||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 سوء الظن في المجتمعات القرآنية

 216- مواصفات المهاجر: رجاحة العقل، وفور العلم، قوة المنطق، السلوك القويم، حسن الادارة، قوة القلب

 أدعياء السفارة المهدوية في عصر الغيبة التامة (2)

 450- فائدة فقهية: دلالة السيرة على صحة معاملة الصبي الراشد بإذن وليه

 293- قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (9) سرّ التخلف في بلادنا والعلاج

 214- مباحث الاصول: الفوائد الأصولية (الدليل العقلي) (7)

 54- بحث فقهي اصولي: الفرق بين الموضوع الصرف والمستنبط

 36- فائدة اصولية: اخبار الترجيح منها ما ترتبط بباب الفتوى ، ومنها ما ترتبط بباب الروايات

 122- (الدفاع عن المظلومين) من مفردات (رسالات الله)

 135- اعظم العقوبات الالهية : عقوبة قسوة القلب



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 161- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (8): علم الاديان الفقهي والاصولي المقارن



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23590373

  • التاريخ : 19/03/2024 - 04:03

 
 
  • القسم : دروس في مبادئ الاستنباط .

        • الموضوع : الدرس التاسع .

الدرس التاسع
الاثنين 22 ذو الحجة 1439 هـ



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

مقوِّمات الاستنباط ومبادئه وشروطه

 

الأدلة على بطلان التمسك بملاكات الأحكام

وبعبارة جامعة: يمكن ان يستدل بوجوه على بطلان الأمور التالية:

أ- ب- الاستناد إلى الملاكات في كشف الأحكام الشرعية، فيما لا حكم له حسبما وصل إلينا([1])، أو في تعدية حكم من موضوع إلى آخر بدعوى اشتراكهما في الملاك.

ج- وبطلان الاستناد إليها لتغيير (أو دعوى تغيُّر) أحكام الموضوعات فيما له حكم شرعي؛ بدعوى ان الملاك قد تغير في هذا الموضوع فيتغير حكمه.

د-هـ- وبطلان الاستناد في إنشاء الأحكام، إلى تجدّد ملاكات حادثة بسبب تغير الأزمنة والأمكنة وما فيهما، أو إلى ظهور ملاكات قديمة لكنها كانت خافية علينا.

ووجوه البطلان متعددة وهي:

 

أولاً: الروايات الصريحة في تحريم القياس وبطلانه

فان الروايات الشريفة صريحة في بطلان القياس وان السنة إذا قيست محق الدين وان دين الله لا يصاب بالعقول، وقد سبق نقل بعضها، ولكن نعيدها كي نضيف بعض فقه الحديث إليها:

(مَا لَكُمْ وَالْقِيَاسَ)!

فقد روى الكليني: في رواية صحيحة السند: (عن عدَّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن عثمان بن عيسى قال سألت أبا الحسن موسى عليه السلام عن القياس فقال: ((مَا لَكُمْ وَالْقِيَاسَ؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ))([2])).

وقوله (مَا لَكُمْ وَالقِيَاسَ) صريح في الردع عنه إذ ان معناه: دعوه واتركوه.

ولكن قد يسأل عن وجه تعليل الإمام لذلك بـ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ)) لظهوره في انه تعليل لقوله ما لكم والقياس، والسؤال هو: ان القائس يريد ان يستكشف حكم الله بالقياس وليس معترضاً كي يقال له ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ)) نعم إذا كان معترضاً (بان قاس موضوعاً على آخر فأشكل على الله تعالى بانه لِمَ حكم على هذا الموضوع بحكم ولم يحكم به على الموضوع الآخر رغم وحدة ملاكهما) أجيب بـ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ)) كما ان قوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)([3]) رد على سؤالهم الاستنكاري([4]).

الوجه في ان الله تعالى لا يُسأل عَمَّا يفعل

والجواب: إضافة إلى ان كلامه عليه السلام يصلح جواباً عن المعترض أي المستفهم استفهاماً استنكارياً، فانه يصلح جواباً عن المذعن المستكشف أي المستفهم استفهاماً حقيقياً، وتوضيحه:

