||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 408- فائدة فقهية: حدود تصرفات المولى

 371- (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (20) التفسير العلمي للقرآن الكريم في الميزان

 235- فائدة تفسيرية: إضرار الزوج بزوجته وبالعكس على ضوء قوله تعالى: ( لا تضار والدة بولدها)

 كتاب تقليد الاعلم وحجية فتوى المفضول

 التصريح باسم الإمام علي عليه السلام في القرآن الكريم

 345- ان الانسان لفي خسر (3) مؤشرات سقوط الإنسان نحو مرتبة البهيمية

 58- فائدة علمية: انقسام العلوم الى حقيقية واعتبارية وخارجية

 306- الفوائد الأصولية: حجية الاحتمال (2)

 461- فائدة أصولية: عدم بناء الشارع منظومته التشريعية على الاحتياط

 334-(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (9) الأدلة الخمسة على وجوب الإحسان للإنسان



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 161- مفردات ومصاديق مبادئ الاستنباط (8): علم الاديان الفقهي والاصولي المقارن



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23593262

  • التاريخ : 19/03/2024 - 07:59

 
 
  • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .

        • الموضوع : 245- الاستشارية شعاع من اشعة الرحمة الالهية وضوابط وحدود الاستشارة .

245- الاستشارية شعاع من اشعة الرحمة الالهية وضوابط وحدود الاستشارة
الاربعاء 14 ربيع الاول 1438هـ





 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
(الاستشارية) شعاع من أشعة الرحمة الإلهية
والاستشارة حتى من العصاة والمعارضة
(1)
قال الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)([1])
 
الحديث حول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) مترامي الأطراف وعريض الأكناف ولكننا سوف ننطلق في هذه المباحث من منطلق هذه الآية القرآنية الشريفة لنبحث بعض ما يتعلق به صلوات الله عليهم ثم ما يتعلق بنا جميعاً في ضمن بصائر واستلهامات.
 
البصيرة الأولى: الاستشارية فرع من فروع الرحمة الإلهية
 
يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) وهذا هو المدخل وهو الذي يؤسس له الله سبحانه وتعالى لإقرار نظام الاستشارية وصولاً إلى الشورية في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([2]).
فقوله سبحانه (فَبِمَا رَحْمَةٍ) هو الأساس وهو المصدر للأحكام الثلاثة الآتية، وهو نفسه الهدف والغرض والغاية من الخلقة إذ قال تعالى (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)([3]) حسب الظاهر من ان المراد هو ان الغاية من الخلقة هي الرحمة، بل ان قوله تعالى: (لِيَعْبُدُونِ) تُعلل بالرحمة أيضاً ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([4]) فلماذا يعبدون؟ لكي يُرحموا، فالأمر يعود لهم فهذه (الرحمة) هي علة العلل لأن العبادةَ لا ينالُ اللهُ سبحانه وتعالى منها شيئاً ولا ينتفع بها إنما النفع لنا.
إذاً الرحمة هي العلة والغاية من الخِلقة وقد اسهبنا الكلام عن بعض جوانب ذلك في (فقه التعاون).
(فَاعْفُ عَنْهُمْ) (الفاء) هنا للتفريع حيث ان رحمة الله سبحانه وتعالى اقتضت ان تلين لهم: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
ومن ذلك يظهر لنا بوضوح ان استشارة الرسول (صلى الله عليه وآله) ومن ثم القادة على مر التاريخ من الناس، هي فرع من فروع رحمة الله سبحانه وتعالى وهي مما يحقق الغرض والهدف من الخِلقة الذي هو الرحمة الإلهية وانبساطها وشمولها وعمومها وتماميتها هذه ولذا جاء في الحديث "الْمَشُورَةَ مُبَارَكَةٌ"([5]) "مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَكَ وَمَنْ شَاوَرَ الرِّجَالَ شَارَكَهَا فِي عُقُولِهَا"([6]) و"الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ"([7]) و"مَنْ شَاوَرَ ذَوِي الْأَلْبَابِ دُلَّ عَلَى الصَّوَابِ"([8]).
 
موقع (ما) في (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)
 
البصيرة الثانية: تدور حول موقع (ما) في الآية الشريفة وهذه البصيرة تفتح الباب على مصراعيه للتأمل والتدبر واستنطاق الآيات القرآنية الشريفة ففي قوله تعالى: (فبما رحمة من الله) يجب ان نتدبر في موقع (ما)؟ إذ حسب القاعدة يجب أن يقال فبرحمة من الله، كما نجد في آية أخرى في الاتجاه المقابل قوله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ)([9]) والقاعدة أن يقال: فبنقضهم ميثاقهم فما هو موقع (ما)؟
المعروف نحوياً أن (ما) زائدة لكن هنا كلام آخر نؤسس له في هذا البحث، وهو السر الكامن وراء إضافة (ما) وليس زيادة (ما) حسب المصطلح النحوي.
 
