||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 279- فائدة أصولية: توسعة دائرة متعلّق الحكم بسعة دائرة الحكم

 52- (فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا) إستباق الخيرات هو الطريق نحو الكمالات وفلسفة التوزيع الجغرافي لأصحاب الإمام المنتظر عج في آخر الزمن

 66- (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) لماذا شرّع الله (الخمس)؟ ولماذا يعطي لذراري رسول الله (ص) فقط؟

 59- فوائد التعريف للموضوعات والمفاهيم العرفية كالبيع

 366- الفوائد الاصولية: الصحيح والأعم (9)

 280- (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) 5 الصراط المستقيم في الحجج والبراهين ورهان باسكال

 238- (الامة الواحدة) على مستوى النشأة والذات والغاية والملة والقيادة

 443- فائدة فقهية: تحديد أرش الجروح

 231- خصائص الامة في الامة: العالمية ، الكفاءة ، الكفاية ، التخصص ، التماسك ، والاخلاق

 49- مرجعية الفقيه للموضوعات الصرفة



 اقتران العلم بالعمل

 متى تصبح الأخلاق سلاحا اجتماعيا للمرأة؟

 الحريات السياسية في النظام الإسلامي

 فنّ التعامل الناجح مع الآخرين



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 قسوة القلب

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة

 177- أعلى درجات التواتر لاخبار مولد الامام القائم المنتظر ( عجل الله تعالى فرجه الشريف )



  • الأقسام : 85

  • المواضيع : 4431

  • التصفحات : 23699948

  • التاريخ : 28/03/2024 - 18:24

 
 
  • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .

        • الموضوع : 244- عبادة (الاشياء) والطوطم ـ والوجه في الجمع بين الروايات في بحث الغلو .

244- عبادة (الاشياء) والطوطم ـ والوجه في الجمع بين الروايات في بحث الغلو
الاربعاء 1 صفر 1438هـ





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
الطوطم وعبادة (الأشياء) والمقياس في حدِّ الغلو
(6)


يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([1]).
ويقول جل اسمه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([2])

عالم الأشياء وعالم الأشخاص
الحديث يدور حول محورين رئيسيين هما: عالم الأشياء وعالم الأشخاص:
المحور الأول هو (عالم الأشياء) ولهذا العالم خصوصيات: منها أن الإنسان يبدأ بالنسبة إليها، أو إلى كثير منها، بنوع ساذج من التعلقٍ سواء أكانت قناطير مقنطرة من الذهب أو الفضة أم كانت النساء أم البنين أم غيرها ثم ان هذا التعلق يشتد ويزداد ويتجذر فيتحول إلى حب ثم إلى عشقٍ وهو على درجات وقد يتطور ذلك إلى أن يتحول إلى ما يعبر عنه في العلم الحديث بالطوطمية أي يتحول محبوبه إلى طوطم ثم يتطور ذلك حتى يصل إلى مرتبة العبادة والعياذ بالله.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ)([3]) وليس ذلك الإشراب بعاملٍ قهري لا إرادي جبري قسري بل (بِكُفْرِهِمْ) فكفرهم هو السبب في ان حب العجل اشْرِبَ في قلوبهم، و(الشَّربة) تسمى الشربة لأنها تشرب الماء فانه تارة الإنسان يشرب وتارة الشيء يشرب، والإنسان تارة يشرب الماء وأخرى يشرب حب العجل أو الرياسة أو المال أو سائر الشهوات، وبعض الأطفال عندهم من البداية تعلق ببعض الماديات كهذه اللعبة أو تلك لكنهم لا يهتمون بالمال كثيراً لكن كلما مضى الزمن تجد تعلقهم – أو أكثرهم – بالمال يزداد ويشتد إذ يرى ان حاجاته تقضى به وتلبى، ثم قليلاً وقليلاً يتحول المال إلى معبود له.

التثليث الجديد: المال، المرأة والقوة!
وعلى مستوى أعلى نجد ان الحضارة الغربية حوّلت ثلاثة أمور إلى طوطم ومعبود: الأول: المال والمادة، الثاني: الجنس، والثالث: القوة والسلطة، فهذه الثلاثة هي المعبود الأول لكثير منهم وذلك هو المنهج العام الذي ساروا عليه حتى انه تقاس لديهم بقية الأمور بهذه الثلاثة وترسم السياسات على ضوئها: السلطة والمال أو الاقتصاد والمرأة والأدق: الجنس وليس المرأة بما هي إنسانة، وبكلمة: فان الحضارة الغربية تدور حول هذه الآلهة الثلاثة بدل الأب والابن وروح القدس! حتى ان (العلم) قد سخّر لذلك إلى حد بعيد!

ماذا يعني الطوطم؟
الطوطم مصطلح علمي أدخل إلى قاموس مصطلحات العلم الحديث قبل مائة سنة أو أكثر وهي مفردة مأخوذة من بعض القبائل التي كانت تستوطن في الولايات المتحدة من الهنود الحمر: والطوطم عبارة عن رمز أو صورة أو تجسيد معين فقد يكون طائر أو حيواناً أو شيئاً آخر ويعدّ مظهر القداسة لتلك القبيلة وهو الذي يحافظ – بنظرهم – على مصالح تلك القبيلة إذ يعتقدون ان فيه روحاً عليا سارية، وهذه الروح هي التي تشدّ القبيلة إلى هذا الطوطم وتربطها به، وحول الطوطم كتبت الألوف من الدراسات والتي نحن، عموماً، بعيدون عنها مع انها التي تعيد صياغة عقول العشرات من الملايين من الناس وتصنع ثقافتهم، ونحن علينا ان تكون لنا دراسات وتثقيف وتوعية حول أنواع الطوطم الخفية على الأقل.
وعلى مر التاريخ كانت الدول والشعوب تتخذ لها طواطم شتى فالهند مثلاً تتخذ البقرة كطوطم يعبدونه، وفي جنوب الهند يعدّ الجاموس هو المظهر المقدس الذي هو يرمز إلى الحفاظ على البلاد والروح السارية في البلاد، وفي أمريكا الشمالية العقاب والدب القطبي وكلب البحر هي طوطماتهم، وفي أستراليا الكنغر هو الذي يعتبرونه الطوطم الذي يلتفون حوله وهو الذي يوفّر لهم الأمن والرخاء والطمأنينة بنفس وجوده وبرمزيته ولذا يعتبرون حتى لمسه محرماً وممنوعاً، إذ كيف تلمس هذا المظهر للقدس الإلهي؟

