||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 215- أمواج المهاجرين ومسؤوليات المهاجر و الحكومات الاسلامية والغربية

 277- (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) 2 الصراط المستقيم في تحديات الحياة ومستجدات الحوادث

 166- الوعود الكاذبة في إطار علم المستقبل

 390- فائدة أصولية: انقلاب النسبة

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 17- (ليظهره على الدين كله)3 الرسول الأعظم في مواجهة مشركي العصر الحديث

 91- (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) مؤسسات المجتمع المدني في منظومة الفكر الإسلامي-4 مسؤولية الدولة تجاه الناس ومؤسسات المجتمع المدني والمسؤولين

 338- فائدة أصولية: أنواع الأحكام بلحاظ أنحاء تعلق متعلقاتها بها

 392- فائدة فقهية: جواز تصرف الصبي الراشد بإذن وليه

 441- فائدة تاريخية: في تحقيق بعض المقامات والمراقد المنسوبة إلى بعض أولاد المعصومين (عليهم السلام)



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 161- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (8): علم الاديان الفقهي والاصولي المقارن



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23594198

  • التاريخ : 19/03/2024 - 10:22

 
 
  • القسم : الفوائد والبحوث .

        • الموضوع : 300- الفوائد الأصولية (الحكومة (10)) .

300- الفوائد الأصولية (الحكومة (10))
29 صفر 1440هـ

الفوائد الأصولية (الحكومة (10))
جمع و اعداد الشيخ عطاء شاهين *

الفائدة التاسعة عشر: وقيل إن وجه تقدم الحاكم على المحكوم كون لسانه لسان المسالمة لا المصادمة ؛ إذ أنه لا يعارض المحكوم في مقتضاه ؛ وإنما يبين هذا الموضوع ليس داخلاً تحته أو يبيِّن مقدار مدلول المحكوم فيرفع الحكم عن موضوعه بلسان البيان لا المنافاة، لذا لا يحتاج في تقديمه إلى واسطةٍ من عقل أو غيره بخلاف التخصيص، أو يقال إن حقيقة الحكومة هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه وهو اسلوب التنزيل والكناية ؛ حيث إن موارد التنزيل هو القدر المتيقن من الحكومة ؛ فليس  قوام الحكومة بوجود عموم أو إطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً اليه؛ وإنما هو بارتكاز ذهني للعرف يخالف مؤدى الدليل؛ وهذا اسلوب أدبي يتضمن اثبات الشيء أو نفيه تنزيلاً تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب؛ في حين أن مجرد النظر إلى دليل آخر ليس  حاله كذلك .
ويرد عليه بأمور: منها أن لسان المسالمة أعم من الحكومة حيث يشمل الورود وغيره ؛ فالوارد كذلك يتقدم على المورود بلسان المسالمة لأنه لا يواجهه مباشرة وإنما ينفيه بنفي موضوعه؛ ومنها: أن موارد التنزيل  ليس هي القدر المتيقن من الحكومة بل ذلك على المبنى فقط ؛ ومنها: أن (الارتكاز الذهني على الخلاف) لو اجتمع مع العام أو المطلق لكان حيثية تعليلية لثبوت حكومة الدليل الحاكم على العام نفسه ؛ وهذه الحيثية ليست هي الموضوع بل هي علة ثبوت الحكم للموضوع ؛ فيكون الارتكاز على الخلاف في ضمن العام -المحكوم فرضاً- علة لثبوت حاكمية الدليل الحاكم على هذا العام نفسه ؛ ومنها: أن المدار في دخول مسألة في علم أو باب أو خروجها عنه هو إما الغرض أو الموضوع وليس خصوصيات القدر المتيقن؛ فلو قال: (أكرم العلماء لأنهم عدول) كان (لأنهم عدول) حيثية تعليلية لثبوت الإكرام للعلماء حقيقة ، لا أنها تنقلب إلى الموضوع نفسه ؛ ومنها: أن لسان المسالمة لا يصلح أن يكون ملاكاً للحكومة بل الملاك هو الأظهرية ؛ فإن ( أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ ) رغم لسان المسالمة ونكتتي التناسب والارتكاز على الخلاف لا يكون حاكماً على (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)  لأنه  لم يكن  أظهر منه .

تفصيل الفائدة:
ذهب بعض الأعلام - ومنهم السيد السيستاني (دام ظله) - إلى أن الملاك في تقدم الحاكم على المحكوم هو كون لسانه لسان المسالمة والصلح مع المحكوم لا لسان المصادمة.
وقد طرح هذا الرأي المحقق اليزدي (قدس سره) في كتاب التعارض مع أنه تبنى قبله أن الملاك هو الأظهرية ؛ فكأنه لا يرى تنافرهما بكون أحدهما قسيماً للآخر[1]، بينما يظهر من عبارات السيد السيستاني[2] بأنه وجه قسيم للناظرية وغيرها ؛ وأنه هو الوجه لا غير ، وسيأتي ذكر كلامه.
قال المحقق اليزدي (قدس سره) : (إلا أنّا نقول إن لسان الحاكم لما كان لسان الشرح والتصرف في المحكوم لا يعدُّ معارضاً ومنافياً له عرفاً في المحكومات التي لسانها لسان تنزيل موضوع الدليل المحكوم منزلة العدم[3]، فلأنّ الحاكم كأنّه يدل على تقرير لسان المحكوم في حكمه، وأنَّ حكمه حق إلا أنَّ هذا الموضوع خارج عنه، مثلاً إذا كان موضوع الأصل المشكوك بوصف أنّه مشكوك، فقول الشارع بوجوب تصديق العادل المخبر بأنّ الواقع كذا لا يعدُّ منافياً له، إذ كأنَّه يقول سلَّمنا أنَّ المشكوك حلالٌ لكنَّ هذا ليس منه، ومن المعلوم أن هذا اللسان ليس لسان المنافاة، فهو نظير ما إذا تعارضت البينتان إحداهما أنَّ المال كان في يد زيدٍ والأخرى على أنَّ يده بعنوان الغصب، فإنَّها كأنَّها تصدِّق الأخرى فيما أدعته، لكنها تبين وجه اليد، ففي المقام أيضاً الحاكم لا يعارض المحكوم في مقتضاه، لكنه يبين أن هذا الموضوع ليس داخلاً تحته، ولذا لا يُعدُّ الحاكم والمحكوم المتوافقان في المفاد كالأصل الموضوعي والحكمي من المتعاضدين، بل نقول إنَّ الأصل الحكمي لا يجري مع وجود الموضوعي.
وأمَّا في الحكومات التي لسانها لسان رفع الحكم عن موضوع الدليل المحكوم لا رفع نفس الموضوع كما في (لا حرج..) و(لا ضرر...) و(لا شك في النافلة..) و(لا تعاد..) ونحو ذلك؛ فلأنَّ الحاكم يبيِّن مقدار مدلول المحكوم فيرفع الحكم عن موضوعه بلسان البيان لا بلسان المنافاة، والمبيِّن لا يعد معارضاً ومنافياً للمبيَّن، وبعبارة أخرى لسان الحاكم لسان الصلح لا الخصومة)[4].
ثم فرّع عليه: (ولذا لا يحتاج في تقديمه[5] إلى واسطةٍ من عقل أو غيره بخلاف التخصيص، فإنَّ الخاص لا يبيِّن العام بلفظه بل العقل يجعله مبيِّناً له ويرفع الخصومة بينهما)[6].
وقد بنى المحقق اليزدي في ذلك على ما التزمه الشيخ من أن الحاكم شارح للمحكوم بلفظه كما سبق نقله[7] عنه؛ فإن (الطواف بالبيت صلاة) بلفظه شارح للفظ الصلاة في مثل (الصلاة يشترط فيها الطهارة) فإن لسانه لسان تفسير اللفظ وتوسعة دائرة دلالته تنزيلاً[8]، عكس الخاص فإنه مصادم للعام في مورده؛ إذ العام انحلالي فينحلّ إلى حكمٍ وحكمٍ وحكمٍ لهذا الفرد وذاك وذاك، والخاص يصادم حكمه في الفرد الثالث –مثلاً-  فيحتاج إلى وساطة العقل لتقديمه عليه بكونه- مثلاً-  أظهر من العام في هذا الفرد الثالث في كونه مراداً بالإرادة الجدية له أو نصاً فيه وذاك ظاهر، عكس الحاكم غير المحتاج إلى توسيط العقل لأنه بنفسه شارح ومبين.