أقسام (ما) الاسمية والحرفية
 
وفي تحقيق ذلك نقول: ان من المعروف ان (ما) على أقسام فتارة تكون (ما) أسمية، وتارة تكون (ما) حرفية.
 
الأقسام الأربع لـ(ما) الاسمية
 
و(ما) الأسمية بدورها على أقسام:
القسم الأول: ان تكون (ما) موصولة و(ما) الأسمية الموصولة كقوله تعالى: (مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)([10]) فهذه (ما) أسمية موصولة.
القسم الثاني: ان تكون (ما) إسمية موصوفة وهي التي تفسر بأي شيء، مثل قوله تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ)([11]) هذه الـ(ما) ليست موصولة إذ ليست بمعنى الذي يفعل الله وإنما هي موصوفة أسمية يعني أي شيء يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و(ما) الموصوفة هي التي تفسّر بشيء فتوصف.
القسم الثالث: ان تكون (ما) إسمية استفهامية مثل (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)([12]) هذه استفهامية يعني (ما) الذي يوجد في يمينك يا موسى؟.
القسم الرابع: ان تكون (ما) إسمية شرطية ومثلوا له بقوله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)([13]).
وبذلك وبما سيأتي نجد ان القرآن الكريم يكثر من استعمال (ما) على اختلاف معانيها المتشتتة في القرآن الكريم وذلك يستدعي تفكيراً وتأملاً وبصيرة كي نكتشف ما هو معنى (ما) بالضبط.
 
الأقسام الأربع لـ(ما) الحرفية
 
واما (ما) الحرفية فهي على أقسام أيضاً:
القسم الأول: أن تكون (ما) المصدرية مثل قوله تعالى (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)([14]) والمفروض ان يقال (عنتكم) أي المشقة التي تقعون فيها فان (العنت) هو أشد أنواع المشقة وأعلى درجاتها أو المرتبة الشديدة منها (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ...)([15]) وفي قراءة من أنفَسِكمُ لكن القراءة المشهور هي (من أنفُسِكُم) فلماذا لم يقل الله تعالى: عزيز عليه عنتكم، لماذا أتى بـ(ما)؟
القسم الثاني: (ما) النافية كقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)([16]) أي لا تنقفون إلا ابتغاء وجه الله فهذه (ما) نافية.
القسم الثالث: ان تكون زائدة، ولقد فسر البعض (ما) في الآية الشريفة في (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) بـ(ما) الزائدة بل ان الكثير من المفسرين قالوا ذلك ولعله ادعي عليه الإجماع وان (ما) في الآية حرفية زائدة فلا هي إسمية موصولة ولا موصوفة ولا استفهامية ولا شرطية ولا هي حرفية نافية ولا مصدرية ولا غير ذلك وإنما هي حرفية زائدة، وغاية ما فسروا الزائدة بانها قد جيء بها لتأكيد المعنى.
القسم الرابع: (ما) الكافة كقوله تعالى: ( إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ)([17]) أي تكفّ (إنّ) وغيرها عن عملها في النصب أو الجر أو ما أشبه فانه إذا لم تكن (ما) تأتي هنا لكان يقال (ان الله) بفتح لفظ الجلالة، مع ان مقتضى القاعدة الرفع الظاهري أيضاً فلذا قال (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) والحاصل: ان مقام الوحدانية والقهارية يقتضي الرفع الظاهري مطابقاً لمرتبة الثبوت الواقعي، وهذه نكتة أدبية رائعة وذلك يشكل انموذجاً من مظاهر روعة اللغة العربية وجمالها.
ولقد أكثر القرآن الكريم من استخدام مفردة (ما) كما لاحظنا ذلك في الأمثلة التي سردناها، والأمثلة القرآنية على ذلك كثيرة وهي تتوزع على أنواع (ما) الاسمية والحرفية.
 
الخلاف في موقع (ما) في الآيات والمراد منها
 
وهناك في العديد من الآيات الشريفة نقاش في موقع (ما) من الآية الكريمة وانه ما هو المراد منها؟. فمثلاً في قوله تعالى: (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ)([18]) يجري السؤال انه لماذا جاء الله بـ(ما) في وسط الآية تماماً: (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) وسنبحث ههنا عن الإجابة العامة ثم نطبق ذلك على بعض الآيات وصولاً لآيتنا الشريفة:
 
روعة الإبهام وجمال الإجمال
 
وصفوة القول هو: ان الابهام له أولاً: روعة وجمال وآخاذية وثانياً: ان الإبهام والإجمال مما يستدعي حركة الفكر ويفسح المجال لعملية الاستنباط والتكامل الفكري فانه إذا كانت العبارات كلها سطحية أو واضحة فما الفرق إذاً بين كلام الله وأي كلام آخر؟ بل ان هذا يعدّ من أعمدة الإعجاز القرآني، وتوضيحه:
 