الآلهة الداخلية: الشهرة والرياسة والمال!
اننا أحياناً نقرأ هذه القضايا كقضايا بعيدة عنا لا ترتبط بنا ونستختف بهم ونحكم بجهلهم، ولكن هل الأمر كذلك؟ كلا.. فانه إضافة إلى البعد العَقَدي والحكم الشرعي في اتخاذ شيء كطوطم، فان التدبر الفاحص في أنفسنا قد يكشف لنا ان للكثير منا (طوطماً) نتحلّق حوله ونحبه بل نعشقه بل ندور مداره ولكنه طوطم خفي بل قد يكون جلياً لنا أيضاً..
وإذا تركنا هذا المصطلح وانتقلنا إلى القرآن الكريم نجده يصرح تصريحاً مفزعاً مرعباً لمن (كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)([4]) إذ يقول جل اسمه: (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)([5]) فهذه آية قرآنية وليست مصطلحاً غربياً! ان رجل الدين وكل إنسان في أي موقع اجتماعي متميز يواجه هذا الخطر بشكل أكبر وهو: خطورة أن تتحول الأهواء كحب الرياسة وحب الشهرة إلى (إله) له يعبده من دون الله لأن (البقال) مثلاً ليس في مظان الابتلاء بحب الشهرة أو الرياسة عادة أما رجل الدين والمثقف والكاتب والصحفي ومن أشبه فانهم في مظان هذا الامتحان بشدة ذلك لأن الشهرة لها بريق والأضواء لها جاذبية، وقد لمسها هؤلاء وتحسسوها وادركوا بعض نكهتها والذي يدرك بعض نكهة الشيء فانه يجذبه إليه، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ طَالِبُ دُنْيَا وَ طَالِبُ عِلْمٍ))([6]) لماذا؟ لأن طالب العلم يدرك لذة العلم أما ذاك العامي فانه لا يعرف لذة العلم، لذلك لا يسهر الليالي لكنّ من عرف لذة العلم فانه يسهر ويحمّل جسده وروحه ومخه العناءَ والتعب لأنه أحس باللذة، واللذة قد تكون روحانية أو رحمانية وقد في تكون في الاتجاه الآخر، والعياذ بالله، شيطانية.
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)([7])؟ ان الإنسان إذا لم يراقب هذا الطوطم الداخلي (الأهواء والشهوات) فانه يتحول بالتدريج إلى إله والعياذ بالله ولذا تجد انه إذا هدد شخصٌ ما بعض أهوائه (كشهرته أو بعض رياسته) فانه ينفجر غضباً أما إذا تعرّض شخص ما إلى مبادئه فانه قد لا ينزعج ولا تثور ثائرته بنفس المقدار.
ان حب الشهرة، حب الرياسة، حب المال، حب الجمال، وحب الذكر والشرف وغير ذلك كلها تبدأ بنوع من التعلق ثم تتجذر في النفس الإنسانية بالتدريج، ولذا نرى أن كثيراً من الناس الذين ينتمون إلى حقل الدراسة الدينية يبدؤون وهم كتلة من الإخلاص والشوق للعلم ثم الخدمة والعمل الصالح، لكنّ بعضهم بعدما يرجع إلى منطقته أو قريته ويرى الناس قد التفوا حوله وقبّلوا يده فان الشيطان يبدأ بتنمية حب هذه الشهوات في ذاته وإذا بها تتحول شيئاً فشيئاً إلى إله، وكما ان بني إسرائيل اشربوا في قلوبهم العجل فان هذا الإنسان والعياذ بالله يُشرب في قلبه حب الرياسة والشهرة فهذا هو عجله الجديد: حب المال أو حب الجمال وغير ذلك.
ان عالم الأشياء من طبيعته السَّوْق نحو ذلك فان من طبيعة الأشياء ان تكون لها المغناطيسية والجاذبية وذلك لكي يمتحن الإنسان وإلا لكان كالجماد بالقياس إلى شيء آخر فأي امتحان حينئذٍ يمكن ان يحدث؟ ولعل الملائكة أو أغلبهم من هذا القبيل بالنسبة إلى الشهوات فهذا ما يبدوا وربما هناك استثناءات أو في بعض المراتب هم على درجات بالنسبة إلى بعض مراتب هذه الشهوات؛ ولذلك فان الإنسان المؤمن هو أعلى من درجة الملائكة بكثير ولذلك تكون الملائكة خدماً لهذا المؤمن لأنه عرف لذّة الجنس فعفّ ولذة المال والشهوات الأخرى فكفّ، عكس الملائكة.
قال الله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)([8]) وهذه الآية تتحدث عن عالم الأشياء والبحوث حولها كثيرة جداً، والسؤال هو من الذي زين للناس حب الشهوات وما هو المراد بهذا المفردة (زُيِّنَ لِلنَّاسِ)؟ من هو الفاعل المجهول هاهنا حيث بني الفعل للمجهول (زُيِّنَ) من هو الـمُزيِّن هل هو الله تعالى أو هو في الاتجاه المقابل الشيطان أو هو بوجهٍ الرحمن وبوجهٍ آخر الشيطان؟ أو هو أمر اخر؟ فهذا بحث، ثم التزيين كيف يكون؟ فهذا بحث آخر ولعلنا نتوقف طويلاً عند دراسة ذلك كله على ضوء الآية الكريمة: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)
هذا هو موجز القول في الفصل الأول.

بين عالم الأشخاص وعالم القيم والغيب والأفكار
أما الفصل الثاني فيدور حول عالم الأشخاص وقد بدأنا في سلسلة البحوث الماضية الكلام عن قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([9]) وأوضحنا بأن عالم الأشخاص لا ينبغي أن يكون هو المحور ولا عالم الأشياء بل يجب أن يكون (عالم القيم) هو المحور و(عالم الأفكار الصائبة) و(عالم الغيب) ثم الفتنا النظر إلى ان الله تعالى جعل مقياس هذه الثلاثة بعض الأشخاص المطهرين من كل رجس ودنس ونقص وخطأ وخطل وزلل فهم عليه السلام المقياس في عالم الأفكار والميزان والمرجع في اكتشاف سليم الأفكار من سقيمها، فعندما لا يستقل العقل بها فان المقياس في عالم الأفكار والقيم والغيب، هو أشخاص يجسدون قمة قمة القمة في الطهر والعصمة والنزاهة وفي العلم والمعرفة وفي شتى الجهات، وهم المعصومون الأربعة عشر صلوات الله وسلامه عليهم، يبتدأون برسول الله محمد صلى الله عليه واله وسلم ويختمون بالإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