تفصيل مبنى تقدم الحاكم لكون لسانه لسان المسالمة
وقال السيد السيستاني (دام ظله) : (هذا، ولكن هناك اتجاه آخر في حقيقة الحكومة هو المعروف بين الاصوليين، وهو أن قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر وسوقه قرينة شخصية لبيان المراد من ذلك الدليل سواء كان ذلك بلسان التنزيل كما في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أم لا ؛  كما لو جعل الحكم المضاف إلى العام منفياً عن حصّة أو فرد من الموضوع كأن يقال (وجوب إكرام العلماء غير ثابت للفاسق أو لزيد) ؛ لأن هذا اللسان ناظر إلى اثبات الحكم للعامّ ؛ ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا ، وتوضيحه: أن لكل باب مورداً متيقناً له يكون أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده- كموارد قصور القدرة اتفاقاً بالنسبة إلى باب التزاحم مثلاً- فكل تحليل لأي باب إنما يصح  بعد تمامية تصوّره في حدّ نفسه إذا أمكن شموله للمورد المتيقن للباب، ولا ضير بعد ذلك لاندراج موارد أُخرى تحت الباب وعدم اندراجها، وإلاّ لم يكن تحليلاً لذلك الباب وإنما يكون تحديداً لظاهرة اُخرى) [9].
أقول: لم يرد في كلام الشيخ التعبير بـ(سوقه قرينة شخصية) بل عبر بـ(أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الدليل الآخر...) وقد عبّر بالأول بعض متأخري الأصوليين، وقد يستظهر أنه مراد الشيخ ، إذ لو كان بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الآخر كان قد سيق كقرينة شخصية، فتأمل[10].

الضابط في كشف جامع المسائل هو: خصوصيات القدر المتيقن منها
وعلى أي فإن صفوة كلامه مع بعض التصرف والإضافة: أنه كثيراً ما يجهل أو يحدث خلاف في الجامع بين مسائل العلم -وهو المعبر عنه بالملاك والضابط - في دخول مسألة فيه أو خروجها عنه، كما قد يحدث الخلاف في مسائل الباب أيضاً:
فمثال الأول: دخول أو خروج الاستصحاب في الشبهات الموضوعية في الأصول أو كونه من القواعد الفقهية، وكذا الحال في أصالة البراءة[11] و كثير من مباحث الألفاظ، أو حتى دخول مثل حجية خبر الواحد في الأصول بعد كونه حاكياً عن السنة وليس هو السنة التي هي من الأدلة الأربعة[12].
ومثال الثاني: أن (لا ضرر) هل هو داخل في باب الحكومة[13]؟ أو هو داخل في باب المانع عن تنجز الأحكام الأولية بعد حملها على مرتبة الحكم الاقتضائي وحمل لا ضرر على الحكم الفعلي[14]؟ أو هو داخل في بحث العام والخاص باعتبار أن لا ضرر يتقدم على الأدلة الأولية بالتخصيص لا غير؟.
وكذا: أن موارد عجز المكلف الدائم عن الجمع بين المتزاحمين هل هو داخل في باب التزاحم؛ لكون العجز من ناحية المكلف عن امتثالهما معاً بعد تمامية ملاكهما جميعاً، أو هو خارج عنه وداخل في باب التعارض ؛ لاستحالة -أو قبح - أن يكلف المولى الملتفت عبده بتكليفين متزاحمين تعييناً وهو يعلم أن العبد عاجز أبداً عن امتثالهما معاً؟ فلا بد إذا وصلنا خطابان بالأمر بهما من القول بتكاذبهما والرجوع إلى المرجحات السندية والمضمونية والجهوية، فإن تساوت فالتخيير حسب القاعدة الثانوية في الروايات ، وفي غيرها التساقط.
وعليه: فمورد التزاحم المتيقن هو موارد قصور القدرة وثبوت العجز اتفاقاً أحياناً.
والحاصل: أن الضابط في كشف الجامع لمسائل العلم أو الباب هو الرجوع إلى القدر المتيقن كونه من مسائل ذلك العلم أو الباب، ثم البحث عن خواصه (الذاتية)[15] فإذا اكتشفناها كانت هي الملاك والعلة المعممة والمخصصة ، فكل مسألة توجد فيها هذه الخاصية فإنها داخلة ، وكل مسألة فاقدة له خارجة.
والقدر المتيقن من الحكومة موارد التنزيل
ثم قال (دام ظله) : (وموارد التنزيل بالنسبة إلى الحكومة من هذا القبيل؛ فإنها هي القدر المتيقن لها، فلا يصح أي تحليل للحكومة إلاّ إذا تم اندراج موارد التنزيل فيه، وليس بإمكان أحد أن ينكر تحقّق الحكومة في موارد نفي الحكم بنفي موضوعه من قبيل قوله : ( العالم الفاسق ليس بعالم ) مثلاً.
ولا يقتضي لسانه النظر إلى دليل آخر أصلاً
والاتجاه المذكور غير قادر على ذلك ، لأن لسان التنزيل لا يقتضي نظراً إلى دليل آخر أصلاً لا بالمطابقة - كما هو واضح - ولا بالالتزام؛ لأَن دلالته عليه بالالتزام إنما تتم لو كانت صحة هذا اللسان لغةً أو بلاغةً تقتضي نظره إلى دليل آخر، وليس الأَمر كذلك؛ فإن صحة هذا اللسان لغةً إنما تتوقف على وجود تناسب بين المعنى الاستعمالي والمراد التفهيمي ـ كما هو شأن كل اعتبار أدبي، ولا تعلق لذلك بالنظر إلى دليل آخر- كما أن صحته بلاغةً - بمعنى النكتة المصححة للعدول إلى هذا اللسان من اللسان الصريح إنما هي الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عامّ مرتكزاً في ذهنه، ولا أهمية لوجود دليل آخر وعدمه في ذلك)[16].
ويمكن بيان وبسط كلامه  (دام ظله)   ضمن أمور:

الوجه في عدِّ الأصوليين (الإجماع) دليلاً مع انه كاشف عنه لا دليل
الأمر الأول: أنه يمكن التمثيل للنكتة البلاغية التي ذكرها بمثال يشترك معه في الروح العامة ، كما أنه مما لا يخلو من فائدة في حد ذاته ؛ وهو الوجه الذي دفع أعلام الأصوليين لعدّ (الإجماع) واعتباره من الأدلة الأربعة مع أنه ليس بدليل ولا بقسيم للأدلة الثلاثة[17]؛ فإن هذه أدلة قائمة بنفسها وهي حجة بذاتها ، أما الإجماع فغاية ما فيه أنه كاشف عن ثانيها[18] فليس حجة بنفسه؛ بل حجيته إما للدخول؛ فالحجة قول المعصوم (عليه السلام) الذي في ضمنه ؛ أو الحدس ؛ فهو كاشف عن قول المعصوم (عليه السلام)، أو اللطف؛ فهو كاشف عن حكم العقل ، وهكذا الحال في سائر المباني؛ ألا ترى أن السيرة وخبر الثقة وغيرها لم تجعل قسيماً للكتاب والسنة والعقل بأن يقال الدليل الخامس السيرة والسادس خبر الثقة... الخ ؛ إذ هي كواشف عن الدليل الذي هو السنة وقول أو فعل أو تقرير المعصوم (عليه السلام) ؛ فهي كالإجماع من هذه الجهة.
لكن الوجه في عدّ العلماء للإجماع أحد الأدلة الأربعة، هو نفس المذكور ههنا كنكتة بلاغية للعدول إلى التنزيل من الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام،  فقد استظهر بعض الأعلام أن الإجماع حيث عدّه أهل العامة من الحجج وحيث كان عندهم من البديهيات[19] كان من الصعب إنكار حجيته أو أنه كان بحاجة إلى مؤونة زائدة، فلجأ أعلام الأصول جمعاً بين حق الواقع وحق التأثير على الناس-  بل على الطرف الآخر[20] دون مصادمته مباشرة - إلى اعتباره حجة لكن لا بما هو هو كما ذهب إليه العامة، بل بما هو مشتمل على رأي المعصوم (عليه السلام) أو كاشف عنه.
الأمر الثاني: أن مورد كلامه في النكتة البلاغية لا بد أن يكون هو الحكومة التضييقية -فإن التعليل صادق عليها-  دون الحكومة التنزيلية الإثباتية وإن كان ظاهر إطلاق بعض كلامه أعم.

