّةِ] الْبَارِئِ وَكَيْفِيَّتِهِ أَلِهَ فِيهِ وَتَحَيَّرَ وَلَمْ تُحِطْ فِكْرَتُهُ بِشَيْ‏ءٍ يَتَصَوَّرُ لَهُ لِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَالِقُ الصُّوَرِ فَإِذَا نَظَرَ إِلَى خَلْقِهِ ثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَالِقُهُمْ وَمُرَكِّبُ أَرْوَاحِهِمْ فِي أَجْسَادِهِمْ

وَأَمَّا الصَّادُ فَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صَادِقٌ وَقَوْلُهُ صِدْقٌ وَكَلَامُهُ صِدْقٌ وَدَعَا عِبَادَهُ إِلَى اتِّبَاعِ الصِّدْقِ بِالصِّدْقِ وَوَعَدَ بِالصِّدْقِ دَارَ الصِّدْقِ

وَأَمَّا الْمِيمُ فَدَلِيلٌ عَلَى مُلْكِهِ وَأَنَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَلَا يَزُولُ مُلْكُهُ

وَأَمَّا الدَّالُ فَدَلِيلٌ عَلَى دَوَامِ مُلْكِهِ وَأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دَائِمٌ تَعَالَى عَنِ الْكَوْنِ وَالزَّوَالِ بَلْ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُكَوِّنُ الْكَائِنَاتِ الَّذِي كَانَ بِتَكْوِينِهِ كُلُّ كَائِنٍ

ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): لَوْ وَجَدْتُ لِعِلْمِيَ الَّذِي آتَانِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَمَلَةً لَنَشَرْتُ التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ وَالْإِيمَانَ وَالدِّينَ وَالشَّرَائِعَ مِنَ الصَّمَدِ، وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدْ جَدِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) حَمَلَةً لِعِلْمِهِ حَتَّى كَانَ يَتَنَفَّسُ الصُّعَدَاءَ وَيَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَإِنَّ بَيْنَ الْجَوَانِحِ مِنِّي عِلْماً جَمّاً هَاهْ هَاهْ أَلَا لَا أَجِدُ مَنْ يَحْمِلُهُ أَلَا وَإِنِّي عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَـ{لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ}

ثُمَّ قَالَ الْبَاقِرُ (عليه السلام): الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا وَوَفَّقَنَا لِعِبَادَتِهِ الْأَحَدِ الصَّمَدِ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وَجَنَّبَنَا عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ حَمْداً سَرْمَداً وَشُكْراً وَاصِباً))([14]).

وتفسير حروف القرآن الكريم هو من المساحات التي لم نُؤتَ علمها فليس التفكير فيها والاستنباط منها بصحيح أبداً إلا بالقدر الذي روي عنهم (عليهم السلام)، فهي من المتشابهات الخاص علمها بهم (عليهم السلام).

إن قلت: ان للحروف أسراراً؟

قلت: لا شك أن لها أسراراً، ولكنّ علمها أودع لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) وأبواب مدينة علمه (عليه السلام) ولم نؤتها، ولئن فرض علمنا بشيء منها فليس عن دليل ولا عن حجة بل إنما هي ظنون غير معتبرة، على أن ما علمناه من أسرارها خليط حق وباطل ورطب ويابس وغث وسمين فقد اختلط العلم بالجهل والصحيح بالخطأ ولذلك فليس شيء منها بحجة إلا ما ورد عنهم بسند صحيح.

والذي يوضح معادلة جهلنا بمجموعة معادلات أسرار الحروف، جهلنا بمجموعة معادلات الحسابات الفلكية التي تدل على الأحوال البشرية وغيرها فلقد كان هذا علماً علّمه الله أنبياءه ثم عندما أساء بعض من أطلّع عليه استخدامه، رفع الله هذا العلم وبقي بعض منه مختلط حقه بالباطل، ومن هنا قد يصيب الفلكيون، أي المنجمون، وقد يخطأون، ولذلك فانه لا حجية له أبداً، ولذلك ورد (كذب المنجمون ولو صدقوا).

وكذلك حال الكاهن المتصل بالجن فان الجن يلقي إليه باطلاً تارة وحقاً أخرى وصحيحاً وخطأ وكذباً وصدقاً قال تعالى: {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً} (سورة الجن: الآية 6).