أنواع الجمال وأقسامه
 
ان الجمال على أقسام: القسم الأول: ان يكون جمال الشيء ظاهراً بأكمله، وهذا نوع جمال.
القسم الثاني: ان يكون جماله باطناً ومستتراً بأكمله، وهذا نوع جمال آخر، وذلك كجمال أعماق البحار والشُعب المرجانية فيها مثلاً.
القسم الثالث: ان يكون جماله ظاهراً كأجمل ما يكون الجمال الظاهر ومستتراً كأجمل ما يكون الجمال المستتر فهو ظاهر – باطن وهو باطن – ظاهر، وهو ظاهر - خفي كما هو خفي - ظاهر بل هو ظاهر في خفائه وخفي في ظهوره، وهذا النوع المزيج من الجمال هو الأعذب الأروع الأشهى والأغرب وذلك من أنواع السهل الممتنع.
ولنضرب لذلك مثلاً من القرآن الكريم: قوله تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) فانها عبارة في غاية الوضوح والسلاسة وهي التي توصل الرسالة والمقصود بأوضح وأقصر عبارة لكنها في الوقت نفسه غاية في العمق والدقة كونها تختزن بحاراً من المعارف، ويكفي ان نشير إلى ان (أحَدٌ) التي استعملت بدل (واحد) تتضمن أكثر من اثني عشر معنىً هاماً قد أشارت إليها بعض الروايات وقد فصلنا الحديث عنها في (بحوث في العقيدة والسلوك).
 
منهجية دمج العمق بالسطح وجمع الظاهر بالباطن
 
وعلى هذا المنهج الغريب من المزج بين العمق والسطح والظاهر والباطن والوضوح والخفاء وسهولة التناول وصعوبته والقوة والضعف، بنى الله تعالى عالم التكوين وعالم التشريع بأكمله، (على درجات في كل ذلك):
جمالية التأليف من محكم ومتشابه
1- فالقرآن الكريم بُني على المحكم والمتشابه، ولو كان محكماً كله لكان رائعاً، ولو كان متشابهاً كله لكان رائعاً أيضاً، لكنه إذ جمع بين المتشابه والمحكم كان أكثر من الرائع وأغرب من الغريب، ومن روعته فرز المحكم عن المتشابه في نفس الوقت الذي كانا فيه متمازجين ومزجهما في عين حال فرزهما، ومن روعته أيضاً النسبة المذهلة والمعادلة الأغرب التي تتحكم في كمية وكيفية المحكمات والمتشابهات.
 
التركيبة الفريدة لبعض الأدوية
 
2- ومما يوضح ذلك المثال الآتي من عالم التكوين فان سر بعض الأدوية يكمن في (الخلطة) الخاصة والعناصر المتنوعة التي يتكون منها ذلك الدواء، بل وأكثر من ذلك يكمن السر في كمية كل عنصر بالقياس إلى سائر العناصر الدوائية بحيث لو اختلت التركيبة أدنى اختلال لكان للدواء مفعول معاكس أو كان قليل الفائدة أو عديم الفائدة تماماً.
 
ظاهر المخلوقات الساكن وباطنها النشط
 
3- ومن عالم التكوين أيضاً نجد أن عظمة الله تعالى تجلت في جمال الظاهر وعمق الباطن في شتى مخلوقاته فالأشجار والورود والثمار رائعة جميلة وكذلك السحب والنجوم ثم الأنهار والبحار والوديان والجبال وأطياف الحيوانات بتشكيلاتها الفسيفسائية المذهلة ثم لنتوقف عند الإنسان ووجهه وعينيه وبشرته و... وهنا تتجلى لنا عظمة الله تعالى على مستوى المظاهر.. ثم إذا سبرنا أغوار الباطن انكشفت لنا عوالم مذهلة: من الخلايا فالذرات ثم الإلكترون والبروتون والنواة ثم المعادلة التي تتحكم داخل كل ذرة فالإلكترون يدور مثلاً حول النواة في بعض العناصر ستة وعشرين ألف دورة بالثانية الواحدة!
وذلك كله هو أول درجة من درجات الباطن فكيف إذا وصلنا إلى عوالم الكوانتم والأمواج الكهرومغناطيسية والأشعة السينية وفوق البنفسجية وغيرها؟
 