الوجه في العدول إلى (لا ربا...) بدل (هو ربا حلال)
وأما توضيحه: فإن قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ يمكن استثناء الربا بين الوالد والولد أو الزوج والزوجة منه، بوجهين:
الوجه الأول: أن يقول (الربا بين الوالد والولد غير محرم) لكن الكلام بهذه الصراحة يشكل مصادمة جلية لقاعدة حرمة الربا فقد تستنكرها النفوس؛ إذ كيف يقال بأن هذا النوع من الربا حلال مع ما في الربا من المفاسد العظيمة ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ﴾[21].
الوجه الثاني: أن يقال (لا ربا بين الوالد وولده) بمعنى أنه ليس من الربا موضوعاً ؛ ولذا ليس بحرام، وهذا أبلغ في الاستثناء وفي الاقناع بالحكم؛ إذ حيث عدّه لا ربا كان من الطبيعي أن لا يكون حراماً.
الأمر الثالث[22]: أن الوجه في التنزيل - في الحكومة بالتوسعة أو الحكومة التضييقية بالرفع - هو وجود نكتتين بلاغية وأدبية  هما المصححتان للتنزيل من غير أن يتوقف لسان التنزيل على النظر إلى دليل آخر أو يقتضيه لا بالمطابقة ولا بالالتزام :
أ -  أما النكتة البلاغية  فقد سبق الكلام عنها.
النكتة الأدبية في التنزيل: التناسب بين المنزّل والمنزّل عليه
ب- أما النكتة الأدبية - أو المعنوية[23] -  فهي وجود تناسب ووجه تشابه بين الـمُنزَّل والمنزَّل عليه ؛ وذلك لوضوح أن تنزيل شيء منزلة شيء (كالطواف منزلة الصلاة وزيد منزلة الأسد) إما غلط أو ركيك مخالف للحكمة إذا لم يكن هناك وجه تناسب لوحظ وجوده في الـمُنزَّل بنحو من الأنحاء كما هو موجود في المنزَّل عليه، ففي زيد لوحظت الشجاعة بأعلى درجاتها حتى كأن زيداً ممحض فيها  كما لوحظ أنها الصفة الأبرز في الأسد؛ فصحّ زيد أسد.
وأما في الطواف فلوحظ أنه الخضوع[24] كما هو في الصلاة فكأنه هي لتقوّمها بالخضوع ؛ فصح التنزيل وإن كان بلحاظ بعض الآثار، هذا وجه.
والوجه الآخر : بأن يقال إن الطواف طريق ارتباط بالخالق كالصلاة ؛ فوجب كونه طاهراً متطهراً لذلك مثلها ؛ فناسب ذلك التنزيل بهذا اللحاظ.
وكذلك في التنزيل العرفي كقوله: (قلبه حجر) ؛ فإنه  نزله منزلته ؛  لأن الحجر جامد لا يتحرك وقلب هذا جامد بلا مشاعر  ؛ فهو لا يهتز لمنظر مؤلم أو مشهد محزن أو مظهر مخزي.
وأما إذا لم يكن وجه تناسب فالتنزيل غلط أو خلاف الحكمة ركيك ؛ كقوله ( زيد جدار)  بدون أن يلاحظ أي وجه شبه أو تناسب، وهكذا.
فهذان هما المصححان للتنزيل، والواضح اقتضاء التنزيل لهما وتوقفه عليهما.

الوجه في عدم اقتضاء لسان التنزيل النظر إلى دليل آخر
ج- ولكن التنزيل لا يقتضي ولا يتوقف على النظر إلى الدليل الآخر[25] بالمطابقة ولا بالالتزام:
أما المطابقة : فواضح ؛ إذ قوله: (لا ربا بين الوالد وولده) في الرفع التنزيلي ،  و (ولد الكافر كافر) في التنزيل الإثباتي ؛  ليس موضوعاً لغةً لـ(النظر) ولا هو جزء الموضوع له ولا أن لسانه دالّ عليه مطابقةً.
وأما الالتزام[26]: فإن ذلك التنزيل لا يستلزم ولا يتوقف لا على النكتة البلاغية ولا الأدبية  ؛ وقد سبق أن قوام الحكومة بهما والنظر[27] ليس لازماً لهما ولا ملزوماً؛ وإذا كان قوام الحكومة بهما - ولم يكن النظر ملزوماً لهما ولا لازماً - فلا وجه للقول بتوقف الحكومة على النظر.
وأما عدم كونه[28] ملزوماً ولا لازماً ؛ فلأن أياً من التناسب -  بين المعنى المنزّل والمنزّل عليه ، ومن الارتكاز على الخلاف الذي يحذر المتكلم من مواجهته المباشرة-  لا يتوقف على النظر[29] ولا النظر متوقف على واحد منهما [30].

لسان التنزيل يقتضي النظر لارتكازٍ مخالف لا إلى دليل آخر
الأمر الرابع: ما ذكره بقوله: (الجهة السادسة: في اقتضاء لسان التنزيل ( وهو لسان الحكومة)  نظر الدليل إلى ارتكاز ذهني للمخاطب على خلافه - لا إلى عموم أو اطلاق -
قد ظهر مما ذكرنا أن اسلوب التنزيل - وهو لسان الحكومة باعتبار مصححه البلاغي - يقتضي نظر المتكلم إلى ارتكاز ذهني مخالف للدليل، حيث إن اختيار الاسلوب غير المباشر بالذات إنما هو لعدم مجابهة هذا الارتكاز، وذلك جرياً على النكتة العامة للاعتبارات الأدبية من اختيار الاسلوب المناسب مع مشاعر المخاطب واحساسه)[31].

دليلان على المدعى
ثم استدل على ذلك بدليلين متعاكسين:

إذا وجد العموم بلا ارتكاز مخالف، لا يصح لسان التنزيل
الدليل الأول: أن وجود الدليل من العموم أو الإطلاق لا يصحح التنزيل أبداً ما لم تكن النكتة البلاغية موجودة ، فإذا لم يكن الارتكاز على الخلاف متحققاً فلا يصح العدول عن النفي الصريح بالقول مثلاً (الربا بين الوالد وولده حلال) إلى (لا ربا بين الوالد وولده) فإنه بلا وجه بلاغي مصحح وهو غلط أو ركيك.

إذا وجد الارتكاز ولم يوجد العموم، يصح التنزيل
الدليل الثاني: -وهو عكس الأول - لو وجد الارتكاز على الخلاف[32]  فإنه يصح التنزيل بالرفع بلحاظه ؛ وإن لم  يوجد دليل عام أو مطلق أبداً - بل كان مجرد ارتكاز بلا دليل ، أو كان مستنداً إلى دليل متوهّم- فإنه حينئذٍ يعدل إلى اللسان التنزيلي حذراً من مواجهة الارتكاز الشديد على الخلاف وإن لم يكن هناك دليل لفظي على الخلاف موافقاً للارتكاز؛ فلو فرض أن ارتكاز الناس بشدة كان على حرمة الربا ولم يرد بعدُ قوله تعالى: ﴿وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ ونظائره كان الأنسب حينئذٍ إذا أراد الشارع الابتداء بتحليل الربا بين الوالد وولده أن يقول: (لا ربا بين الوالد والولد) دون (الربا بينهما جائز)؛ إذ الثاني فيه مواجهة صريحة لارتكازهم عكس الأول؛ إذ أنه لو  نفى كونه ربا موضوعاً سهل بيان جوازه حكماً.
ولذلك قال: (وبذلك يتضح بأن الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم إلى ردِّها إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب، وليس معنى متمثلاً في الأَدلّة بحسب مقام الاثبات من عموم أو اطلاق كما اشتهر لدى الأصوليين ؛ حيث قالوا إن قوام الحكومة بوجود عموم أو إطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً اليه؛ إذ يرد على ذلك:
أوّلاً: أن مصحح هذا الاسلوب كما ذكرناه في تحليل الموضوع ليس النظر إلىٰ دليل آخر، وانما إلى ارتكاز مخالف سواء كان عليه دليل من عموم أو اطلاق أو غيرهما أم لا؟ ومجرد وجود العموم أو الاطلاق لا يصحح اختيار هذا اللسان والعدول عن التعبير الصريح من قبل البليغ لأَن هذا الاسلوب اسلوب ادبي يتضمن اثبات الشيء أو نفيه تنزيلاً، والاسلوب الأَدبي انما تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب، ومجرد النظر إلى دليل آخر ليس كذلك كما هو واضح.
وثانياً: أنه يصح استعمال هذا اللسان بالبداهة اللغوية حتى فيما لم يكن هناك عموم أو إطلاق اذا كان هناك ارتكاز ذهني للعرف يخالف بعمومه مؤدى الدليل، إما من جهة تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم والموضوع أو لغير ذلك من عوامل الارتكاز الذهني)[33].