وكذلك العرّافون... وكذلك المنامات فإن سرّ شفرتها يعلمه الأنبياء (عليهم السلام) والأوصياء (عليهم السلام) لذا تصيب تعبيراتهم للمنام دائماً. أما نحن فقد نخطأ وقد نصيب لذلك ليست المنامات حجة كما فصّلنا ذلك كله في كتاب (فقه الرؤى) وكتاب (مناشئ الضلال).

أما حجية ما ورد عنهم بسند صحيح فلأنهم باب علمه (صلى الله عليه وآله) وقد أودعه الله تعالى علوم القرآن فمنحها وصيّه (عليه السلام) ثم هكذا تسلسل الأمر فيهم حتى وصل إلى الإمام الحجة الثاني عشر (عجل الله فرجه) وعلى ذلك دلّ المتواتر من الروايات ومنها قوله (عليه السلام): ((مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) آيَةٌ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ، وَلَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ، وَلَا ضِيَاءٍ وَلَا ظُلْمَةٍ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وَأَمْلَاهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وَعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا وناسِخَها ومَنسوخَها وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا وَخَاصَّهَا وَعَامَّهَا وأينَ نَزلَتْ، وفيمَ نَزلَتْ إلى يومِ القيامةِ))([15]).

فجميع المتشابهات وكل التأويلات مودعة لديهم (عليهم السلام) أما نحن فمن أين ندعي أن هذا الحرف موضوع لهذا المعنى؟ بل من أين ندعي أن الله تعالى أراد من هذا الحرف هذا المعنى؟ فإن اللغة تتحدث عن معاني الألفاظ الموضوعة لها ولكن هل يوجد كتاب لغوي معتبر يتحدث عن معاني الحروف؟ بل لو تحدث عنها فبأي دليل؟ بل لو ثبت أن واضعاً ما وضع حرفاً لمعنى أو معاني فمن أين أن القرآن الكريم جرى على ذلك الوضع مع انه تعالى يقول: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ} (سورة إبراهيم: الآية 4) ولسان القوم الكلمات والجمل لا الحروف، ويقول جل اسمه: {بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبينٍ} (سورة الشعراء: الآية 195) واللسان العربي يعتمد على الكلمات والجمل ومعانيها لا على الحروف بما فسروها بها!

هل يصح الاستدلال بالأرقام والأعداد في القرآن؟

ولنضرب لذلك بعض الأمثلة من استشهاد بعضهم بالأرقام وتقابلاتها، لنعرف كيف أن طَرْق هذا الباب من دون هدى ولا كتاب منير من رب الأرباب عبر الرسول المصطفى وآله النجباء، خطأ.

قال بعضهم: ("الدنيا" وردت 115 مرة مقابل 115 مرة لـ "الأخرة") أقول: وما دلالة ذلك؟ هل يدل مثلاً على ان قيمة الدنيا تعادل قيمة الآخرة؟ أو تدل على أن أيام الدنيا هي بعدد أيام الآخرة؟

- ("الملاك" وردت 88 مرة مقابل 88 مرة لـ"الشياطين") ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن قوة الشياطين بمستوى قوة الملائكة؟ أو أن عددهم كعددهم تماماً؟ أم ماذا؟ بل من أين نستنبط دلالة تساوي الأعداد على أيِّ مفهومٍ مدّعى؟

- ("مصيبة" وردت 75 مرة مقابل 75 مرة لـ "الشكر") نقول: المفروض أن المصيبة يقابلها (الحمد) لا (الشكر) إذ الشكر على النعمة وأما الحمد فـ(الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه)!

- ("الذهب" وردت 8 مرات مقابل 8 مرات لـ رغد العيش) هل يريد أن يستدل بذلك على أن الذهب يوجِد رغد العيش؟ مع ان الذهب كان أساساً للكثير من شرور العالم، ويكفي أن نعرف ان المذهب الاقتصادي الميركانتللي الذي اعتمدته أوروبا لمأتي سنة تقريباً كان أساسه نهب الدول الأوروبية لثروات الدول الأفريقية وغيرها بل كان أساساً للغلاء في بلادهم([16])؟ ثم: ان رغد العيش أساسه التقوى والإيمان، أو الصلح والسلم والسلام، أو كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الزَّوْجَةُ الصَّالِحَةُ وَ الْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ وَ الْمَرْكَبُ الْهَنِي‏ءُ وَ الْوَلَدُ الصَّالِحُ))([17]) وليس الذهب!.