(ما) في (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) تتحدى الذكاء
 
وفي قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) نجد ان اضافة (ما) في (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) قد اختزنت الروعة والغموض والجمال كله! فلو قال تعالى: (فبرحمة من الله) لكانت كلمة اعتيادية لكن (ما) هذه هي التي تستوقف الفكر وتتحدى الذكاء وتحرك العقل: فما هو المراد منها؟ ولماذا زيدت (بالاصطلاح النحوي) ههنا؟ وأي نوع من أنواع (ما)، هي؟ هل هي إسمية أو حرفية؟ مصدرية أو موصولة؟ أو غير ذلك.
والغريب انه من الناحية الجمالية زادت (ما) من جمالية الآية من جهة ولم تخلّ بالبساطة الظاهرية من جهة أخرى ولكنها في الوقت نفسه اختزنت باطناً عميقاً وأسراراً معرفية من جهة أخرى وذلك هو مما يتميز به كلام الخالق عن المخلوق والإعجاز عن غيره: البساطة في التعقيد والتعقيد في البساطة والظهور في البطون والبطون في الظهور في الوقت نفسه!
وكذلك الأمر في قوله تعالى: (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) فما هو معنى (ما) وما هو المراد منها ههنا؟.
 
محتملات معنى (ما) في (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ)
 
هنالك احتمالات متعددة:
الاحتمال الأول: أنها مصدرية يعني قليلاً إيمانهم بالنتيجة النهائية.
الاحتمال الثاني: انها نافية (فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ) يعني لا يؤمنون حتى قليلاً فتكون هكذا (قليلاً، ما يؤمنون) أو (ما يؤمنون قليلاً) وقد اختلف المعنى على الاحتمالين كما هو واضح إذ أين يؤمنون حتى بمقدار قليل من قليلاً إيمانهم؟.
الاحتمال الثالث: انها زائدة، وهذه هي التي يُعجِب الكثير من النحويين والمفسرين تفسيرها وغيرها به! إذ تجدهم يكثرون من قول: ان هذه الكلمة أو تلك الكلمة زائدة في القرآن الكريم فتكون على هذا: (قليلاً يؤمنون) و(ما) زائدة!
والملفت للنظر اننا عادة لا نستخدم هذا الأسلوب إلا في مواطن محدودة تعلمناها ودرجنا عليها ولعلها حكمة تعلمناها لكننا عادة لا نستخدم مثل هذا الاسلوب، أما القرآن فالغريب فيه انه بأكمله مبني على أمثال ذلك فهذا أسلوب فريد من حيث المجموع كما هو فريد في روعة الابهام وروعة الإجمال وذلك أيضاً يعد من بعض فلسفة المتشابهات فانها تفتح المجال واسعاً للفكر المعمق.
والحاصل: ان المزيج النادر الغريب من الروعة الظاهرية في مرحلة السطح ومن الدقة في العمق ومن تلك الحالة الابهامية المكتنفة بالكثير من المفردات والجمل والسياق كله، يعد من استثناءات عالم الكون كله.
 
الشعاع النوري الرابط بين الآيات غير المترابطة([19])
 
4- مثال آخر: ان ترابط الآيات هو مما يحير الألباب أيضاً، فان كيفية ترابط الآيات تشكل القمة في الإبداع والتحدي والجذابية أيضاً؛ وذلك لأن الكثير من الآيات تبدو غير مترابطة في ظاهر الأمر ولذلك عقد أعلام الفكر بحوثاً خاصة لكشف الحبل السري والخيط الخفي أو الشعاع الليزري الذي يربط الآيات ببعضها البعض وقد اكتشفوا جوانب من ذلك بعد ان بذل بعض المفسرين والمفكرين جهوداً رائعة في هذا الحقل وقد أخفق بعضهم في جانب وأفلح بعضهم في جانب آخر.
وهذا المبحث – الشعاع الرابط بين الآيات في حزمة واحدة وفي مجموع السورة وفي منظومة القرآن الكريم بأكمله – بحر لا ساحل له وهو يكتنز بحاراً من المعارف، وهي ساحة تتحدى الفكر بقوة وتفتح المجال للحراك الفكري المتألق والعميق والمتعدد الأبعاد، أما نحن فكلماتنا مترابطة فلذلك لا تحتاج إلى تفكير ولا تتحدى العقل أما القرآن الكريم فقد أتى بالمعجز: كلام ظاهره ليس بمترابط لكنه في الوقت نفسه مترابط أشد الترابط! وهذا هو من جملة ما يجعل القرآن الكريم خالداً أبدياً على مر التاريخ فانه من وجوه كونه (لا تنفذ خزائنه) فلقد مزج ظاهره بباطنه والسر بالعلن، وجعل للسر سراً ولسر السر سراً وهكذا وضمّن بعض ذلك في نسيج سياق الآيات وترابطاتها، ومن هنا فانه لا تنفذ خزائنه: بل ان ترابط بعض الآيات واضح وترابط بعضها خفي، على ان الظاهر يتضمن أنواعاً أخرى من الربط خفية!! وذلك هو قمة الحكمة وقمة العطاء وقمة الروعة أيضاً فان للإبهام العلمي روعة الإجمال واخاذيته وله أيضاً عمقه وأغواره وذلك بالضبط هو ما يستدعي التنقيب والتحقيق وتحريك الفكر والاستنباط قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ)([20]) و(مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)([21]).
 