انه تارة يكون الطرف مستشكلاً بان الله تعالى لا يعمل حسب الملاكات والمصالح الواقعية، بل يستبدّ بالأمور دون حِكمةٍ ووجهِ مصلحةٍ أو مفسدةٍ واقعية بالأمور، فهنا يجاب بانه تعالى (حكيم ورحيم) ورحمته وحكمته تقتضيان تشريع الأحكام بما يكون لصالح المكلفين في الدنيا والآخرة وبما يدفع عنهم المفاسد، كما يمكن الجواب بوجه آخر أيضاً وهو التعبد لأنه الخالق المالك، وإذا كان للمالك المجازي ان يتصرف في ملكه كيف شاء (لولا ردع الشارع عن إسرافه وشبهه) فكيف بالمالك الحقيقي؟

وتارة يكون الطرف مستفهماً عن الملاك مدّعياً في الوقت نفسه انه اكتشفه فيجاب بـ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُسْأَلُ كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ)) كنايةً عن انه لا يعلم وجه تحليله وتحريمه وملاكاته الكاملة، وذلك لأحد وجهين:

1- اما لأنه لا يمكن للبشر القاصر الإحاطة بملاكاته كلها لكونها فوق إدراك البشر لذا فوّضها الله تعالى للنبي والأئمة والزهراء عليهم السلام فقط، لذلك لا يسأل ولا يصح السؤال بـ(كيف أحل وكيف حرم) والمراد لِمَ أحل ولِمَ حرّم، ويقربه للذهن ان الطفل في الروضة أو الابتدائية مثلاً لا يمكنه ان يحيط بملاكات تشريع الكثير من القوانين كتشريع قانون سانت ليغو أو ضده أو تشريع قانون النظام الانتخابي المختلط أو الدائرة المغلقة أو المفتوحة، هذا في التشريع، وفي التكوين: لا يمكنه الإحاطة مثلاً بنظرية النسبية ومختلف النظريات الفيزيائية والكيماوية، ولو ذُكِر له شيء منها كان مبسطاً جداً بقدر عقله من دون ان يتضمن الحقائق والملاكات والمؤثرات والموانع كلها.

2- أو لأنه وإن أمكنه ذلك، أو بعضهم على الأقل ولو في بعض الأحكام على الأقل، إلا انه لم يكن من المصلحة تعريفهم على الملاكات الكاملة، فاكتفى الشارع بإعطائهم الحِكَم والمقتضيات دون العلة التامة بكافة شرائطها وموانعها، وقد ذكرنا في كتاب (المعاريض والتورية) بعض الوجوه لعدم ذكر الشارع للمكلفين بعض ما يمكنهم فهمه، فراجع.

(إِنَّ السُّنَّةَ لَا تُقَاسُ)

كما وردت أيضاً الرواية الصحيحة التالية: عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن صفوان بن يحيى عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ((إِنَّ السُّنَّةَ لَا تُقَاسُ، أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً تَقْضِي صَوْمَهَا وَلَا تَقْضِي صَلَاتَهَا يَا أَبَانُ إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ))([5]). والتعبير بالمحق دقيق فان المحق هو الإهلاك والإفناء وإذهاب الشيء، والمحاق ثلاث ليال آخر الشهر لا يكاد يرى القمر فيها لخفائه([6]) و(يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا)([7]) أي يذهبه، فتفيد الرواية ان الدين يُمحق ويُفنى ويهدم بالكلية، أو بما يقرب من ذلك([8]) بمعنى ان فتح باب القياس يؤدي إلى تغيير أحكام الله تعالى بنسبة مائة بالمائة أو أقل منها بما يصدق عليه انه محق الدين عرفاً ولو استلزم تغييره بنسبة 70% أو 60% مثلاً.

واستشهاده عليه السلام بـ((أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةً تَقْضِي صَوْمَهَا وَلَا تَقْضِي صَلَاتَهَا)) لطيف دقيق وذلك لوجهين:

الأول: ان الصلاة أهم من الصوم قطعاً، لأنها عمود الدين، والإجماع من الشيعة والسنة على ذلك، وعليه: فإذا أراد الشارع التخفيف على الحائض بإسقاط قضاء أحدهما وإبقاء الآخر فان مقتضى القياس انها حيث فاتتها الصلاة والصوم ان تقضي الصلاة دون الصوم، مع ان الشارع عَكَسَ.

الثاني: ان قضاء الصوم أشق وأصعب من قضاء الصلاة، فمقتضى القياس إذا أراد الشارع التيسير ان يسقط قضاء الصوم دون الصلاة، وقد عَكَسَ، والحاصل: ان الصلاة أهم وأيسر ومع ذلك لم يوجب الشارع قضائها، والصوم ليس بالأهم كما انه أصعب ومع ذلك أوجب الشارع قضائه رغم قوله تعالى: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)([9]).