مرجعية المعصومين عليهم السلام وشبهة الغلو
وذكرنا: أن المشكلة الأساسية التي قد تواجَه بها قضية مرجعية المعصومين عليهم السلام المطلقة في محور القيم ومحور الأفكار وعالم الغيب هي مشكلة (الغلو) وهذه هي إحدى أهم الشبهات المثارة على مر التاريخ فمثلاً كيف يقال: (بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء)؟ أليس هذا غلواً؟ وكيف يقال بأنهم هم واسطة الفيض؟ هذا غلو! وكيف يقال بأن علياً عليه السلام يد الله مثلاً الباسطة وعينه الناظرة وغير ذلك؟ هذا غلو! وكيف يقال: ((بِنَا فَتَحَ اللَّهُ وَبِنَا يَخْتِمُ))([10]) وكيف يقال بـ((خَلَقَكُمُ اللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ))([11]) فهذا كله غلو!
ثم ان مشكلة الغلو قسمت العالم الإسلامي خاصة العالم الشيعي إلى فريقين من العلماء على مر التاريخ وقد كانت كفة هؤلاء ترجح تارة وتكون هي الأقوى وتارة كانت كفة أولئك هي الراجحة والأقوى ولو في بعض المفردات، بل وصل الأمر إلى أن البعض من أعلامنا ذهب – حسب المنسوب إليه – إلى ان القول بعدم سهو النبي غلو مثلاً.
ولنسلط الأضواء الآن على احدى الروايات إذ تفيد بالآتي:

الخمر رجل والزِّنَا رجل!
((عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ كَتَبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام إِلَى أَبِي الْخَطَّابِ بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الزِّنَا رَجُلٌ وَأَنَّ الْخَمْرَ رَجُلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ رَجُلٌ وَالصِّيَامَ رَجُلٌ وَأَنَّ الْفَوَاحِشَ رَجُلٌ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ: إِنَّا أَصْلُ الْحَقِّ وَفُرُوعُ الْحَقِّ طَاعَةُ اللَّهِ وَعَدُوُّنَا أَصْلُ الشَّرِّ وَفُرُوعُهُمُ الْفَوَاحِشُ وَكَيْفَ يُطَاعُ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَكَيْفَ يُعْرَفُ مَنْ لَا يُطَاعُ))([12])
وقد ذهب بعض الأعلام المشاهير إلى ان ذلك من الغلو وأن هذا الروايات هي من مجعولات الرواة والغلاة ولذا نفى الإمام كلامهم ههنا إذاً المسألة ليست مسألة عادية في مفردة واحدة بل هي واسعة النطاق جداً إذ تبدأ من قضية سهو النبي إلى أن تصل إلى مختلف المفردات والمراتب التي أشرنا إلى بعضها حتى تصل إلى مثل هذا، والسؤال هو كيف نعالج هذه المشكلة العقدية الكبرى: وما هي المرجعية في حسم مادة الإشكال؟

تعريف الغلو:
والجواب هو: لا بد من تعريف الغلو أولاً فانه إذا عرّفنا الغلو تعريفاً دقيقاً وعَرِفنا المقياس فيه ظهر لنا بوضوح أن هذه المفردة غلو أو لا؟
ان (الغلو) لغوياً هو تجاوز الحدّ فعندما يقولون غالى في الثمن يعني انه تجاوز حدّه الطبيعي له أو عندما يقولون: غالت في مهرها أو مهرها غالي أو عندما يقولون: غلت الأسعار فذلك يعني تجاوزت الحدّ الطبيعي المعهود لها. وذلك هو معنى غليان الماء أيضاً فإن الماء عندما يتجاوز درجة الحرارة الطبيعية يصل إلى مرتبة الغليان فقد تجاوز الحد.
والحاصل: ان الغلو هو تجاوز الحدّ صعوداً وارتفاعاً كما ان التقصير في الاتجاه المقابل هو تجاوز الحد نزولاً انخفاضاً، فالغلو مفهوم مركب من كلمتين هما (تجاوز الحد) فإذا أردنا ان نعرّف الغلو فعلينا ان نعرّف الحدّ قبل ذلك فانكم إذا اعطيتم شخصاً أكثر من حقه وأكبر من حجمه فقد غلوتم فيه فإذا كان أحدهم مدرساً بالابتدائية وكانت معلوماته بهذا المستوى فقلت عنه بأنه من أساتذة الجامعة وانه بحر علم مثلاً فقد غلوت في حقه وكذلك إذا كان أحدهم عادلاً بالدرجة المتوسطة فقلت بان عدالته تقارب عدالة سلمان المحمدي فقد غلوت فيه، فالغلو هو أن تتجاوز الحد فلا بد من تحديد هذا الحد أولاً فإذا كان أحدهم بالفعل أستاذاً في الجامعة ثم قلت عنه انه أستاذ في الجامعة فهل كنت غالياً؟ كلا لأنك لم تتجاوز الحد في هذا الشخص، إذاً علينا أن نعرف أولاً حجم الشخص ومكانته ووزنه ومقامه فإذا أعطيناه أكثر من حجمه ووصفناه بما لم يتصف به فقد غالينا به، وبالعكس إذا وصفناه بأقل مما هو عليه فقد قصّرنا في حقه، فقد يكون وصفٌ بالنسبة إلى شخص غلواً، وبالنسبة إلى شخص آخر تقصيراً، فعمدة الأمر أن نعرف هذا الحد.

طرق معرفة حدّ الغلو والتقصير
واما طريق معرفة هذا الحدّ فانه في الجملة وفي بعض المفردات هو العقل، ومن مفرداته ما يطرح في بحث النظام الأشرف، وهو بحث فلسفي يبرهن إمكان بل وقوع ووجود مخلوق أو مخلوقات هي فوق الخيال في الفضائل والمناقب والقدرات حتى لتتضاءل أمام واقعها أكثر مفردات ما سمي غلوّاً! ولكن هذا ليس هو مدار البحث حالياً بل هو:
الطريقة الثانية: وهي الآيات الكريمة والروايات الشريفة، فان الآيات أو الروايات إذا صرحت بأن النبي صلى الله عليه واله وسلم له هذه المرتبة العظمى أو تلك فهل يكون ذلك غلواً في حقه؟ كلا أبداً فمثلاً قوله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)([13]) فانه إذا قيل في حق زيد بانه يوحى إليه وانه لا ينطق عن الهوى فانه غلو، أما إذا قيل في حق النبي صلى الله عليه واله وسلم انه يوحى إليه وانه لا ينطق عن الهوى أبداً فانه عين الواقع والحقيقة وخلافه تقصير.
والحاصل – مرة أخرى – إن تجاوز الحد هو الغلو فالحد هو الذي علينا أن نستكشفه أولاً إما من العقل عبر معادلة النظام الأشرف والأكمل وغيرها وأما من النقل فإذا ثبت لنا بالروايات المعتبرة حد من الحدود فالتزمنا به فليس ذلك من الغلو بل خلافه يكون من التقصير.