ولكلمات المعصومين (عليهم السلام) ظاهر ومعاني كثيرة
 
5- ولقد سار رسول الأعظم وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا المنهج ولذلك قالوا: "أَنْتُمْ أَفْقَهُ النَّاسِ إِذَا عَرَفْتُمْ مَعَانِيَ كَلَامِنَا إِنَّ الْكَلِمَةَ لَتَنْصَرِفُ عَلَى وُجُوهٍ فَلَوْ شَاءَ إِنْسَانٌ لَصَرَفَ كَلَامَهُ كَيْفَ شَاءَ وَ لَا يَكْذِبُ"([22]) ولنضرب لذلك مثلاً فقوله (صلى الله عليه وآله) "لَا ضَرَرَ وَ لَا إِضْرَارَ فِي الْإِسْلَامِ"([23]) فهل (لا) ناهية؟ أو هي نافية؟ وهل هي نفي الحكم بلسان نفي الموضوع؟ أو غير ذلك؟
وبذلك أيضاً نكتشف السر وراء خلود الدين الإسلامي إذ انهم عملوا بـ"عَلَيْنَا إِلْقَاءُ الْأُصُولِ وَعَلَيْكُمُ التَّفْرِيعُ"([24]) ولقد كان من السهل جداً على الله تعالى أن يكشف لنا كل العلوم ويضعها في عقلنا منذ الولادة! هل توجد مشكلة في ذلك؟ هل هناك محذور ذاتي في أن يودع جل اسمه كل علوم الفيزياء والكيمياء والذرة والطاقة والطب والفلسفة والهندسة في أذهاننا؟ كلا لا مشكلة. ولكن الدنيا هي دنيا الامتحان والتكامل ولا يمكن أي منهما لو أعطانا الله كل شيء دفعة واحدة! ان حكمة الله سبحانه وتعالى اقتضت أن تمشي في هذه الغابة وأن تحقق بنفسك وتنقب وتدقق وتستخدم قواعد الاركيولوجيا وغيرها، والحاصل: ان عليك أنت أن تقوم بالتفريع والاستنباط والاكتشاف وهكذا وهلم جرا.
 
الروعة كل الروعة في عنصر المفاجأة
 
إن الروعة تكمن فيما تكمن في عنصر المفاجأة ولا تكون مفاجأة إذا كنت محيطاً بكل العلوم، ولسوف تفقد الحياة حينئذٍ روعتها واثارتها وتكون روتينية تماماً، والتدبر في المثال الآتي يكشف لنا ذلك بوضوح:
ان الخطيب الناجح هو الذي يبدأ بداية غير متوقعة أو يبدأ بداية لا تتوقع ماذا يريد أن يستنتج منها فهنا يكمن عنصر المفاجأة، ولكن في الاتجاه المقابل يجب أن لا يكون المنهج من أوله إلى آخر، منهج المفاجات لأنه بذلك تسقط روعة المفاجأة إضافة إلى انه يثير توتراً دائماً في الأعصاب، إنما الرائع ان يكون كلامه مزيجاً فريداً من التسلسل الطبيعي بمقدماته المنطقية التي تنتهي إلى نتائج طبيعية ثم فجأة يكشف لك وجهاً آخر لا تعرفه أو لا تعرف إلى أين يؤدي.
وكذلك الألغاز فان اللغز روعته في انه لغز ولكن لا يصح ان تتحول الحياة كلها إلى لغز أو أن يكون كلام الخطيب أو المعلم كله لغزاً لكنه إذا مزج هذا بذلك في تناسق أخّاذ فهنا تكمن الروعة والعبقرية والنبوغ.
 