المناقشات لمبنى تقدم الحاكم لكون لسانه لسان المسالمة
وهناك بعض المناقشات والتأملات في هذا المبنى ، وهي تتوزع بين كبروية وصغروية وفنّية:

ليس موارد التنزيل هي القدر المتيقن من الحكومة
أولاً:  - صغرى-  فإنه قد يقال بأن موارد التنزيل بالنسبة للحكومة ليست هي القدر المتيقن منها ، فقد ذهب السيد اليزدي[34] إلى كون التنزيل قسيماً للحكومة كالورود والعام والخاص وكالتزاحم وقد نقلنا ذلك سابقاً.
النائيني: الأظهر من مواردها نفي الحكم
أما الميرزا النائيني فقد ذهب إلى كونها من الحكومة ، لكنه عدّ مثل (لا ضرر) وما يتطرق للحكم ولعقد الحمل مباشرة هو الأظهر من موارد الحكومة، إذن فليس التنزيل  هو القدر المتيقن بل هو خلافي مناقش فيه، فالبحث على المبنى ، فلم تصلح دعوى استكشاف خواص الحكومة التنزيلية - لتكون هي الضابط استناداً إلى أنها القدر المتيقن- مرجعاً و(أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده)[35]،  بل على المبنى فقط.

لا ضرر عنوان واسم للحكم لأنه مسبَّبه التوليدي
توضيحه: ذهب الميرزا  النائيني (قدس سره) إلى أن (لا ضرر) يعني نفي الحكم الضرري لا نفي الموضوع، فليس مفاد (لا ضرر ) أن الوضوء الضرري ليس بوضوء ، بل مفاده أنه ليس بواجب[36] ؛ إذ أنه (قدس سره) اعتبر الضرر قد أُطلق على الحكم الضرري فكأنه اسم له فهو- أي الضرر-  عنوان توليدي للحكم الضرري؛ فالمقصود بنفي الضرر نفي سببه التوليدي وهو الحكم[37].
قال الميرزا [38]: (المسلك الأول: تفسير (لا ضرر) بنفي الحكم الضرري وذلك بتقريب ذكره المحقق النائيني وتبعه عليه غير واحد، وهو: أن الضرر المنفي في الحديث عنوان ثانوي متولد من الحكم، ونسبته إليه نسبة السبب التوليدي إلى مسبّبه، كالقتل إلى قطع الرقبة والاحراق إلى الإلقاء في النار والايلام إلى الضرب ونحو ذلك.
واطلاق العناوين التوليدية على أسبابها شائع متعارف لا يحتاج إلىٰ أية عناية فيكون مجازاً، والمقام من هذا القبيل فيكون المراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم، والفرق بين هذا المسلك ومسلكنا أننا نرى أن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري بينما هذا المسلك يرى أن المنفي مباشرة هو الحكم الضرري)[39].

الحكومة إما شرح لعقد الوضع أو لعقد الحمل، والتنزيل يعود للأخير
هذا من جهة، ومن جهة أخرى عدّ الميرزا النائيني مثل لا ضرر وما يتعرض لعقد الحمل بالشرح هو الأظهر من مصاديق الحكومة، قال في قاعدة لا ضرر[40]: (هذا وهناك تقسيم اخر لموارد الحكومة يتردّد في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه وملخصه: ان الدليل الحاكم على قسمين:
١ ـ أن يكون شارحاً لعقد الوضع من الدليل المحكوم، والمراد بعقد الوضع ما يعمّ موضوع الحكم ومتعلقه كحديث (لا ربا بين الوالد والولد) بالنسبة إلى دليل حرمة الربا وفساده، فان الربا متعلق للحرمة وموضوع للفساد.
٢ ـ أن يكون شارحاً لعقد الحمل منه - وهو الحكم -  ومثّل له بـ(لا ضرر) بناءً علىٰ مختاره (قدس سره) من أن الضرر عنوان ثانوي للحكم، وقد ذكر أن هذا القسم أظهر أفراد الحكومة، لأن هدم الموضوع يرجع بالواسطة إلى التعرض للحكم)[41].
وتوضيح تعليله الأخير : أن المقصود المحور الأساس في الحكومة هو حال الحكم نفسه لأنه عليه المدار، والتنزيل يرجع إليه بالآخرة ؛ لأن الغرض نفي الحكم أو إثباته[42] - والتعرض لعقد الوضع بالتوسعة والتضييق - ما هو إلا مقدمي طريقي، ولو لم يَعُد إليه لكان لغواً  ؛ إذ التنزيل إنما هو بغرض والغرض رفع الحكم أو إثباته لهذا الموضوع الخاص؛ فظهر أن ما إليه المرجع النهائي وعليه المعول والمدار هو الأظهر من أفراد وأصناف الحكومة لا غيره.

الكلمات مضطربة
ثانياً: أن الذي يبدو أن كلماته (دام ظله) - حسب الموجود في التقرير- أنها مضطربة ؛ إذ يظهر من بعضها أنه لا يرى المدار على النظر أبداً بل على لسان المسالمة محضاً، ويظهر من بعضها الآخر أنه يرى المدار على النظر لكن لا إلى دليل آخر بل إلى الارتكاز على الخلاف، ويظهر من بعضها الثالث أنه يرى المدار على النظر إلى دليل آخر بشكل غير مباشر وعلى النظر إلى الارتكاز على الخلاف بشكل مباشر؛ فلاحظ كلماته التي صنفناها ضمن الدوائر الثلاثة الآتية:
الأولى :  قوله : (وهذا غير تام؛ لأن مبناه على أن معيار الحكومة هو النظر إلى دليل آخر. وقد سبق أن اوضحنا أن عنصر النظر لا يصلح مناطاً للحكومة لعدم اطراده في مواردها وعدم مقوميته لها؛ وإنما مناطه أن يكون لسان الدليل المحدّد للعام لسان مسالمة مع العامّ بأن لا ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما ينفيه صريحاً بل يفيد ذلك بأسلوب التنزيل والكناية، وعلى هذا المبنى لا تصدق الحكومة مع تعرض الدليل المحدّد لعقد الحمل في الدليل الآخر حقيقة -كما في مثال (لا ضرر) على هذا المسلك - لأن النفي حينئذٍ منصب على الحكم مباشرة فيكون لسانه حينئذٍ لسان المعارضة مع العام كما هو شأن التخصيص.
نعم ، إذا كان نفي الحكم نفياً تنزيلياً - كما في (رفع ما لا يعلمون) - كان ذلك من قبيل الحكومة الظاهرية كما مرّ ذلك في الجهة الثانية وهو غير مراد هنا؛ لأن المراد في المقام النفي الواقعي)[43] .
وقوله : (والاتجاه المذكور غير قادر على ذلك ، لأن لسان التنزيل لا يقتضي نظراً إلى دليل آخر أصلاً لا بالمطابقة - كما هو واضح - ولا بالالتزام ، لأَن دلالته عليه بالالتزام إنما تتم لو كانت صحة هذا اللسان لغة أو بلاغة تقتضي نظره إلى دليل آخر ، وليس الأَمر كذلك ، فإن صحة هذا اللسان لغة إنما تتوقف على وجود تناسب بين المعنى الاستعمالي والمراد التفهيمي - كما هو شأن كل اعتبار أدبي - ولا تعلق لذلك بالنظر إلى دليل آخر ، كما أن صحته بلاغة – بمعنى النكتة المصححة للعدول إلى هذا اللسان من اللسان الصريح – إنما هي الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عامّ مرتكزاً في ذهنه ولا أهمية لوجود دليل آخر وعدمه في ذلك)[44].
ويمكن إلحاق هذا الكلام الأخير بالدائرة الثانية بل لعله ظاهره ، فتدبر.
والثانية : قوله : (الجهة السادسة: في اقتضاء لسان التنزيل (وهو لسان الحكومة) نظر الدليل إلى ارتكاز ذهني للمخاطب على خلافه ، لا إلى عموم أو اطلاق...) و(وبذلك يتضح بأن الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم إلى ردِّها إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب ، وليس معنى متمثلاً في الأَدلّة بحسب مقام الاثبات من عموم أو اطلاق ، كما اشتهر لدى الأصوليين حيث قالوا إن قوام الحكومة بوجود عموم أو اطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً إليه) [45].
والثالثة:  قوله : (الوجه الثالث: ما هو المختار وهو أن اسلوب الحكومة وإن لم يكن مسوقاً للنظر إلى أي دليل آخر بل هو ناظر بالأصالة إلى ارتكاز ذهني عامّ مخالف لمؤدى الدليل لكنه ناظر بنحو غير مباشر إلى نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز المخالف، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت عموماً أو اطلاقاً، وهذه مزية دلالية تستوجب تقديمه على تلك الحجة وتحديدها به)[46].
أقول: والاضطراب- في التعبير على الأقل- ظاهر في هذه المقتطفات من كلامه .
ومع حمل بعضها على بعض فليس هذا المبنى قسيماً بل مكمل
نعم، قد يستظهر بحمل كلماته بعضها على بعض : أن قرار نظره على الثالث[47]، فإن تمّ ذلك ورد عليه أنه ليس نفياً للنظر الذي هو مبنى الشيخ والمشهور - ثم الالتزام بقسيم له وهو لسان المسالمة- بل هو إذعان بأن الملاك هو النظر لكن مع التفصيل فيه بأن النظر هو للارتكاز المخالف مباشرة، وللدليل على هذا الارتكاز - وهو العموم-  بالواسطة، ومع إضافة اشتراط أن يكون اللسان لسان المسالمة فإن لسان المسالمة مكمّل لمبنى النظر وليس قسيماً له كما يبدو من أكثر كلماته.