تفويض خلق العالم إلى شخص أو جهاز!
فمثلاً: هل هناك محذور عقلي في أن يكون الله سبحانه وتعالى قد فوّض – وهو مهيمن مع ذلك - خلق هذا العالم إلى شيء ما أو إلى شخص ما؟ بل حتى إلى نملة ما؟ هل يوجد محذور من ذلك؟ بان يكون الله تعالى قد خلق في البداية ملكاً من الملائكة ثم اعطاه قدرة أن يخلق العالم كله فهل هذا غلو لو كان الله قد فعله فرضاً ودل عليه الدليل المعتبر؟ أو لنفترض ان الله تعالى خلق في البداية جهازاً متطوراً جداً وأعطاه القدرة على أن يخلق كل هذه الكائنات فهل هذا غلو في حق ذلك الجهاز؟ كلا ليس غلواً ولا إشكال في حد ذاته، فإذا لم يكن هناك إشكال في حد ذاته ثبوتاً فعلينا أن ننتقل إلى مرحلة الإثبات وانه هل دّل الدليل على أن الله قد فعل ذلك؟ وأنه فوض أمر الخلائق إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم لا بمعنى عزله وغلّ يده – والعياذ بالله – بل هو جل اسمه القائم والمهيمن لكنه أعطى الرسول القدرة الطولية بأن يكون هو الخالق لما يشاء بإذن الله؟ إذا ثبت ذلك بالدليل المعتبر فلا إشكال أصلاً.
وصفوة القول: انه في مرحلة الإمكان والاحتمال فانه لا يوجد إشكال ثبوتي أبداً، إنما الإشكال هو في مرحلة الوقوع وانه هل فعل الله تعالى ذلك فعلاً؟

تأويل معاجز القرآن، لمجرد استحسان غريب!
فهل يكون من الغلو مثلاً ما قاله الله تعالى عن عيسى المسيح عليه السلام: (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ)([14])؟ كلا لأنه بإذن الله وقد دّل عليه الدليل الصحيح لكن المقاييس عندما لا تكون معروفة (وأن الحدود ينبغي أن تؤخذ من القرآن الكريم ومن الروايات) فان البعض يرى ان المقياس هو عقله القاصر فإذا سمع منقبة عظيمة اعتبرها غلواً إلى درجة انه حتى لو رأى النص الصحيح سنداً والصريح دلالة فانه يؤوله لمجرد انه (ما يخشّ بعقله)! فانظروا إلى أحدهم ماذا يقول: (وأما شفاء الأكمه والأبرص فانا اعتقد بانه رمز وليس بحقيقة)! وذلك رغم ان الآية صريحة إذ وردت بلغة عربية فصيحة ولم يستعمل الله جل اسمه مشتركاً لفظياً مثلاً! بل صرح بـ(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ).

الجواب عن شبهة صناعة الدمى الطائرة!
وقال أحدهم: (أما قوله إني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فالطين رمز للمادة المرتبطة بالأرض أي للإنسان المرتبط بعالمه المادي والطير رمز إلى السمو الروحي وعيسى المسيح الذي جاء لنقل الإنسان البسيط من عالم التراب والمادة إلى عالم الله الرحب كان في الواقع يؤدي مهمة أكثر تعقيداً من مجرد صناعة الدمى الطائرة) ولاحظوا كيف انه انتقل إلى عالم الشعارات والتهريج! وكلامه الآتي يعني ان الله تعالى إذا عمل معجزة فانه لم يحترم العقل الإنساني، وهل تجدون في كلامه هذا إلا التهريج؟ والحداثيون كثيرون منهم أساس كلامهم التهريج ولا يستند إلى منطق أو دليل فلاحظ تتمة كلامه (لكن يعني أن الله يحترم العقل الإنساني ويعطيه فرصته لكي يكتشف طريقه بقدرته وحدها بعيداً عن عالم المعجزة الغامضة) وهذا يعني ان الله تعالى إذا صنع معجزة على يد واحد من أنبياءه أو خلقه فانه لم يحترم كبرياء الإنسان ولا كرامته بل عليه ان يترك له شرف اكتشاف الحقيقة بنفسه دون أن يعمد إلى شلّه بمظاهر المعجزة الخارقة إلى كلماته الأخرى والتي لا تندرج في دائرة البرهان أبداً.
والجواب هو: أولاً: إذا فتح هذا الباب فهل يستقر حجر على حجر أم لا تبقى آية إلا وفُتح الباب لتحريفها عن دلالتها الصريحة، بمجرد استحسان ذوقي خاص؟
وثانياً: كيف يجعل عقله هو المقياس والحَكَم في ليّ عنق النصوص مع انه يعلم بان عقله محكوم، إلى حد كبير، بالخلفيات الذهنية والنفسية والتاريخية؟
وثالثاً: يعني ذلك إبطال كافة معاجز الأنبياء التي ملأت القرآن الكريم والروايات الشريفة والتي أجمعت على أصولها الكتب السماوية كلها كتكلم نملة سليمان والهدهد وغير ذلك، بل حتى إنكار الإسراء والمعراج بدعوى انه معراج روحي – فكري فقط!
ورابعاً: تلزم من ذلك الفوضى المعرفية الشاملة والهرج والمرج العلمي إذا جاز لكل أحد ان يفسر القرآن وسائر النصوص على حسب ما يستحسنه عقله، إذ سيفسره كل بطريقته!([15])