الهدية مثالاً
 
بل نجد في الأمثلة العرفية شاهداً على ذلك أيضاً وذلك في الهدية التي يقدمها الناس لآبائهم أو أمهاتهم أو لأقربائهم في الأعياد الشرعية كعيد الغدير مثلاً فإن لعامل المفاجأة وقعاً محبباً في الأنفس فانها تستثير فيها حس الحبور والسرور بشكل استثنائي، ولكن ومن جهة أخرى فان من الرائع أيضاً ان يخبر أحياناً الطرفَ الآخر بانه سوف يشتري له شيئاً يحبه بشدة، فهذا له نكهة وذاك له نكهة أخرى فلا هذا يُغني عن ذاك ولا ذاك يمكن ان يُستبدل بهذا.
والحاصل: ان الحياة بناها الله سبحانه وتعالى على المزيج من النمطية ومن الإبداع وعلى الروعة في هذا التنويع والامتزاج.
والشواهد كثيرة جداً لمن راقب الحياة بعين فاحصة إذ سيجد في كل حياتنا تجليات مبهرة لهذه المعادلة: روعة الإبهام والإجمال ومدى محركيته للفكر والعقل إلى جوار روعة الأسلوب التقليدي النمطي السائد.
وعوداً إلى قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) فان الرحمة هي الفلسفة الأصلية من الخلقة إذ خلقنا الله تعالى ليرحمنا (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)([25]) والرحمة في آيتنا هي المنشأ لتشريع (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) والرسالة حتى الآن صريحة وواضحة ولكن الروعة كل الروعة أن تضم هذه اللوحة الواضحة إيهاماً وإجمالاً دقيقاً يفتح نافذة واسعة للتفكير، وهذا هو الدور الذي تؤديه (ما) بالضبط وبذلك يكون الجمع بين الوضوح والعمق وبين البساطة والتعقيد.
بل نقول: حتى الذي يقول ان (ما) زائدة في الآية، فعليه ان يفكر لماذا هي زائدة؟ أكانت زيادتها عبثاً كلا، بل هي زائدة نحوياً فقط لكن لها حكمة وجهة معنوية، وهذا بحث مترامي الأطراف ولعل الله تعالى يوفقنا للبحث عنه بشكل مستقل.
فهذه هي البصيرة الثانية في الآية الشريفة (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ).
 
هل نستشير العاصي الجاهل أو المتدين العاقل!
 
البصيرة الثالثة: وهي نظرية - عملية أيضاً وهي تدور حول محور من أهم محاور الاستشارة والمشورة وهو: من الذي نستشيره؟ هل نستشير العاقل الحكيم المتقي؟ أو نستشير الفاجر الجاهل العاصي؟ والمستفاد من الآية الشريفة – كما سيظهر – قد يبدو غريباً لأنه يناقض المرتكز في الذهن بل قد يبدو مناقضاً لما في الروايات الشريفة عن المستشار ومواصفاته، فلنبدأ أولاً ببعض الروايات الشريفة حول شروط ومواصفات المستشارين لموضوعيتها أولاً ولتكون المرشد لنا ثانياً ولكي ندرس علاقتها بالآية الشريفة ثالثاً إذ قد تتكشف لنا مفاجأة غريبة حينئذٍ. فنقول:
ان مقتضى القاعدة لدى العقلاء أن تتم استشارة الخبير المتقي لا الجاهل العاصي، إذ الاستشارة لها حدود ومن حدودها مواصفات المستشار وهذا بحث هام لعله نفرد له مجالاً آخر ولكن موجز القول فيه:
 
الاستعانة بشركات استشارية أجنبية
 
ان الاستشارة لها حدود وضوابط ولابد من دراستها بكل دقة وإلا تحولت المشورة إلى مصيدة خطيرة وكانت السبب في المفاسد العظيمة، فمثلاً الدول الإسلامية تستعين بشركات أجنبية تستشيرها بل حتى الشركات الكبرى نجد - مع الأسف – ان مستشاريهم إما من بريطانيا أو أمريكا أو روسيا أو غيرها، ولكن يجب عينا ان نستنطق الروايات لنرى الإمام ماذا يقول وأيضاً لنعرف مقتضى القاعدة؟ فهل يصح ان تستشير بريطانياً أو أمريكياً أو فرنسياً والمانياً وروسياً وشبه ذلك؟ ما الذي ينبغي أن تفعله؟.
 
مواصفات المستشار وشروطه
 
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) كما جاء في المحاسن على ما نقله عنه في سفينة البحار عن أبي عبد الله قال (عليه السلام):
"إِنَّ الْمَشُورَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بِحُدُودِهَا فَمَنْ عَرَفَهَا بِحُدُودِهَا وَ إِلَّا كَانَتْ مَضَرَّتُهَا عَلَى الْمُسْتَشِيرِ أَكْثَرَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا لَهُ:
فَأَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلًا.
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً.
وَالرَّابِعَةُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ.
فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا انْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ.
وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ"([26])
والرواية صريحة في ان الإنسان إذا أراد أن يستشير في أمر تجاري أو بناء هندسي أو في أمر عائلي في نزاع أو غيره أو في أي أمر، فعليه أن ينتخب من جمع مواصفات عديدة:
 
العقل
 
"...فَأَوَّلُهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي تُشَاوِرُهُ عَاقِلًا" فعلى الإنسان أن يختار العاقل للمشورة معه لا أن ينتخب صديقه للمشورة لمجرد أنه صديقه إذ قد يكون قليل الحكمة فليس الملاك في المشورة الصداقة بما هي صداقة بل العقل والحكمة وأن يكون المستشار عاقلاً يعرف كيف يعقل الأمور ومتى؟.
 