((وَمَا عَلَى دِينِي مَنِ اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ فِي دِينِي))

(كما وردت الرواية المعتبرة التالية: عن ابن المتوكل عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الريان بن الصلت عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: قال الله جل جلالة: ((مَا آمَنَ بِي مَنْ فَسَّرَ بِرَأْيِهِ كَلَامِي وَمَا عَرَفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي وَمَا عَلَى دِينِي مَنِ اسْتَعْمَلَ الْقِيَاسَ فِي دِينِي))([10]))([11])

أقول: والجملتان الأوليان إضافة لاستقلاليتهما وموضوعيتهما وفائدتهما في حد ذاتهما وأهميتهما فانهما ذكرتا أيضاً كالتمهيد للجملة الثالثة فانه:

أ- إذا كان كلام الله مما لا يمكن تفسيره بالرأي، لأنه ليس ككلام سائر الناس، ومن جهات ذلك كثرة اعتماده على المخصصات والمقيدات والقرائن المنفصلة مما لا يمكن فهم مراده الجدي باستماع آية أو رواية أو جملة كاملة بل لا بد من الإحاطة بكل كلماته المرتبطة بوجهٍ بتلك الآية أو الجملة والمبثوثة في القرآن الكريم وفي الروايات الشريفة؛ ولذا لم يصح الاكتفاء بتفسير القرآن بالقرآن فقط بل لا بد قبل تفسير الآية من مراجعة سائر الآيات المرتبطة والروايات إذ (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)([12]) و(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)([13]) والإكمال بإيداع التفسير الكامل والتأويل لدى الأئمة عليهم السلام، كما فصلناه في بعض الكتب، ولذا جرى دأب بعض العلماء عند التدبر في آية على مراجعة تفسير البرهان أولاً فالصافي ثانياً فالتبيان ومجمع البيان وأمثالها ثالثاً.

ب- وإذا كان الله تعالى مما لا يُعرف بشبهٍ إذ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)([14]) و((مَا عَرَفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي)).

فان من الطبيعي ان يتفرع على هذين الأمرين عدم معرفتنا لملاكات أحكامه التامة وعدم صحة القياس تبعاً لذلك وإلا لكان الإنسان مشبِّهاً لله تعالى بخلقه في الإحاطة بملاكات أحكامهم وصحة تفسير كلامهم بالرأي لأن كلامهم وارد مورد كلام المفسّر ومثيل له.

نعم، وكما سبق، فانهم عليهم السلام ذكروا لنا الملاكات الاقتضائية والمقرِّبات والمشيرات، كما نذكر للطفل بعض الحقائق الميتافيزيقية أو الفلسفية أو الفيزياوية، بشكل مبسط جداً، بل كما يذكر المتخصصون لغير المتخصصين بعض المعادلات بشكل مبسط والتي لا تحيطهم بالصورة الكاملة ولا يمكنهم بمجرد ذلك معرفة خفايا القضايا أو صنع الجهاز المقصود.

((السُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ)

كما يدل على ما ذكرناه([15]) الرواية الصحيحة الآتية ( عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبي عمير عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبان بن تغلب قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام ((مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَطَعَ إِصْبَعاً مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ كَمْ فِيهَا؟ قَالَ عَشْرٌ مِنَ الْإِبِلِ([16])

قُلْتُ قَطَعَ اثْنَيْنِ؟ قَالَ عِشْرُونَ

قُلْتُ قَطَعَ ثَلَاثاً؟ قَالَ ثَلَاثُونَ

قُلْتُ قَطَعَ أَرْبَعاً؟ قَالَ عِشْرُونَ!

قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ يَقْطَعُ ثَلَاثاً فَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ وَيَقْطَعُ أَرْبَعاً فَيَكُونُ عَلَيْهِ عِشْرُونَ؟ إِنَ‏ هَذَا كَانَ يَبْلُغُنَا وَنَحْنُ بِالْعِرَاقِ فَنَبْرَأُ مِمَّنْ قَالَهُ وَنَقُولُ الَّذِي جَاءَ بِهِ شَيْطَانٌ!