الوقوع في نفس الإشكال المستشكل به على المشهور
ثالثاً: أنه (دام ظله) قد وقع في نفس ما أشكل به على المشهور حيث أخذوا (الدليل الآخر) في النظر؛  فقالوا إن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي ناظراً لدليل آخر، فأشكل عليه[48] بأن الملاك هو النظر للارتكاز المخالف لا للعموم أو الإطلاق، واختار أن الملاك هو لسان المسالمة، ثم عند تعريفه لملاكه المختار قال: (فحقيقة الحكومة إنما هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه وهو اسلوب التنزيل والكناية - الذي هو اداء للمعنى بلسان غير مباشر -  كنفي الملزوم استعمالاً مع ارادة نفي ما يتوهّم لازماً له)[49].
وكان المفروض على مبناه أن يقول: (فحقيقته الحكومة إنما هي نفي الارتكاز على الخلاف بأسلوب مسالم معه) أو على مبناه الآخر وجب أن يقول: (حقيقة الحكومة نفي الارتكاز على الخلاف مباشرة ونفي العموم بالواسطة بأسلوب مسالم) أو شبه ذلك.
وسيأتي في مطلب الحيثية التعليلية والتقييدية ما يُعد وجه دفاع عنه كما يعد وجه إشكال أيضاً.

لسان المسالمة أعم من الحكومة
رابعاً: أن لسان المسالمة- الذي اعتبر مبنى بديلاً عن مبنى النظر أو الاظهرية- أعم من الحكومة؛ وذلك لأنه يشمل عدة أمور:
لشموله الورود
أولها : شموله الورود ؛ فإن الدليل الوارد يتقدم على الدليل المورود عليه بلسان المسالمة إذ لا يواجهه مباشرة بل ينفيه بنفي موضوعه، فانه هو (أن يزيل أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقةً لكن بعناية التعبد) ؛  فإذا أزاله حقيقة انتفى الحكم قهراً نظير ما قاله (دام ظله) عن الحكومة التنزيلية بفارق أنه إزالة أو تنزيل اعتباري وهنا حقيقي بمعونة الاعتبار، بل أن النكتتين اللغوية والبلاغية اللتين ذكرهما تجريان في الورود أيضاً لدى التدبر ، فتأمل.
وما لسانه لسان المانع عن المقتضي
وثانيها: شموله للأدلة التي تتطرق للمانع بالنسبة إلى الأدلة التي تتطرق للمقتضي؛ فإنها ليست بحاكمة عليها ؛ إذ لكلٍّ موضوعٌ مختلف عن الآخر تماماً لكنهما على مجموعهما يترتب الحكم؛ وذلك مع أن لسانها لسان المسالمة ؛ إذ تنفي الحكم الذي هو مقتضى[50] تلك الأدلة المقتضِية لا بنفي ما تثبته اقتضاءً بل بإثبات المانع ، فتنفي ما لو وصل من الاقتضاء إلى مرتبة الفعلية لكان حكماً لكنه- حسب المفروض- لم يصل.
والحاصل : أن قوله: (أما أوّلاً: فلأنّ كون القسم الثاني من قبيل الحكومة مبني على مبناه من أن مناط الحكومة هو النظر إلى دليل آخر، وأما على المختار من أن مناطه أن يكون لسان الدليل لسان مسالمة مع العامّ فلا يكون منها ؛ لأن لسان الدليل في هذا القسم لا محالة لسان معارضة)[51] ينطبق عليه.
وقد يمثل لذلك بما قاله الآخوند عن لا ضرر بالنسبة إلى الأدلة الأولية؛ حيث ارتآى بأنه ليس حاكماً عليها بل هو موجِد للمانع، فالأدلة الأولية - لديه (قدس سره) -  تفيد الحكم الاقتضائي ، و (لا ضرر ) وسائر العناوين الثانوية تفيد الحكم الفعلي ؛ وهو المانع عن وصول الحكم الاقتضائي إلى مرتبة التنجز.
قال في الكفاية: (أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف وفّق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما، كما هو مطرد في مثل الأدلة المتكفلة لبيان أحكام الموضوعاًت بعناوينها الأولية، مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر والإكراه والاضطرار، مما يتكفل لأحكامها بعناوينها الثانوية، حيث يقدم في مثلها الأدلة النافية، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلاً)[52].
وفي بداية الأصول: ( أنه قد تقدم من المصنف في قاعدة الضرر أن الوجه في تقدمها على الأدلة بعناوينها الأولية، هو حمل الأدلة بعناوينها الأولية على الحكم الاقتضائي، وقاعدة الضرر على نفي الحكم الفعلي لأن لسانها لسان المانع، وليس الوجه في تقدمها حكومتها على الأدلة الأولية، لأنها ليس المستفاد منها كونها مبيّنة للكميّة، بل المستفاد منها كونها من قبيل المانع عمّا تقتضيه الأدلة الأولية، سواء كان المستفاد منها رفع الحكم الذي ينشأ منه الضرر كما يراه الشيخ، أو كان المستفاد منها رفع الحكم بلسان رفع الموضوع كما يراه المصنف. فهي على كل حال المتحصّل منها هو أن الضرر بحكم المانع، فلا مناص من حمل العناوين للأدلة الأولية في مورد الضرر على الاقتضاء، فلا يكون تقدم أدلة الضرر لأجل الحكومة، لأن دليل الضرر بعد أن كان بحكم المانع لا يكون في مقام بيان الكمية للدليل الآخر. ومثله سائر الأدلة التي لسانها لسان نفي الحكم للأدلة الأولية، مثل دليل الحرج ودليل رفع الإكراه ودليل رفع الاضطرار)[53]

الحق التفصيل
وفيه: انه لأنه (قدس سره) خصَّ الحكومة بموارد كونها مبيّنة للكمية- وأما لو عمّم وهو الحق - فإنما لا يكون مثل (لا ضرر)  - وإن كان متكفلاً لحكم المانع - من الحكومة إذا كان لسان الأدلة الأولية الاقتضاء فقط؛ فيكون مثل (لا ضرر ) متكفلاً لوجود المانع ولا تدافع حتى بدوي كي يقال بالحكومة أو غيرها.
وأما إذا كان لسانها الفعلية- كما هو الظاهر- وقلنا بأن لا ضرر يتصرف في هذا اللسان بصَرفِه للناظرية - أو غيرها- إلى الاقتضاء فإنه من الحكومة، فتدبر.

لا مورد لارتكازٍ مخالف بلا دليلٍ عليه مع فرض وجود الحاكم
خامساً[54]: أنه لا يوجد ولا مورد واحد يكون فيه الارتكاز على خلاف الدليل –المفروض كونه حاكماً- من غير أن يوجد دليل عام أو مطلق على وفق ذلك الارتكاز، وبعبارة أدق: لا يوجد مورد واحد حاكماً[55] على ارتكاز مخالف من غير أن يوجد دليل على وفقه.
نعم ، قد يوجد ، بل ما أكثر ما يوجد من دليل نافٍ للارتكاز إنما الكلام في حكومته عليه ؛ فتأمل.
ثم إنه لو وجد - وقيل بالحكومة أيضاً- لما ورد على مبنى الشيخ ومن تبعه شيء؛ إذ أن كلام المشهور- بل الكل- هو في باب التعارض؛ والمراد به تعارض الدليلين لا تعارض دليل مع أمر آخر لا دليل عليه ، بل كان صرف أمر متوهم للناس، ثم إنهم استثنوا من هذا الباب الحكومة فموضوعها - حسب معقد مسألتهم - هو الدليلان المتعارضان؛ وأنه حيث كان أحدهما ناظراً للآخر - أو أظهر أو حتى مسالماً - خرج عن باب التعارض حقيقةً أو حكماً ؛ إذ لا تعارض ولو بدوي، أو معه [56] ؛ فلا يصح الإشكال عليهم بما هو خارج عن باب التعارض وباب الحكومة المصطلحة أصولياً المستثناة من التعارض موضوعاً، وإن فرض صحة إطلاق الحكومة بالمعنى اللغوي عليه ، فتأمل.
وبعبارة أخرى : غرضهم علاج التعارض بين الأدلة لا بين دليلٍ ولا دليل، أي دليل متوهم كـ(تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم والموضوع)[57] ومقصوده مع عدم وجود دليل عليها[58] كما لا يخفى.