الحرية والتدين
 
"وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ حُرّاً مُتَدَيِّناً" وهاتان صفتان: التدين والحرية، والظاهر ان المراد بالحرية معنى عام وهو ان يكون حر النفس وليس المراد المعنى الأخص المقابل للعبودية، والحر هنا يعني المتحرر من أسر الشهوات مثلاً فانه يعطيك محض الرأي وخالص النصح، عكس العبد للأهواء والشهوات فانه إذا كانت لديه مصلحة في الرأي فانه يجر النار إلى قرصه أو قرص من يهواه لا إلى ما تقتضيه مصلحتك، وأن يكون متديناً إذ قد يكون عاقلاً ولكنه لا دين له، وهل الغربي أو الشرقي حرّ من أسر الشهوات؟ أو هو حرّ من مراعاة مصالحه الشخصية أو مصالح بلاده؟ وهل هو متدين حقاً ليحول تدينه دون خيانتك إن استطاع؟
 
الصداقة والمؤاخاة
 
"وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً" فان الصديق المواخي (لا الغريب الأجنبي) يبذل لك النصيحة حقاً وصدقاً.
إحاطة المستشار بكافة المعلومات والجهات
"وَالرَّابِعَةُ أَنْ تُطْلِعَهُ عَلَى سِرِّكَ فَيَكُونَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ بِنَفْسِكَ" ذلك ان كثيراً من ثغرات المشورة ومعايبها تعود إلى أنها كانت من طرف ليس محيطاً بأبعاد القضية وجوانبها فيشير تبعاً لذلك إشارة خاطئة، وعليه: فالمستشير يجب أن يضع الطرف الآخر في كامل الصورة بسلبياتها، وإيجابياتها وبفرصها ومخاطرها، فمثلاً: لو وقع نزاع بين أخوين أو بين عشيرتين فيجب ان تضع المستشار في كافة تفاصيل الواقعة: أسباب النزاع وسهم كل طرف من الخطأ وأبعاده الخفية الأخرى وغير ذلك وعندئذٍ سوف يكون حكمه حكماً سليماً، ولكنك لو ذكرت له أخطاء الآخر وحمّلته المسؤولية كاملة وتغافلت عن أخطائك أنت وسترتها فان حُكمه – النابع من المعلومات الناقصة أو الخاطئة – لا يكون صحيحاً.
فالرابعة أن تطلعه على سرك فيكون علمه بك كعلمك بنفسك "ثُمَّ يُسِرَّ ذَلِكَ وَيَكْتُمَهُ" فلا يفضحك أمام الناس.
"فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ عَاقِلًا انْتَفَعْتَ بِمَشُورَتِهِ.
وَإِذَا كَانَ حُرّاً مُتَدَيِّناً أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي النَّصِيحَةِ لَكَ.
وَإِذَا كَانَ صَدِيقاً مُؤَاخِياً كَتَمَ سِرَّكَ إِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا أَطْلَعْتَهُ عَلَى سِرِّكَ فَكَانَ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِكَ تَمَّتِ الْمَشُورَةُ وَكَمَلَتِ النَّصِيحَةُ"
ولكن الآية تدعو إلى استشارة العصاة فما وجه الجمع؟
فهذا هو مقتضى القاعدة إذاً (وذلك يستدعي أن تفرد له مباحث خاصة عن حدود المشورة سواء أكانت في القضايا الشخصية أم في القضايا النوعية أم في القضايا المتوسطة بينهما مثل قضايا مؤسسات المجتمع المدني وهي مجتمعات مصغرة يقودها مجلس الأمناء أو هيئة المدراء في المسجد أو الحسينية أو النقابة أو الاتحادية والاتحاد أو الحزب أو العشيرة أو غير ذلك) فهذا كله هو مقتضى القاعدة، ولكن الآية الشريفة قد يبدو منها في بادئ النظر غير ذلك، فما هو وجه التوفيق؟
فلنتدبر في الآية الشريفة من جديد لنكتشف ماذا تقول بالضبط: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (فـ) وهذه (فاء التفريع) (اعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) وهذا يعني ان تشاور في الأمر نفس أولئك الذين عفوت عنهم من العصاة! مع ان مقتضى العدل إهمال أولئك العصاة بل عقابهم (الذين عصوه (صلى الله عليه وآله) بترك مواقعهم في الجبل في معركة أُحد) ولكن مقتضى الفضل هو: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ) (لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وذلك لجهلهم ولأنهم لا توجد لديهم قابلية إذ ينفضّون من حولك لو أخذتهم بمرّ الحق وعاقبتهم على معصيتهم جهاراً، فالله برحمته منه أمرك أن تكون ليناً هيناً هشاً وبشاً وإلا كان مقتضى القاعدة في أعراف كافة الملل والنحل ان يؤدبوا ويعاقبوا ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) عفا عنهم بما لا يتصور (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) ولا يكون العفو إلا إذا كانت هناك معصية إذ لا يعقل العفو عن اللاشيء! أو هل يعقل العفو عن التقوى أو الهدى أو الاستقامة؟ كلا بل أعف عنهم إذ كانوا عصاة.
والأغرب انه تعالى أمره (صلى الله عليه وآله) في مقابل العصاة من أمته بثلاثة أوامر كلها نادرة:
أولاً: (فَاعْفُ عَنْهُمْ)، وهذا في واقع نفسك وفيما بينك وبينهم.
وثانياً: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ)، وهذا فيما بينهم وبين الله تعالى فكن أنت الوسيط لمغفرة الله تعالى لهم!.
وثالثاً: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) أي هؤلاء العصاة شاورهم!
ولقد خطر في بالي هذا الاستنباط الآنف عند التدبر في الآية الشريفة ولكن حيث انه لا يصح التفسير بما يخطر بالبال قبل مراجعة سائر الآيات والروايات والتفاسير (لاحتمال وجود قرائن منفصلة وصوارف عن الظهور البدوي) لذلك رجعت للتفاسير فتجلى الأمر بوضوح أكبر إذ ان شأن نزول الآية كان هو قضية العصاة في معركة أحد حيث ترك أولئك الرماة مواقعهم رغم تشديد النبي (صلى الله عليه وآله) عليهم أن لا يتركوا مواقعهم في ثنية الجبل أبداً ومهما حدث لكنهم تركوها طمعاً في الغنيمة، وكانت تلك معصية من أكبر المعاصي والكبائر إذ كانت السبب في قتل العشرات من المسلمين بل كاد النبي أن يُقتل وأوشك الإسلام على أن يُقتلع من الجذور، فهذا هو شأن نزول الآية (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ) مع انه كان اللازم أن يؤدبوا كلهم، ولكن النبي (صلى الله عليه وآله) عفا عنهم بأمر الله تعالى واستغفر لهم وشاورهم في الأمر.
فهذا هو المنهج النبوي الذي ينبغي عليه أن تتبعه الحكومات والمؤسسات والمجتمع كله (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) وذلك في الفتن الاجتماعية العامة أو ما يشبهها أما الإجرام الفردي فله حكم آخر.
 