الفرق بين (العقل) وبين (عقلي)
إذاً علينا أن نرجع إلى المقاييس والمقياس هو (تجاوز الحد) فإذا كان هذا هو الحد فالأكثر منه هو الغلو والأقل منه هو التقصير، والغريب انك تجد في بعض كلمات فقهائنا تعبيرات مشابهة إذ يقول في معرض رده لرواية صحيحة سنداً لديه: ان هذا مما لا يتحمله العقل؟ وهنا نسأل: هل يلزم التناقض أم الدور أم التسلسل؟ وكم فرق بين (العقل) وبين (عقلي) أي منسوباً إليه بما هو إنسان مؤلّف من نفس وروح وعقل وقوة شهوية وغضبية وانفعالات نفسانية عن الأجواء الخارجية؛ ولذا ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ))([16]) وورد ((تِلْكَ النَّكْرَاءُ تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ وَ هِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَ لَيْسَتْ بِالْعَقْلِ))([17]) فكثيراً ما يلتبس على المرء حكم (عقله) بحكم (العقل) إذ قد يكون ذلك حكم معلوماته المتراكمة لديه لا حكم العقل أو يكون حكم قوة أخرى كما فصّلناه في كتاب (الضوابط والمقدمات الكلية لضمان الإصابة في الأحكام العقلية) وفي بعض مباحث الخارج أيضاً، وكما سبق فقد ردّ بعض الأعاظم بعض الصحاح من الروايات بهذا العنوان بانه هل يعقل ان يقول الإمام هذا الكلام؟ لماذا لا يعقل؟ فهل هذا العقل بخلفياته ومحدوديته محيط بكل الكون وبأسراره وخفاياه؟ وهل أحاط بعظمة المعصومين عليه السلام؟ هل هو محيط حتى يقول لا يعقل ذلك؟ ثم نقول: حسناً، فيجب علينا أن نرجع إلى الحد نفسه حتى نعرف ان هذا غلو أو ليس بغلو ومن ههنا نرجع إلى التدبر والتفكر في الروايات الأخرى المعارضة ظاهراً لروايتنا السابقة كنموذج على ما أسسناه ههنا: وهذه الروايات بعضها معتبرة وهي مستفيضة بل متواترة تواتراً إجمالياً وهي من الروايات الموجودة في أصح كتبنا أمثال الكافي الشريف وبصائر الدرجات وغيرها.

هل القرآن يتكلم؟ وهل الصلاة تتكلم؟
فقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام كما في الكافي الشريف:
((قَالَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا أَبَا جَعْفَرٍ وَهَلْ يَتَكَلَّمُ الْقُرْآنُ؟ فَتَبَسَّمَ ثُمَّ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ شِيعَتِنَا إِنَّهُمْ أَهْلُ تَسْلِيمٍ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا سَعْدُ وَالصَّلَاةُ تَتَكَلَّمُ وَلَهَا صُورَةٌ وَخَلْقٌ تَأْمُرُ وَتَنْهَى، قَالَ سَعْدٌ: فَتَغَيَّرَ لِذَلِكَ لَوْنِي وَقُلْتُ هَذَا شَيْ‏ءٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنَا أَتَكَلَّمُ بِهِ فِي النَّاسِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام: وَهَلِ النَّاسُ إِلَّا شِيعَتُنَا فَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الصَّلَاةَ فَقَدْ أَنْكَرَ حَقَّنَا، ثُمَّ قَالَ يَا سَعْدُ أُسْمِعُكَ كَلَامَ الْقُرْآنِ! قَالَ سَعْدٌ: فَقُلْتُ بَلَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)([18]) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فَالنَّهْيُ كَلَامٌ وَالْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ رِجَالٌ وَنَحْنُ ذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْنُ أَكْبَرُ))([19])
فلاحظ قوله عليه السلام: ((رَحِمَ اللَّهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ شِيعَتِنَا إِنَّهُمْ أَهْلُ تَسْلِيمٍ)) نعم الضعفاء يسلمون أما الأقوياء فلا ولكن كيف؟ لأن الضعفاء يعترفون بضعفهم فيسلمون فهذه فضيلة لهم إذ إذا كان ضعيفاً في العلم فعليه أن يسلم للعالم أو الأعلم كما أنك تسلم نفسك إلى الطبيب مادامت تثق فيه إذ إما أن تكون مجتهداً أو تكون مقلداً أما الأقوياء فيطغيهم الغرور والعجب إذ يعتبرون (عقولهم) القمة والمرجع والحَكَم في كل شيء ولكن من منّا يعلم معادلات عالم الغيب؟ فإذا لم يكن المرء يعرف موازين عالم الغيب فكيف ينكره لمجرد قوله ان (عقلي لا يتحمل)؟، وقوله عليه السلام: ((رَحِمَ اللَّهُ الضُّعَفَاءَ مِنْ شِيعَتِنَا إِنَّهُمْ أَهْلُ تَسْلِيمٍ ))يتضمن نكتة لطيفة وهي ان الضعف يلازم التسليم إذا كان من الشيعة (الضعفاء من الشيعة) أما إذا كان واعياً فاهماً فهو مذعن بإقتناع واجتهاد وليس بصرف التسليم، وليست القضية مانعة جمع، (( ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ يَا سَعْدُ وَالصَّلَاةُ تَتَكَلَّمُ وَلَهَا صُورَةٌ وَخَلْقٌ تَأْمُرُ وَتَنْهَى... ثُمَّ قَالَ عليه السلام: يَا سَعْدُ أُسْمِعُكَ كَلَامَ الْقُرْآنِ! قَالَ سَعْدٌ: فَقُلْتُ بَلَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ فَقَالَ: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ)([20]) وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فَالنَّهْيُ كَلَامٌ وَالْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ رِجَالٌ وَنَحْنُ ذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْنُ أَكْبَرُ)).

كيف تتكلم الصلاة؟ وهل رسول الله أكبر من ذكر الله؟
نعم الصلاة تتكلم وليس انها بلسان حالها تنهى فقط وان هذا تعبير مجازي بل الآية ظاهرها أنها تنهى بوعي وإدراك إذ الأصل في الأفعال كونها قصدية، ولا يأبى العلم الحديث عن ذلك إذ أحكام الطاقة غير أحكام المادة والصلاة نوع من الطاقة وأي محذور عقلي في ان الطاقة تتكلم؟ ما هو الإشكال؟ أليس الصوت نوعاً من الطاقة؟ ((فَالنَّهْيُ كَلَامٌ وَالْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ رِجَالٌ وَنَحْنُ ذِكْرُ اللَّهِ وَنَحْنُ أَكْبَرُ)) يقول كيف يعقل ذلك؟ ونقول: ما هو الإشكال في ذلك؟ ان ذِكر الله هو قولك (سبحان الله) وهو مذكّر بالله فما هو الإشكال بان يكون رسول صلى الله عليه واله وسلم أكبر عند الله من قولك سبحان الله؟ فهل في ذلك إشكال عقلي؟ ان سبحان الله هو ذكر لله وليس هو الله نفسه، وسبحان الله يعني أنزّه الله فقولك سبحان الله ذكر لله ورسول الله صلى الله عليه واله وسلم ذِكر لله ومذكر به وهذا الذكر أكبر من ذاك، ورسول الله تنزيه وتسبيح عملي لله تعالى فهو أكبر من مجرد التنزيه القولي فهل هناك محذور عقلي؟ بل وكما وجدنا فانه المطابق لإدراك العقل تماماً، والآية الشريفة الأخرى تصرح بـ(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)([21]) فقد فسرت الذكر برسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأين الغلو في ذلك؟ نعم لا بد من أن يدل دليل على ذلك والروايات هي الدليل، ولكن ليس من الصحيح علمياً ولا عقلياً ولا شرعياً إذا سمع الإنسان رواية يستبعدها عقله المحدود، ان يرميها بالشذوذ والضعف.