- ("محمد" وردت 4 مرات مقابل 4 مرات لـ "الشريعة") وهل للرقم هذا دلالة؟ وإذا كان ذا دلالة لدلّ، والعياذ بالله، على أفضلية موسى (عليه السلام) من محمد (صلى الله عليه وآله) لأن اسم محمد ورد 4 مرات واسم موسى ورد 129 مرة؟ واسم عيسى ورد 23 مرة!!.

- ("الرجل" وردت 24 مرة مقابل 24 مرة لـ "المرأة".) هل يريد أن يحتج بذلك على أن أعداد الرجال مساوية تماماً لأعداد النساء في كل الأزمنة!! أو يريد أن يستدل على أن حقوق الرجل والمرأة متساوية بدليل تكرر أسمهما 24 مرة!!

وقال بعضهم: (قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} (77) وكلمه الراجفة قيمتها العددية =715 أما الرادفة فـ= 716) فكيف يتجرّأ على تفسير القرآن برأيه ويقول: (أي أن الرادفة تتبع الراجفة فالعدد 716 يتبع 715)!.

فذلك هو انموذج من التفكير غير المنهجي، غير المنضبط، غير المسموح به في القرآن الكريم.

حدزائيل بحق زمشائيل!!

اقول: هذا المنهج هو الذي لو بدأ لانتهى إلى مصائب مبكية بل فجائع مذهلة، إذ ما أن يبدأ من غير الحجة فانه لا بد أن ينتهي إلى متاهات وأضاليل.. ويكفي أن نستعرض هنا ما ذكره بعضهم: (وكيفية كتابته أن تأخذ لكل حرف من أحرف نطق الجملة المذكور إسماً من أسماء الله تعـالى يكون ذلك الحرف في أوله وهي هنا = (زكي * مؤمن * شكور).

وتكتب هذه الأسماء في صدر ظهر الورقة وبعدها أجب يا زيدإييل([18]) وأنت يا عمرإييل وأنت يا ييبائيل وأنت يا حدزائيل بحق أسماء الله تعـــالى العظام زكي مؤمن شكور أجيبوا أيها الأرواح الكرام وتوكلوا بتعطيف قلب زيد على عمر حتى يحبه حباً زائداً بحيث لا يستطيع أن يفارقه طرفة عين ، ولا أقل من ذلك أجيبوا وإفعلوا ما أمرتكم به بحق الملك الغالب عليكم (زمشائيل)، الساعة الساعة الوحا الوحا العجل العجل)!!

فلاحظ مقدار الاستهانة بالعقل البشري ولاحظ الجرأة على الله تعالى في اختلاق أسماء للملائكة (أو الأرواح الكرام) ما أنزل الله بها من سلطان، فلئن جاء في القرآن والروايات أسماء جبرائيل، ميكائيل، إسرافيل، عزرائيل... إلخ فقد جاء هؤلاء من عند أنفسهم بأسماء مقاربة للإيهام على عوام الناس: (ييبائيل) (حدزائيل) ورئيسهم (زمشائيل!)! {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (سورة يونس: الآية 59)!.

 

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

----------------------------------------------------------------------------------

([1]) الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص90.

([2]) الظاهر: الذي أنتهى إليه السؤدد.

([3]) الشيخ الصدوق، التوحيد، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص90.

([4]) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج3 ص591.

([5]) شاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي / محمود شكري الألوسي، مختصر التحفة الاثني عشرة، المطبعة السلفية ـ القاهرة، ج1 ص ۸.

([6])  العلامة الطباطبائي، نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ج1 ص215.

([7]) بل لا مصداق لقاعدة الواحد إلا الواجب جل وعلا لأنه الواحد الأحد بالوحدة الحقيقية.

([8]) الملا هادي السبزواري، المنظومة، نشر ناب ـ تهران، ج2 ص237.

([9]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء ـ بيروت، ج84 ص339.

([10]) المفضل بن عمر الجعفي الكوفي، توحيد المفضل، مكتبة الداوري ـ قم، ص178.

([11]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج1 ص82.

([12]) المصدر: ص83.

([13]) المصدر.

([14]) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج3 ص592. وبحار الأنوار للعلامة المجلسي، ج3 ص224.

([15]) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص193.

([16]) يراجع (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) ج1، للمؤلف.

([17]) محمد بن محمد الأشعث الكوفي، الجعفريات، مكتبة نينوى الحديثة ـ طهران، ص99.

([18]) أي انه أضاف (إييل) إلى كلمة (زيد).

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الأربعاء 25 جمادى الآخرة 1444هـ  ||  القرّاء : 1715



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net