وجهان للجمع
 
ووجه الجمع بين مثل هذه الآية الكريمة والروايات التي تحدد قيوداً مشددة في المستشارين، كالرواية السابقة، هو:
أولاً: التفصيل بين الاستشارة في الشأن الشخصي فانه أمر والاستشارة في الشأن النوعي فانه أمر آخر.
وثانياً: التفصيل بين استشارة الأجانب فانه محرم ومذموم، وبين استشارة عامة الناس بمن فيهم العصاة والمعارضة فانه محبوب مطلوب.
فاستشارة الأفراد في الشأن الشخصي هو موطن تلك الرواية ونظائرها من الروايات، واستشارة القائد بما هو قائد من الناس، حتى العصاة منهم، هو مورد الآية الكريمة فلو كانت لدي مشكلة مالية أو عائلية أو غير ذلك فيجب أن يكون المستشار عاقلاً حراً متديناً صديقاً صدوقاً كما هو مذكور في الرواية فتنبغي استشارة مثل هذا الشخص الكفوء لكي أعرف وجه الحق واكتشف الدرب.
اما استشارة القائد فقد تكون لها أهداف وأغراض أخرى وحسب تلك الاغراض يتحدد من تريد ان تستشيره، وقائد مثل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) لا يحتاج إلى مشورة أي شخص لأنه عالم بما كان وبما يكون وما هو كان إلى يوم القيامة، بل كانت استشارته (صلى الله عليه وآله) منهم لتطييب قلوبهم كما في الروايات والذي يستشير تطييباً للقلب فانه يستشير حتى العاصي ولا يقتصر في المشورة على الاتقياء أمثال سلمان ذلك ان سلمان ونظراؤه سواء أقال له النبي شرّق أم قال له غرّب فانه يطيع، أما ذلك العاصي الذي تتزلزل قدمه لغنيمة بسيطة فانه يحتاج إلى تطييب قلبه كي لا يستمر في غيه وشقاقه، فقد اقتضت الرحمة الإلهية أن يلين النبي (صلى الله عليه وآله) لهم، وهذا البحث ووجه الجمع هذا بركنيه يحتاج إلى عقد دراسة مستقلة عن كافة القرائن الدالة على ذلك ومناقشاتها لنرى هل تسلم من الجمع التبرعي أو لا؟، وقد نوفق لذلك لاحقاً إذا اذن الله تعالى.
يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
=========================
 
 

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الاربعاء 14 ربيع الاول 1438هـ  ||  القرّاء : 9966



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net