شاهد الجمع من الروايات: التنزيل والتأويل
الرواية الثانية الموجودة في الكافي الشريف والغيبة للنعماني وغيرهما عن الإمام الكاظم عليه السلام في قوله تعالى: (( (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) قَالَ فَقَالَ إِنَّ الْقُرْآنَ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ فَجَمِيعُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْجَوْرِ وَجَمِيعُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَقِّ))([22]) فهذا معنى موضح لذلك المعنى وليس نافياً إذ الرواية هذه تفسر ذلك بمعادلة التفسير والتأويل والظهر والبطن (( وَجَمِيعُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَقِّ)) وهنا نقرأ كلمة للعلامة المجلسي ثم بعد ذلك نرجع إلى تلك الرواية لنكتشف ان بعض الفقهاء إنما رماها بالغلو لغفلته عن وجود روايات أخرى بمضمونها وان لها تفسيراً صحيحاً وهو ان هذه الروايات هي من التأويل وليست من التفسير وهي مكمّلة وليست بديلة عن المعنى الظاهر، العلامة المجلسي يقول: (ولكن أفرط بعض المتكلمين والمحدثين في الغلو لقصورهم عن معرفة الأئمة عليه السلام وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم فقدحوا في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات)‏، يقولون هذا غريب! ونقول: ان عقولهم غريبة! عقولهم محدودة ثم يجعلونها الحَكَم على عالم الغيب قال تعالى: (بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ)([23]) فمثلاً إذا نقل لكم ثقة خبير بان البطل الفلاني استطاع ان يحمل من الأثقال مقدار ألف كيلو فانكم قد تكذبون الخبر وتقولون غريب! إذ الإنسان لا يستطيع أن يحمل أكثر من 200 كيلو أو حتى 400 كيلو مثلاً ولكن إذا كان الله قد خلق بدنه بهذا الطاقة الكبيرة بشكل استثنائي ودلّ الدليل على ذلك فهل هناك مجال للتكذيب؟ ان كونه غريباً لا يعني عدم وقوعه، ان كونه غريباً أعم من عدم وقوعه و(كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان حتى يذود قائم البرهان)
إذاً قد يكون إنجاز ما بقياس عقلي وطاقاتي وقدراتي غير ممكن ولكنه يكون بالقياس إلى شخص آخر ممكناً وواقعاً و(نحن أبناء الدليل إينما مال نميل)
ولقد قدح جمع في كثير من الرواة الثقات لنقلهم بعض غرائب المعجزات حتى قال بعض: ان من الغلو نفي السهو عنهم عليهم السلام أو من الغلو القول بانهم يعلمون ما كان وما يكون وغير ذلك، مع أنه قد وردت أخبار كثيرة متنوعة تفيد ان مقاماتهم أعلى من مستوى عقولنا المحدودة، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: ((لَا تَتَجَاوَزُوا بِنَا الْعُبُودِيَّةَ ثُمَّ قُولُوا مَا شِئْتُمْ وَلَنْ تَبْلُغُوا))‏([24]) وورد ((إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إِلَّا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أَوْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ أَوْ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ))([25]) وورد ((وَاللَّهِ لَوْ عَلِمَ أَبُو ذَرٍّ مَا فِي قَلْبِ سَلْمَانَ لَقَتَلَهُ))([26]) إلى غير ذلك مما مر وسيأتي فلا بد للمؤمن المتدين بل والعاقل أيضاً ان لا ينفي شيئاً لا يعرف حدوده أبداً، والعلم الحديث أثبت بعض غرائب الحقائق في الحفر السوداء وفي نسبية الزمان وفي عالم الكوانتم وغيرها ولا يصح ان أنفي أمراً بمجرد ان استغربه بل غاية الأمر ان تقول: لا افهم ذلك بل قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا( يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا)([27]) وقال: (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)([28]) هكذا فلا بد للمؤمن المتدين أن لا يسارع إلى ردّ ما ورد عنهم من فضائلهم ومعجزاتهم ومعالي أمورهم إلا إذا ثبت خلافه بضرورة الدين أو بقواطع البراهين أو بالآيات المحكمة أو بالأخبار المتواترة.
ولنرجع الآن مرة أخرى إلى تلك الرواية وقد سبق ان بعض الاعلام لاحظ هذا الرواية واستند إليها لنفي هذا المضمون لكنه لم يلاحظ الروايات الأخرى الكثيرة المعارضة لها ولم يبحث عن وجه الجمع بينها بل سارع إلى نفي ذلك المضمون بهذه الرواية الواحدة!