الحيثية[59] تعليلية فينصبَّ النظر والحكومة على العام نفسه
سادساً: أن الارتكاز الذهني على الخلاف لو اجتمع مع العام أو المطلق-  مطلقاً فيما لو تمَّ الإشكال السابق ، أو في الجملة لو لم يتم- لكان حيثية تعليلية لثبوت حكومة الدليل الحاكم على العام نفسه؛ فإنه[60] المصحِّح كما صرح به وكما هو مقتضى القاعدة، والحيثية التعليلية ليست هي الموضوع بل هي علة ثبوت الحكم للموضوع فيكون الارتكاز على الخلاف في ضمن العام -المحكوم فرضاً- علة لثبوت حاكمية الدليل الحاكم على هذا العام نفسه.
ألا ترى أنه لو قال: (أكرم العلماء[61] لأنهم عدول) كان (لأنهم عدول) حيثية تعليلية لثبوت الإكرام للعلماء حقيقة ، لا أنها تنقلب إلى الموضوع نفسه.
نعم ، لو كانت الحيثية تقييدية صح ذلك ، على أنه لا يصح فيما لو كان التركيب بين الموضوع – أي الموضوع حسب ظاهر لسان الدليل – والحيثية التقييدية اتحادياً لسراية أحدهما للآخر ، بل كونه عينه عرفاً ، فتأمل.
وبعبارة أخرى: النظر للارتكاز علة لثبوت النظر إلى العام الموافق له لتضمنه له أو اندكاكه فيه عرفاً ، أو فقل الارتكاز علة لثبوت المحكومية للعام المعارض.

المدار على الغرض أو الموضوع لا خصوصيات القدر المتيقن
سابعاً [62]: كما يرد عليه كبروياً أن المقياس والمدار في دخول مسألة في علم أو باب أو خروجها عنه هو إما الغرض وإما الموضوع، وأن ما ذكره من المقياس ليس بشيء إن لم يعد إليهماـ وأما إن عاد فهما الملاك لا غير.
توضيحه: أن قوله (دام ظله) : (ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا ؛ وتوضيحه: أن لكل باب مورداً متيقناً له يكون أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده)[63].
لا يصلح مقياساً ؛ بل الأساس - في ملاك كون المسألة مسألة لهذا الباب-  هو الغرض أو الموضوع على الخلاف؛ على أن الأول[64] هو الأظهر؛ وذلك لأن القدر المتيقن من كل علم أو باب له عوارض مفارقة وأخرى لازمة كما له خواص ذاتية ؛ فلا بد من التمييز بينها وإخراج العرض المفارق وإن كان غالب الثبوت ؛ فإنه ليس ملاك كون المسألة مسألة لهذا العلم - ولا العرض اللازم، بل ولا الخصوصيات الذاتية - إلا ما كان منها هو الحامل للغرض[65] من ذلك العلم؛ فعاد الأمر للغرض؛ وذلك لوضوح أن الخصوصيات الذاتية- ومطلق ذاتي باب البرهان وما هو بمنزلته[66]- متعددة متكثرة ؛ ولا يكون منها الملاك إلا ما وقع في طريق غرض ذلك العلم وكان محققاً له؛ لوضوح تعدد الأغراض المترتبة على الأمر الواحد وتكثر الخواص فيه بلحاظها؛ ألا ترى أن (الكلمة) تقع موضوعاً في علم النحو والصرف واللغة والتفسير والبلاغة وغيرها وكلٌّ بلحاظ نوع الغرض المبحوث لأجله فيها أو الحيثية والتي مرجعها للغرض، فعاد الأمر للغرض فهو المحور الأول والأخير لا وجود خصوصية في القدر المتيقن؛ فإنه لا يعلم أنها دخيلة[67] أو لا إلا بالعلم بالغرض.
ويمكن برهنة ذلك باستعراض الأمثلة والشواهد التالية:

تحليل خصوصية (تقدم ظاهر الكتاب على الخبر المعارض)
الشاهد الأول: أن من القدر المتيقن من مسائل الأصول : تقدم ظاهر الكتاب على الخبر المعارض له بالعموم من وجه فكيف بالتباين[68] .
فإذا أردنا الرجوع إلى المنهج الجديد لاكتشاف ضابط دخول سائر المسائل - أو خروجها- لزم أن نحلل خصوصيات هذا المسألة باعتبارها القدر المتيقن؛ ولدى تحليلها قد نجد أن الخصوصية هي : وجود دليلين أحدهما الكتاب؛ ولا شك في أن هذه خصوصية لصيقة بهذا القدر المتيقن، فإذا كان كذلك لزم خروج الاستصحاب وسائر الأصول العملية عن الأصول، بل وخروج مثل خبر الثقة حجة؛ إذ أن كل واحد من تلك المسائل -الاستصحاب وخبر الثقة.. الخ-  ليس بمصداق : وجود دليلين أحدهما الكتاب.
بل ولزم خروج تعارض الخبرين عن الأصول؛ إذ ليس أحدهما الكتاب
كما أنه يمكن أن نصل بالتأمل إلى أن الخصوصية هي كون ظاهر الكتاب قطعي السند ؛ لا خصوص كونه الكتاب أو ظاهره فيلزم خروج بعض ما سبق،  وخروج أي خبر غير قطعي السند عن دائرة علم الأصول وإن عارضه نظيره[69] فيختص[70] بما لو عارض الظاهر المتواتر السند - أو المحفوف بالقرينة القطعية- مع خبر آخر.
وسر البطلان هو أن كشف الخصوصية التي بها تكون المسألة مسألة هذا العلم أو ذاك غير ممكن من دون إحراز الغرض[71] التي عليه تدور مسائل العلم، أو لا أقل من إحراز الموضوع، فحيث أحرز علم أن هذا هو القدر المتيقن منه فإذا شك في مسألة وجب الرجوع للغرض أو للكلي الطبيعي للموضوع لنرى انطباقه من عدمه، لا الخصوصية التي لا يعلم كونها هي الخصوصية التي بها تكون هذه المسألة من مسائل هذا العلم إلا بالرجوع إلى الغرض أو بثبوت الموضوع في رتبة سابقة.

تحليل خصوصية ظاهر الكتاب حجة
الشاهد الثاني: أن من القدر المتيقن من مسائل الأصول أن ظاهر الكتاب حجة بناءً على أن موضوعه ذوات الأدلة الأربعة على ما ذهب إليه في الفصول، بل حتى بناءً على أنه الأدلة الأربعة بوصف الدليلية - على ما ذهب إليه في القوانين - مما يحتاج إلى تعمّل لإدراج ما يبحث فيه عن حجية الشيء ؛ لأنه بحث عن مفاد كان التامة وعن تحقق الموضوع وهو أجنبي عن مسائل العلم بل هو من مبادئه التصديقية، وعلى أي فإن كون ظاهر الكتاب حجة مسألة أصولية مما لا شك فيها والتعريف لو لم يطابق لكان الخلل فيه وكان اللازم تأويله أو تعديله.
ثم إذا حاولنا استخراج خصوصيته -باعتباره القدر المتيقن- قد نجد أنه أحد الأمور التالية:
كونه كاشفاً عن الحكم الواقعي ، أو كونه دليلاً عليه وحجة عليه بمعنى ما يحتج به المولى على عبده؛ فيرد عليه دخول جملة من مسائل النحو والمنطق وغيرها مما يتوقف الكشف عن الحكم الواقعي عليها[72]؛ كما يرد عليه عدم دخول الأصول العملية لكونها وظائف وليست أحكاماً واقعية؛ كما يرد دخول القواعد الفقهية، فتأمل.
أو يقال: الخصوصية هي وقوعه[73] في طريق إستنباط الحكم الشرعي؛ فتخرج الأصول العملية، أو يعمّم للوظيفة والحال أنه لا يعلم مدارية الخصوصية الأولى أو الثانية أو الثالث أو الرابعة[74] إلا بالغرض؛  فعاد الأمر للغرض فهو الملاك وعليه المدار وبه الاعتبار، أو للموضوع على رأي آخر غير منصور.