فَقَالَ: مَهْلًا يَا أَبَانُ هَكَذَا حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إِلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ فَإِذَا بَلَغَتِ الثُّلُثَ رَجَعَتْ إِلَى النِّصْفِ، يَا أَبَانُ إِنَّكَ أَخَذْتَنِي بِالْقِيَاسِ وَالسُّنَّةُ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ الدِّينُ))([17]))([18])

 

تحليلان لوجه تراجع دية أصابع المرأة من المساواة للرجل إلى النصف

ويمكن توضيح كلام الإمام بوجهين: تعبدي واقعي وتعقلي جدلي:

اما التعبدي فهو واضح مما مضى ذكره، إضافة إلى وجه آخر: وهو ان من البديهيات ان للمالك ان يتصرف في ملكه كما شاء فله ان يهدم هذا الحائط أو يبني تلك الغرفة إلا ان يمنع عن ذلك من هو فوقه ممن له عليه ولاية حقيقية أو اعتبارية([19]).

وإذا كان هذا حال المالك المجازي فما بالك بحال المالك الحقيقي؟ ونحن مملوكون لله تعالى إذ نحن عبيد له وملكيته حقيقية ذاتية لا بجعل جاعل ولا باعتبار معتبر بل بكوننا بشراشر وجودنا مفتقرون إليه مصنوعون له حدوثاً وبقاءً.. وذلك بديهي لمن يؤمن بالأديان، وكلامنا الآن معهم بل مع بعضهم وهم أهل العامة أو بعض من مال إليهم من أهل الخاصة.. وعليه: فان له جل اسمه أن يحكم بانه لا دية أصلاً على قطع عضو من الرجل أو المرأة وله ان يحكم بالدية حسب الدرجات والتفصيل الذي يراه، كما كان له ان يقبض روح من يشاء ويميت من يشاء ويحيي من يشاء كما يشاء، فتدبر

واما التعقلي الجدلي: فانه يعتمد على إبداء مجرد الاحتمال في مقابل قطع الطرف الآخر واستدلاله، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ولم يبق وجه، لبقائه على قطعه لو تدبر فيما قلناه وتوخى الإنصاف وترك الاعتساف، وذلك بالبيان الآتي: وهو ان المقياس في الأمور ليس الحجم ولا الكمّ والعدد فقط بل قد يكون المقياس الكيفية والنوعية؛ ولذا كان كيلو من الذهب أكثر قيمة من مائة كيلو من الخشب مثلاً، وكذلك كانت العين أهم من الاذن رغم كونها أصغر منها، بل وبعض خلايا المخ والأعصاب أهم من اليد والرجل إذ لولاها لجنّ أو أصيب بالشلل التام أو غير ذلك.

والأصابع الأربع كمّياً هي أكثر من الأصابع الثلاث، فإذا كان الملاك الكمّ فقط فلربما صح الإشكال، لكن حيث لسنا محيطين بكافة أبعاد البدن الفيزياوية والكيماوية والعصبية وغيرها فلا يمكن الجزم بان ضرر قطع ثلاث أصابع أكثر من ضرر قطع أربع أصابع، فقد يكون العكس تماماً؟ وهل الجزم بذلك إلا من قبيل جزم الجاهل بجهاز معقد دقيق، والذي لا يعلم الأدوار الكاملة الحقيقية لكل زر أو جزء أو جهاز فيه؟([20])

فهذا هو بعض الكلام عن الدليل الأول لبطلان القياس والدخول في عالم ملاكات الأحكام.

 

ثانياً: اختلاف ملاك الوجوب عن ملاك الإيجاب

وذلك هو ما ذكره المحقق الاصفهاني بقوله: (أن مصالح الأحكام الشرعيّة المولويّة التي هي ملاكات تلك الأحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط، ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العموميّة المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع. وعليه فلا سبيل للعقل بما هو إليها.

نعم، إن اتّفق إدراك مصلحة خاصّة لبعض الأحكام بحيث كانت شفي نظر العقل تامة الاقتضاء ، فهل يحكم العقل بحكم الشارع على طبقها أم لا؟

والتحقيق أن المصلحة وإن كانت تامة الاقتضاء، إلاّ أن الغرض من الواجب غير الغرض من الإيجاب، فربما يكون الواجب تام الاقتضاء بحيث لا يتوقف ترتب الغرض منه عليه على أمر آخر، إلاّ أن الإيجاب فيه مفسدة، فلا يكاد يصدر من الحكيم، والإيجاب إنما يتحقّق بتحقّق علّته التامّة من المقتضى الموجود في الواجب الباعث على إيجابه مع عدم المانع من إيجابه. فمجرّد إحراز المقتضى لا يكفى في إحراز مقتضاه)([21])

والمقصود من قوله (تحت ضابط) أي تحت ضابط معلوم لنا وليس نفياً لوجود ضابط ثبوتي أصلاً وإلا لما كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات. هذا خلف.