فقه رواية (الخمر رجل، الصلاة رجل، وليس هو كما تقول)
في مختصر بصائر الدرجات في النوادر (كتب أبو عبد الله عليه السلام إلى أبي الخطاب) وهو مِن الغلاة والمشكلة من هنا نشأت أي ان ما هو غير واقع صوّروه على انه الواقع فضيعوا على الناس الواقع ((بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الزِّنَا رَجُلٌ وَأَنَّ الْخَمْرَ رَجُلٌ)) بعض الفقهاء قال عن هذا بانه غلو، وغفل عن وجود روايات كثيرة معتبرة تؤكد هذا المعنى وتفسره بأفضل وجه؟ ((بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الزِّنَا رَجُلٌ وَأَنَّ الْخَمْرَ رَجُلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ رَجُلٌ وَالصِّيَامَ رَجُلٌ)) يعني الإمام ينقل عن ابن الخطاب (هذا الزعم والقول) وهنا موطن الشاهد (( وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ: إِنَّا أَصْلُ الْحَقِّ وَفُرُوعُ الْحَقِّ طَاعَةُ اللَّهِ، وَعَدُوُّنَا أَصْلُ الشَّرِّ وَفُرُوعُهُمُ الْفَوَاحِشُ، وَكَيْفَ يُطَاعُ مَنْ لَا يُعْرَفُ وَكَيْفَ يُعْرَفُ مَنْ لَا يُطَاعُ)) ونحن الآن وهذه الرواية، والرواية ظاهرها بل هي صريحة إذ الإمام يقول ((وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ)) فماذا نصنع بسائر الروايات الأخرى الواردة عنهم التي هي أكثر عدداً واعتباراً من هذا الرواية؟ ان المقياس هو نفس المقياس العام في تعارض الروايات، فان تلك هي مجموعة روايات كثيرة قرأنا بعضها والإمام يصرح في بعضها بـ: ((فَجَمِيعُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْجَوْرِ وَجَمِيعُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَقِّ)) والرواية الأخرى التي قرأناها ((فَالنَّهْيُ كَلَامٌ وَالْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ رِجَالٌ))، إذاً تلك الرواية تنفي وهذه الروايات تثبت، والفقيه ينبغي أن لا يلاحظ الرواية الواحدة بل عليه أن يلاحظ كل الروايات وان يبحث عن وجه الجمع الدلالي بينها فإذا عجز رجع إلى المرجحات السندية (علماً بان الترجيح سنداً هو لهذه الروايات المستفيضة) والجمع الدلالي واضح وهو ان الرواية النافية تنفي الظهر والتنزيل، والروايات المثبتة تثبت البطن والتأويل، وبعضها صريح في وجه الجمع هذا، فليس جمعاً تبرعياً أبداً وتوضيحه:
إنه تارة يكون الكلام عن التفسير وتارة أخرى يكون عن التأويل فاننا إذا فسرنا (أَقِمِ الصَّلاَةَ) بعلي بن أبي طالب أي عليك ان تتولّاه ولا تجب عليك إقامة الصلاة، فهذا غلط، وأبو الخطاب ما الذي كان يريد أن يصنع؟ كان يريد أن يسقط كل العبادات من صلاة وصوم والحج، عن الوجوب ولزوم الاتباع والاطاعة والامتثال فما هو الطريق لذلك؟ الطريق هو دعوى التفسير وان تفسير هذه الآية هو كذا فهذا هو الطريق الشيطاني فكان يقول بانه عندما يقول الله تعالى (أَقِمِ الصَّلاَةَ) فان الصلاة اسم لعلي بن أبي طالب فهو ينفي وجوب الصلاة، والإمام ينفي هذا النفي أي انه عليه السلام ينفي التفسير ولا ينفي التأويل، والتأويل لا يضاد التفسير بل يكمّله، والتفسير هو تجب عليك الصلاة وهي العبادة المفروضة التي أولها التكبير واخرها التسليم ولكن التأويل يقول: ولها أيضاً معنى باطن ولا مانعة جمع بين المعنيين فهو مثبت لمعنى إضافي في مرحلة البطن وليس نافياً للمعنى التفسيري في مرحلة الظهر فما أثبته هو غير ما نفاه ذاك وما نفاه هو غير ما أثبته.
والشاهد على هذا الجمع موجود في الروايات نفسها إذ الإمام يقول عليه السلام: ((إِنَّ الْقُرْآنَ لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ)) فهذا الظاهر موجود ومراد والإمام يؤكد انه موجود ومراد ولكن الباطن أيضاً موجود ومراد ((فَجَمِيعُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الظَّاهِرُ)) وليس على ما قاله أبو الخطاب من انه ليس المقصود بحرمة الخمر والزنا هو حرمتهما بل المقصود ان إتباع كلام أبي بكر وعمر هو الحرام وأما ان يزني ذاك البعيد فلا حرمة فيه! الإمام ينفي هذا المدعى الباطل أي ينفي التفسير لهذه الروايات والآيات ولا ينفي التأويل إذ يصرح ((فَجَمِيعُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الظَّاهِرُ)) فكما هو في الظاهر لا يجوز أن تنفيه كما فعل أبو الخطاب ((وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْجَوْرِ وَجَمِيعُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ مِنْ ذَلِكَ أَئِمَّةُ الْحَقِّ)) إلى آخر كلامه عليه السلام.
ومرة أخرى نرجع إلى كلام أبي الخطاب فما الذي قاله: (( بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الزِّنَا رَجُلٌ وَأَنَّ الْخَمْرَ رَجُلٌ)) فالخمر رجل كتفسير عنده وليس كتأويل إذاً فالخمر ليس محرماً بل ذلك الرجل (أي الثاني مثلاً) اجتنابه هو الواجب والابتعاد عنه هو الواجب ((بَلَغَنِي أَنَّكَ تَزْعُمُ أَنَّ الزِّنَا رَجُلٌ وَأَنَّ الْخَمْرَ رَجُلٌ وَأَنَّ الصَّلَاةَ رَجُلٌ وَالصِّيَامَ رَجُلٌ وَأَنَّ الْفَوَاحِشَ رَجُلٌ، وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ)) فماذا كان يقول؟ كان يقول بالتفسير وليس بالتأويل، وعندما نلاحظ التاريخ نجده يشهد بذلك أيضاً، فهؤلاء الغلاة هكذا كانوا، كانوا يقولون بالتفسير ((وَلَيْسَ هُوَ كَمَا تَقُولُ))
والشاهد الآخر في الرواية هو قوله: ((إِنَّا أَصْلُ الْحَقِّ وَفُرُوعُ الْحَقِّ طَاعَةُ اللَّهِ)) فهذا أعظم من ذاك! يعني ان الإمام هو الأصل والصلاة هي الفرع! فهذا أعظم من كون الإمام هو الصلاة! وإذا كان المتمسك بهذه الرواية يتمسك بها لنفي الغلو فانها على العكس تثبت ما هو – عنده – أعظم من هذا الغلو! ان الإمام يقول: ((إِنَّا أَصْلُ الْحَقِّ وَفُرُوعُ الْحَقِّ طَاعَةُ اللَّهِ)) وطاعة الله هي الصلاة والصوم والجهاد فهذه كلها فروع ونحن الأصل، ((وَعَدُوُّنَا أَصْلُ الشَّرِّ وَفُرُوعُهُمُ الْفَوَاحِشُ)) كل زنا في الكون يحدث فهو من فروع من أولئك الطغاة الذين كانوا (وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ...)([29]) و(وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ)([30]).