تحليل خصوصية موضوع المنطق والنحو
الشاهد الثالث: أن موضوع المنطق قيل بأنه المعرف والحجة ، وقيل أنه الحجة فقط، فلو لم يحدد الموضوع في رتبة سابقة ببركة الغرض فإن فرض كون هذا قدراً متيقناً للحجة مثلاً وكشف خصوصياته لا يجدي شيئاً لطرد المعرِّف أو إدخاله بعد الشك في انه المدار أو المعرِّف، وبالعكس.
وكذا الحال في موضوع النحو الذي قيل إنه الكلمة والكلام، فتدبر.
خصوصيات القدر المتيقن مجدية في النفي خاصة
نعم، خصوصيات القدر المتيقن إنما تجدي في النفي لا الإثبات ،  أي في نفي كون هذا هو الغرض أو الموضوع، أي أننا إذا صرنا إلى أن الضابط هو هذا الغرض - أو هذا الموضوع كما سبق-  ثم وجدنا أن ما هو مسلم كونه من مسائل العلم أو الباب غير حامل لذلك الغرض المدعى[75]  فإن ذلك يكشف عن أن تحديدنا للموضوع أو الغرض كان غير صحيح؛  وبذلك يظهر عدم صحة صدر كلامه (دام ظله) وصحة ما ألحقه به وفرّعه عليه ؛ خاصة - فالذي لا يصح -  قوله (ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا وتوضيحه : أن لكل باب مورداً متيقناً له، يكون أساساً في تحليل ذلك الباب ومأخذاً لملاكه وتحديده)[76].
والذي يصح خصوص ما فرّعه بقوله: (فكل تحليل لأي باب إنما يصح - بعد تمامية تصوّره في حدّ نفسه - إذا أمكن شموله للمورد المتيقن للباب)[77].
فهذا الجزئي - النافي- بهذا المقدار صحيح ، لا ذلك الكلي المثبت والنافي، على أن (تحليل ذلك الباب) هو بتحليل غرضه وموضوعه لا بتحليل خصوصياته مع قطع النظر عنهما كما سبق، فتدبر جيداً.

لسان المسالمة لا يصلح ملاكاً بل الأظهرية هي الملاك
ثامناً: أن لسان المسالمة لا يصلح أن يكون - بما هو-  هو الملاكَ في الحكومة والتقدم بحيث يكون عليه المدار سلباً وإيجاباً، بل الملاك هو الأظهرية، وقد أوضحنا فيما مضى وجه كون الملاك الأظهرية.
ونضيف: أن اللسان لو كان لسان المسالمة ولو وجدت النكتتان اللغوية[78] والبلاغية حسب ما ذكر في هذا المبنى ولكن لم يكن الدليل رغم ذلك أظهر في مدلوله من الدليل الآخر - الذي يدعى أنه المحكوم-  لما تقدم عليه ، بل أن تساويا في الظهور تعارضا وتساقطا كأصل أولي أو تخيّر بينهما حسب الأصل الثانوي في الأخبار، وأما إن كان المدّعى كونه محكوماً أظهر تقدم على ذلك المدعى كونه حاكماً.
(أنت ومالك لأبيك) لا تنزيل فيه ولا هو حاكم
ألا ترى أن قوله (صلى الله عليه واله وسلم) : ( أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ )[79] رغم أن لسانه لسان المسالمة[80] ورغم وجود النكتتين: التناسب والارتكاز على الخلاف.
فالتناسب المصحح للقول بأنه وماله لأبيه:  هو كونه - أي الأب-  واسطة الفيض والخلق للابن والعلة المعدة لأصل وجوده؛  فناسب أن يكون مالكاً له ولأمواله أو أحق بها منه.
وأما الارتكاز على الخلاف:  فلوضوح ارتكاز الناس على خلاف ذلك ؛ إذ لا يرون الولد مملوكاً لأبيه ولا أمواله ملكاً له ولو طولياً ؛ ومع ذلك فإنه ليس حاكماً على ( لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِءٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْه ) [81] و (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) ؛ بل ولا تنزيل فيه[82]؛ بل هو مجرد تعبير تشريفي لا أكثر، فلم يكن حاكماً ولا دليلاً تنزيلياً رغم كون لسانه لسان المسالمة وتحقق النكتتين فيه، وما ذلك إلا لأنه ليس أظهر من (لا يحل... ) و(الناس مسلطون...) في مدلوله منه ، بل لعله لا ظهور له - بما اكتنفه[83]-  في التنزيل والحكومة ؛ ولذا لم يتقدم رغم كون مثل هذا التعبير ظاهراً – بنفسه – في التنزيل والحكومة.
والسر في ذلك: أن الظهور تارة يكون ذاتياً وأخرى عرضياً وقد يجتمعان فيغلب هذا ذاك أو العكس، والظهور الذاتي يراد به ما كان ناشئاً من اللفظ أو الجملة ذاتها والظهور العرضي يراد به ما كان ناشئاً من قرائن الحال والمقال ومنها فهم المشهور أو المجمع عليه أو خصوص فهم المتلقين للكلام من المحيطين بالإمام العارفين بلحن الكلام المشاهدين لقرائن الحال.
وفي المقام: فإن ظهور (لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِءٍ... )  و ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾[84] و(الناس مسلطون) كقاعدة مصطيدة أقوى من ظهور ( أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ)  في تخصيصه ولو كان بلسان التنزيل والحكومة.
أو يقال: إن المشهور - بل كافة الفقهاء - فهموا من (أنت ومالك لأبيك) التشريف، ولقرائن أخرى، وعليه فليس ظاهراً في مدلوله الأولي - وهو التنزيل-  فلم يتقدم على (لا يحل )  و لا على ( الناس مسلطون)  ولا أفاد التنزيل، بل حمل هو على خلاف ظاهره الذاتي وهو التنزيل، على أنه تشريف ؛ فثبت أن الملاك هو الأظهرية وما عداها غاية الأمر أنه علة معدة ، فتدبر.

وليس لسان المسالمة ملاكاً، بل النظر
تاسعاً[85]:  ولو عدونا عن ملاك الأظهرية[86] فإن الملاك على رأي الشيخ - ومن تبعه ولعلهم المشهور - هو النظر، والناظر يتقدم على المنظور إليه حتى لو كان بلسان المصادمة، فليس الملاك لسان المسالمة بل الناظرية ولها نوعان: الناظرية باستعمال لسان المسالمة والناظرية باستعمال لسان المصادمة؛ ألا ترى أن (لا ضرر...) - بناءً على كونه نفياً للحكم الناشئ منه الضرر كما ذهب إليه الشيخ ،  أو كونه أسماً وعنواناً للحكم الضرري كما هو رأي الميرزا النائيني باعتباره مسبباً توليدياً عنه- لسانه لسان المصادمة ؛ إذ تعرض لحال الحكم نفسه مباشرة لا لحال الموضوع على ما هو مبنى الرأي الآخر الذاهب إلى أنه نفي الحكم بلسان نفي موضوعه، ومع ذلك هو حاكم عليه؟

التناسب وارتكاز الخلاف أعم من التنزيل والحكومة والتقدم
عاشراً: أن التناسب والارتكاز على الخلاف أعم من التنزيل ومن الحكومة ومن التقدم[87]؛  فلا يصلحان نكتة للتنزيل ولا للحكومة ولا للتقدم:
أما أنه أعم من التنزيل: فإنه كذلك في الاخباريات وفي الإنشائيات؛ أما في الإخباريات فكقوله (عليه السلام) : ( يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ ) [88] فإن (لا رجال) ههنا إخبار وليس إنشاءً ؛ لظهور كون الإمام (عليه السلام) مخبراً عن حالهم بأنهم ليسوا رجالاً نظراً لعدم وجود أبرز خصائص الرجال فيهم، وليس مُنشِئاً أي ليس المراد أنه (عليه السلام) يُنزّلهم منزلة اللارجال مع أنهم رجال ؛ وعليه فلا تنزيل رغم وجود الخصيصتين.
وأما التناسب : فلمناسبة من كان حُلُمه وعقله (حُلُومُ الْأَطْفَالِ وَعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَال ) لغير الرجال.
وأما النكتة على الخلاف: فلوضوح ارتكاز أنهم رجال خاصة من كان منهم ذا قوة وسطوة أو مال وغنى وثروة، ورغم وجود النكتتين نجد أنه لا تنزيل . (وكذا لا حكومة له على الأدلة الدالة على ثبوت مختلف الأحكام الشرعية للرجال).
وأما في الإنشائيات : فكما لو قال (الربا مع الضميمة حرام) وقلنا فرضاً بشموله حتى للضميمة المعتنى بها[89] ؛ فإنه مؤكد للحكم المطلق[90] الشامل بإطلاقه حتى ما كان مع الضميمة أيضاً، فهنا نجد أنه - على هذا الفرض- لا تنزيل رغم وجود النكتتين.
أما التناسب ، فلأنه يناسب أن يجعل الربا مع الضميمة كلا ربا لكونها معتنى بها أو العكس؛ إذ يناسب أن يعتبرها ربا لكونها عرفاً كذلك.
وأما الارتكاز على الخلاف : فلأنه قد يقال إن الناس يرون الربا مع الضميمة المعتنى بها لا ربا من جهة أنه لا يحمل نفس مفاسد الربا العامة[91]؛  فقوله: (الربا مع الضميمة حرام) وإن كان فيه التناسب لكي لا يحرم وكان الارتكاز على الخلاف إلا أنه ليس من التنزيل في شيء ؛ بل هو بيان لصغرى تلك الكبرى ومؤكد لحكمها لا غير ؛ فلا تنزيل ولا حكومة ولا تقدم على (حرم الربا) أبداً، فتأمل.
وكذا لو قال (الطواف بالبيت كأنه طواف) فقد شبّه ولم ينزّل رغم وجود النكتتين ولسان المسالمة.
وأما أنه أعم من التقدم: فلما سبق من أن ملاكه الأظهرية أو الناظرية فلو وجد لسان المسالمة بدون أظهرية له في مدلوله من الدليل الآخر في مدلوله لما تقدم عليه.
وأما أنه أعم من الحكومة: فيظهر من الأمثلة السابقة أيضاً ؛ ومنها (الربا مع الضميمة حرام) فإنه ليس بحاكم وإن كان لسانه لسان المسالمة ؛ بل وإن كان ناظراً بل هو مؤكد[92]،  فتدبر[93].