 

هل النقد البنّاء ونقد الصحافة من الغيبة؟

واما قوله (ولا تجب أن تكون هي بعينها المصالح العموميّة المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع) فقد يمثل له بالغيبة فان ملاك حرمتها حفظ عِرض المؤمن عن الهتك، ولكن قد يقال ان للعقلاء ملاكاً آخر لا يتطابق مع هذا الملاك وهو ما يسمى اليوم لديهم بالنقد البنّاء، وما تمارسه الصحافة والسلطة الرابعة من (اغتياب) للمسؤولين وغيرهم مستندين إلى ان ذلك ضروري لتقويمهم، والملفت ان النقد الذي يدعون إليه ويستحسونه ليس النقد في دائرة محدودة بل هو على رؤوس الأشهاد وبمرأى ومسمع من الألوف وأحياناً الملايين، فقد يقال بان ملاكاتهم لا تتطابق مع ملاكات الشارع لذا حرّم الشارع بينما أوجبوا.

ولكن يمكن الجواب عنه بجواز ذلك النوع من النقد بأحد وجوه:

الأول: ان ذلك من مصاديق النهي عن المنكر، فيما لو فرض ان ما يفعله المسؤول منكر وانحصر ردعه بنهيه على صفحات الجرائد مثلاً؛ اما استناداً إلى حكومة أدلة النهي عن المنكر على أدلة الغيبة لناظريتها إليها أو إلى ان الردع عن المنكر أهم، والنقد مقدمته إلى غير ذلك من التخريجات.

الثاني: ان ذلك من مصاديق الاستثناء في قوله تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ)([22]) فإذا ظلم المسؤول في وزارة الكهرباء أو الماء أو النفط أو البلديات أو غيرها، الناسَ جاز لهم الجهر بالسوء فيه من القول.

الثالث: انه متجاهر بالفسق، وهو لا غيبة له، لكن هذا أخص.

وقد بنى الفقهاء على الجرح والتعديل في علم الرجال حيث بناؤهم على تتبع عورات الرواة لإحراز وثاقتهم من عدمها، وتسجيلها في الكتب ليقرأها الألوف على امتداد مئات السنين. فتأمل

وقوله: (إلاّ أن الغرض من الواجب غير الغرض من الإيجاب) يمكن ان نمثل له ببعض صور التقية إذا كان المعصوم عليه السلام لا يمكنه بيان الحكم أو تشريعه تقيةً، فان المصلحة أو المفسدة في عالم الثبوت حينئذٍ تامة والوجوب والحرمة واجدان لملاكهما التام لكن المانع إنما هو في الإيجاب أو التحريم، كالتقية مثلاً أو كعدم قابلية القابل وعدم قدرته على التحمل كما تقتضيه مصلحة تدرجية نزول الأحكام رعايةً لحالهم كي لا ينفضّوا عن الدين، وذلك وجه من الوجوه وهناك وجوه أخرى ليس هذا محل تفصيلها.

 

ثالثاً: استلزام التعويل على الملاكات هدم الدين

وهو ما ذكره السيد الوالد (قدس سره) وصرحت به بعض الروايات، مما سبق وغيره.

قال في الفقه: الاقتصاد: (ولو صح التشبث ببعض الحِكَم والاستحسانات لتقرير الحكم تحطم الفقه كله.

فالذكر كاف عن الصلاة!، لأنه قال سبحانه: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)([23]).

والتقوى كاف عن الصيام!، لقوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)([24]).

والخمس يجب أن يكون نصفاً!، لحاجات الدولة الكثيرة في الزمان الحاضر.

والحج يصح أن يكون حتى في كربلاء، لقوله سبحانه: (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيتَ الْحَرَامَ قِيامًا لِّلنَّاسِ)([25])، فإذا صار ضريح الإمام الحسين (عليه السلام) قياماً للناس كفى عن الحج!.

والسفر الموجب للقصر يلزم أن يكون ألوف الفراسخ، لأن الطائرة تطير بقدر ذلك في بياض يوم!.

والإسلام دين قومي، لقوله سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ)([26]).