من المعاصي تصغير عصيان الله تعالى، وتحقير الفقه والفقهاء
ولنختم برواية أخرى وهي رواية مفيدة وتؤكد ما قلناه، يقول الإمام الصادق عليه السلام: ((لَعَنَ اللَّهُ الْغُلَاةَ وَالْمُفَوِّضَةَ فَإِنَّهُمْ صَغَّرُوا عِصْيَانَ اللَّهِ وَكَفَرُوا بِهِ وَأَشْرَكُوا وَضَلُّوا وَأَضَلُّوا فِرَاراً مِنْ إِقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَأَدَاءِ الْحُقُوقِ))([31]) لاحظوا ما هو الغلو؟ فراراً من إقامة الفرائض وأداء الحقوق! فلكي يفر من أداء الفرائض والحقوق قال: (الصلاة رجل) وذلك صحيح والكثير من الروايات تؤكده لكنه لوى عنقها وقال مقصود الإمام من الصلاة رجل يعني في تفسيرها انها رجل فالصلاة غير واجبة إذاً.
وهناك الآن عندنا، ومع الأسف، بعض من يدعي العلم ولم يؤتَ حظاً منه هو هكذا: يصغّر الأحكام الشرعية في كلامه فتراه مثلاً يقول بان المهم معرفة أهل البيت (عليهم السلام) ومعارفهم، وأما الصلاة والحج وفروع الدين وأحكامه التي كتب عنها الفقهاء في الرسائل العملية وفي عشرات المجلدات من الجواهر وغيرها، فهي أمور ثانوية! اما الشيء الأصلي الأساسي فهو الولاية! ولا شك انه ((لَمْ يُنَادَ بِشَيْ‏ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلَايَةِ))([32]) ولكن تصغير شأن الصلاة والصوم والحج والجهاد فسق محرم بل أكبر الكبائر و((أَشَدُّ الذُّنُوبِ مَا اسْتَهَانَ بِهِ صَاحِبُهُ))([33]).
وهذا التصغير هو اتهام للمعصومين بأنفسهم فان الروايات الموجودة حول الصلاة والصوم والزكاة وسائر الأحكام في الكافي والوسائل هي عن الأئمة الأطهار وهي بالألوف والفقهاء لم يخترعوها وانت الذي تستند إلى الكافي نفسه في روايات المعارف ألا تعلم بان الكافي مليء بروايات الفروض والأحكام الشرعية كيف تصغر معصية الله؟ إذ الصغيرة إذا صغّرها المرء فهي كبيرة، وقد بلغني أن بعض العوام اغتر بمثل هؤلاء فترك الصلاة متذرعاً بكلام هذا المتطفل على العلم! فهنا موطن الانكار: كيف تصغّر ما أوجبه الله تعالى وما عظّمه الله جل اسمه؟

المشكلة المزدوجة بين التقصير والغلو
ان الأئمة كانوا يواجهون مشكلة مزدوجة فمن جهة كان هناك أناس لا يتحملون الفضائل العظيمة ومن جهة كان هناك أناس يلوون عنق النصوص فلذا الإمام من جهة كان يذكر الواقع والحقيقة ومن جهة ثانية كان يضطر لكي ينفي ما هو بظاهره نفي ولكنه في الوقت نفسه كان يضع القرائن على ان النفي مصبه هو هذا وليس ذاك، مصبه التفسير وليس التأويل.
ومن أوضح الأمثلة والشواهد على ذلك ما صنعه الله سبحانه في القرآن الكريم عن علم النبي بالغيب، فهل النبي يعلم الغيب؟ ان الوهابي يستند إلى القرآن الكريم في قوله: (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)([34]) أليست هذه آية قرانية كريمة؟ فما الذي تقوله له؟ وكذلك الآية الأخرى (وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)([35]) يعني لا أقول لكم أني أعلم الغيب، ان هذا المستدل الذي لم يؤتَ حظاً من العلم يلاحظ ظاهر هذه الآية (كما يلاحظ البعض الروايات النافية ولا يلاحظ الروايات الأخرى المثبتة عندما ينفي هنا) فما هو الجواب؟ الجواب واضح وهو ان المراد: اني لا أعلم الغيب بالذات وأعلمه بالعرض أي بالمنحة الإلهية والعطاء الإلهي، فلا مانعة جمع إذ صح أن يقول: (لا أعلم الغيب) ويقول: (أعلم الغيب) إن الجاهل ليتصور التناقض فيضطر إلى ان يرجح هذا على ذاك أو على العكس يأخذ بذاك دون هذا أما العالم بالنكات: نكات الكلام والشواهد الموجودة في الآيات والروايات فيعرف انه عندما يقول: (أني أعلم الغيب) و(لا أعلم الغيب) فله وجه جمع واضح وهو (اني أعلم الغيب بإذن الله) و(أخلق بإذن الله) و(لا أعلم من ذاتي ولا اخلق بقدرتي الذاتية) وتدل على ذلك الآيات والروايات وصريح العقل، ولذلك كله ولغيره أيضاً كان الرسول والأئمة هم الأولياء للأمة بعد الله تعالى مباشرة في كافة الأمور وهم المرجعية العظمى في كل مختلَف فيه وفي كل فكرة أو معتقد أو أمر نظري أو عملي، يقول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)

 

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

 

-------------------------------------------------------
([1]) سورة المائدة: آية 55.
([2]) سورة آل عمران: آية 14.
([3]) سورة البقرة: آية 93.
([4]) سورة ق: آية 37.
([5]) سورة الجاثية: آية 23.
([6]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص46.
([7]) سورة الفرقان: آية 43.
([8]) سورة آل عمران: آية 14.
([9]) سورة المائدة: آية 55.
([10]) الشيخ الطوسي، الأمالي، دار الثقافة للنشر – قم، ص65.
([11]) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ج2 ص613.
([12]) محمد بن الحسن فروخ الصفار، بصائر الدرجات، مكتبة آية الله المرعشي – قم، ص536. محمد بن عمر الكشي، رجال الكشي، مؤسسة النشر في جامعة مشهد، ص291.
([13]) سورة النجم: آية 3-4.
([14]) سورة آل عمران: آية 49.
([15]) فصّلنا الكلام عن ذلك في الكتب التالية: (نسبية النصوص والمعرفة "الممكن والممتنع") (نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة) و(الاجتهاد والتقليد في أصول الدين) فراجع.
([16]) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص43.
([17]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص11.
([18]) سورة العنكبوت: آية 45.
([19]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص598.
([20]) سورة العنكبوت: آية 45.
([21]) سورة النحل: آية 44.
([22]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص374.
([23]) سورة يونس: آية 39.
([24]) أبو منصور، أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد، ج2 ص438.
([25]) الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، ص407.
([26]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج1 ص401.
([27]) سورة النساء: آية 65.
([28]) سورة البقرة: الآيات 1- 3.
([29]) سورة إبراهيم: آية 26.
([30]) سورة الإسراء: آية 60.
([31]) الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مكتبة الداوري – قم، ج1 ص225.
([32]) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص18.
([33]) السيد الشريف الرضي، نهج البلاغة، دار الهجرة للنشر – قم، ص535.
([34]) سورة الأعراف: آية 188.
([35]) سورة هود: آية 31.

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الاربعاء 1 صفر 1438هـ  ||  القرّاء : 12064



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net