--------------
* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1]  وهو الحق كما سيأتي.
[2]  بل هو صريح عبارته ص241 – 242 من  قاعدة لا ضرر .
[3]  فهذا في الحكومة التضييقية.
[4]  كتاب التعارض :ص67.
[5]  الحاكم.
[6]  كتاب التعارض: ص67-68.
[7]  في الدرس  119  قال الشيخ:  وضابط الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرضاً لحال الدليل الآخر... .
[8]  هذا حسب أحد الأقوال.
[9]  قاعدة لا ضرر ولا ضرار: ص241-242.
[10]  ولعله يأتي تحقيقه.
[11]  فإنها حكم شرعي وليست مما تقع في طريق استنباطه، حسب من أشكل في كونها من الأصول، وبحثه موكول لمظانه.
[12]  وذلك ما تخلص منه الشيخ بان السنة هل تثبت بخبر الواحد فأشكل عليه بأنه مفاد كان التامة والبحث في المسائل عن مفاد كان الناقصة وأجيب بما أجيب فنوقش، وهو الذي دعى صاحب الفصول لتغيير تعريف موضوع علم الأصول من  الأدلة الأربعة بوصف الدليلية  الذي تبناه صاحب القوانين إلى  الأدلة الأربعة بذواتها .. إلى غير ذلك، مما فصلناه في مباحث سابقة.
[13]  كما تبناه الكثير من الأعلام.
[14]  كما تبناه الآخوند.
[15]  أضفنا هذا القيد لجهة ستأتي عند مناقشة كلامه حفظه الله.
[16]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ص242.
[17]  الكتاب والسنة والعقل.
[18]  أي السنة ؛ مع فرضه كاشفاً عن الكتاب والعقل في الجملة ،فتأمل.
[19]  ولعله عند عامة الناس كذلك.
[20]  في الجملة.
[21]  سورة البقرة: آية 274.
[22]  ومن الأمور التي يتم بها بيان كلام السيد السيستاني (دام ظله) مع تصرف وإضافة.
[23]  وقد عبّر عنها باللغوية، لكن الظاهر أنه لا يطلق عليها ؛ ذلك فإنها أجنبية عن اللغة حتى لو قلنا بأن الاستعمال لولاها غلط، فتأمل.
[24]  أو أنه أكبر مظهر من مظاهر الارتباط بالله- كالصلاة- أو غير ذلك ككونه طريق تقرب إلى الله تعالى ، كما سيأتي في المتن.
[25]  وهو الذي أخذه الشيخ في تعريف الحكومة، وتبعه العديد من الأعلام.
[26]  أي الدلالة الالتزامية.
[27]  أي إلى دليل آخر.
[28]  أي التنزيل.
[29]  أي النظر إلى دليل آخر.
[30]  وهذا ما سيتضح في الأمر الرابع.
[31]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص252.
[32]  خلاف أصل الدليل الحاكم أو خلافه تحديده بحد مخالف لعموم الارتكاز.
[33]  قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص252-253.
[34]  كتاب التعارض: ص44 – 53.
[35]    قاعدة لا ضرر ولا ضرار: ص242.
[36]  مصباح الأصول: التنبيه الرابع من قاعدة لا ضرر ج2 ص542.
[37]  قاعدة لا ضرر ولا ضرار: ص263.
[38]  حسب تلخيص السيد السيستاني لكلامه .
[39]  قاعدة لا ضرر : ص160-161.
[40]  أيضاً حسب تلخيصه لرأي الميرزا النائيني.
[41]  قاعدة لا ضرر: 239.
[42]  في التوسعة والتضييق.
[43]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص264.
[44]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص242.
[45]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص252.
[46]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص260.
[47]  وإن غيرها مقيد بها، مع قطع النظر عن أن بيان المراد لا يدفع الإيراد.
[48]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص252.
[49]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ج1 ص240.
[50]  لا الذي هو معلولها.
[51]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ص239.
[52]  كفاية الأصول: ص437.
[53]  بداية الوصول: ج9 ص12.
[54]  من المناقشات والتأملات على مبنى المسالة .
[55]  يلاحظ أن مدار النفي هو كونه حاكماً، لا مجرد وجود دليل على خلاف الارتكاز العرفي إذ ما أكثره!
[56]  اللف والنشر مرتب.
[57]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار : ص 252.
[58]  على شدة التناسب.
[59]  للارتكاز على الخلاف.
[60]  الارتكاز.
[61]  أو أكرم هؤلاء العلماء، والتغيير لنكتة دقيقة فتدبر.
[62]  فيما يرد على مبنى المسالمة من النقاش والتأملات.
[63]   قاعدة لا ضرر ولا ضرار  ص242.
[64]  أي الغرض.
[65]  أو ما كان بها مصداقاً لموضوع العلم، على المسلك الآخر.
[66]  في الاعتباريات.
[67]  أي في خصوص هذا العلم، لتكون الملاك في دخول سائر المسائل فيه أو خروجها عنه.
[68]  اما الخاص فليس معارضاً وكذا الحاكم، كما سبق لذا يخصص الكتاب به أو يكون محكوماً.
[69]  خبر آخر غير قطعي السند كذلك .
[70]  كونه مسألة أصولية.
[71]  ولو إحرازاً إجمالياً.
[72]  كرفع الفاعل ونصب المفعول مما ينتج أمرين متخالفين في الاخبارات والإنشاءات كـ  (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) و ظلم أو غَبَن أو رشا زيداً عمرو أو زيد عمراً .
[73]  أي ظاهر الكتاب.
[74]  وهي الأصح.
[75]  أو غير منطبق عليه ذلك الموضوع.
[76]  قاعدة لا ضرر : ص242.
[77]  قاعدة لا ضرر : ص242.
[78]  والأدبية.
[79]  الكافي : ج5 ص135.
[80]  إذ أنه يتطرق للموضوع لا للمحمول الذي هو جواز التصرف وحرمته وشبههما.
[81]  الفصول المهمة في أصول الأئمة: ج2 ص454.
[82]  أي لا إنشاء لتنزيل الابن منزلة المملوك وأمواله منزلة أموال الأب.
[83]  ومن حيث المجموع والمحصلة النهائية والمآل.
[84]  سورة البقرة: آية 188.
[85]  من المناقشات والتأملات على مبنى المسالة .
[86]  فهذا قسيم للإشكال الثامن وليس في طوله.
[87]  أي تقدم ذوهما على الدليل الآخر.
[88]  الكافي : ج5 ص6.
[89]  بما لا يخرجه في واقعه وجوهره، لدى العقلاء، عن كونه ربا أي بما يصدق عليه رغم الضميمة أنه ربا بالحمل الشائع.
[90]  وهو حرمة الربا.
[91]  وإن كان من جهة أخرى، على العكس كما سبق.
[92]   وهذا الإشكال يمكن دمجه ببعض ما سبق ، فلاحظ.
[93]  مباحث التعارض : الدرس 138، 139، 140، 141؛ 142، 143، 144.

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : 29 صفر 1440هـ  ||  القرّاء : 6583



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net