إلى غيرها وغيرها، فهل يصح كل ذلك؟)([27])

أقول: والاستلزام وبطلان التالي المستلزم لبطلان المقدم واضح، بل نقول: لتحطمت الشريعة كلها لا الفقه فقط، بناء على انه منها وليس محيطاً بها إلا ان يراد به المعنى الأعم؛ فان (لِذِكْرِي) من منصوص العلة، وهو أقوى من مستنبط العلة فيجب، على مسلك مرجعية الملاكات، ان يُكتفى بذكر الله عن الصلاة بل يجب الذكر خاصة وتحرم الصلاة إذا كان ممن لا يتذكر الله تعالى في الصلاة، ككثير من الناس حيث يتشتت ذهنه ويجول هنا ويصول هناك ويفكر في كل شيء ويتذكره إلا الله تعالى حتى انتهاء صلاته! وعليه: فلا تجب عليه الصلاة ويجب عليه ما يذكر الله به كما لو كان السجود الطويل وحده مما يذكّره بالله أو الذهاب للحرم أو قراءة القرآن أو غير ذلك! بل إذا كانت اليوغا([28]) هي التي تذكّره بالله، وجبت دون الصلاة!.

وكذلك الصوم إذا وجب لأجل التقوى، فانه يحرم إذا كان سبباً لثوران القوة الغضبية لديه! ووجبت المطالعة بدلها إذا كانت سبباً لتقواه!

وكذلك الحج إلى العلماء أو المكتبات إذا كان سبباً لقيام الناس؛ وهكذا، وهل يمكن لمسلم ان يلتزم بذلك؟

 

 

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

 

([1]) أي فيما لم يصل إلينا من الشارع فيه حكم؛ اما لأنه شُرِّع ولم يصل؛ نظراً لإحراق الكتب أو دفنها أو إغراقها أو غير ذلك أو لأنه لم يشرّع أصلاً لحكمةٍ ما رغم وجود المصلحة والملاك.

([2]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص57.

([3]) سورة الأنبياء: آية 23.

([4]) أو هو أعم. فتأمل

([5]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص57.

([6]) مجمع البحرين/ مادة محق.

([7]) سورة البقرة: آية 276.

([8]) كتسعين بالمائة من الموارد.

([9]) سورة البقرة: آية 185.

([10]) الشيخ الصدوق، الأمالي، المكتبة الإسلامية – قم، 1404هـ، ص6.

([11]) راجع الدرس (8).

([12]) سورة النحل: آية 44.

([13]) سورة المائدة: آية 3.

([14]) سورة الشورى: آية 11.

([15]) من عدم صحة التعويل على كشفنا، بزعمنا، للملاكات بل وعدم مرجعية القطع بالملاك، وعدم حجيته (بمعنى عدم كاشفيته عن الملاك الواقعي وإن قطعنا به).

([16]) وهي عُشر الدية الكاملة التي هي مائة إبل، فللأصابع العشرة مائة أبل، ولكل أصبع إبل.

([17]) ثقة الإسلام الكليني، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج7 ص300.

([18]) راجع الدرس (8).

([19]) الولاية الحقيقية لله تعالى ورسله وأوصيائهم، والولاية الاعتبارية لغيرهم كالدولة بناء على ثبوت الولاية لها.

([20]) فمثلاً – والكلام في مجرد إبداء احتمال مهما بدأ ضعيفاً لكنه لا يمكن نفيه ما دمنا، بل وكل العلم الحديث، غير محيطين بكافة أسرار البدن والأعصاب والمخ وغيرها – ربما يكون تأثير قطع ثلاث أصابع على مستوى أداء المخ والجهاز العصبي أكثر وأشد من تأثير قطع أربع أصابع! أو ربما يكون قطع ثلاث أصابع يؤثر في قصر عمرها أكثر مما يؤثر قطع الأربعة بل قد يكون قطعها موجباً لانعكاس التأثير.

([21]) الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث – قم، 1414هـ، ج3 ص349.

([22]) سورة النساء: آية 148.

([23]) سورة طه: الآية 14.

([24]) سورة البقرة: الآية 183.

([25]) سورة المائده: الآية 97

([26]) سورة المائده: الآية 97

([27]) السيد محمد الحسيني الشيرازي، موسوعة الفقه: كتاب الاقتصاد، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع – بيروت، ج107/1، ص125.

([28]) والمديتشن (Meditation)!

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الاثنين 22 ذو الحجة 1439 هـ  ||  القرّاء : 8681



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net