||   بسم الله الرحمن الرحيم | اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً | برحمتك يا أرحم الراحمين   ||   اهلا وسهلا بكم في الموقع   ||  


  





 217- مباحث الاصول: الفوائد الأصولية (الدليل العقلي) (10)

 375- فائدة تفسيرية: نسبة العدل إلى الإحسان

 285- قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ (1) معاني الشاكلة وتأثيراتها على السلوك الإنساني

 68- ورود مصطلح التعارض ونظائره في الروايات

 36- فائدة اصولية: اخبار الترجيح منها ما ترتبط بباب الفتوى ، ومنها ما ترتبط بباب الروايات

 282- (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) 7 تصحيح المسار في الصراط المستقيم على حسب الغاية والفاعل والموضوع والقابل

 347- ان الانسان لفي خسر (5) محاكمة النظرية الميكافيللية والكبريات المخادِعة

 التصريح باسم الإمام علي عليه السلام في القرآن الكريم

 152- العودة الى منهج رسول الله واهل بيته (عليهم السلام) في الحياة ـ5 الحل الاسلامي للمعضلة الاقتصادية 1ـ ترشيق مؤسسات الدولة

 82- فائدة أصولية: المراد من اصالة ثبات اللغة



 الحسين المحمول عليه السلام على أجنحة الملائكة صريع على أرض كربلاء

 الإِمَامُ الحُسَينُ خَليفَةُ اللهِ وَإِمَامُ الأُمَّةِ

 تعلَّمتُ مِن الإِمامِ.. شرعِيَّةُ السُّلطةِ

 اقتران العلم بالعمل



 موسوعة الفقه للامام الشيرازي على موقع مؤسسة التقى الثقافية

 183- مباحث الاصول (مبحث الاطلاق) (1)

 351- الفوائد الاصولية: بحث الترتب (2)

 310- الفوائد الأصولية: القصد (1)

 قسوة القلب

 النهضة الحسينية رسالة إصلاح متجددة

 الأجوبة على مسائل من علم الدراية

 استراتيجية مكافحة الفقر في منهج الإمام علي (عليه السلام)

 236- احياء أمر الامام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)

 نقد الهرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة



  • الأقسام : 91

  • المواضيع : 4550

  • التصفحات : 29212877

  • التاريخ :

 
 
  • القسم : محاضرات في التفسير .

        • الموضوع : 018 - {قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ} (2) كيف تنجح في حياتك وتتميّز حسب نصوص الامام الصادق (عليه السلام)؟ .

018 - {قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ} (2) كيف تنجح في حياتك وتتميّز حسب نصوص الامام الصادق (عليه السلام)؟
الإثنين 29 شوال 1446هـ




بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
كيف تكون محبوباً للناس، ومقرباً من الله تعالى؟
(2)


قال الله العظيم في كتابه الكريم: {إِنَّ هذا أَخي‏ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنيها وَعَزَّني‏ فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ}[1].
الجميع يحبّ أن يكون محبوباً
هناك شخصيات محبوبة في المجتمع، لكنها قد تتفاوت في درجات محبوبيتها؛ فقد تكون محبوبة بدرجة بالغة جدًا، وقد تكون بدرجات أدنى.
فالرسول المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) كان شخصية محبوبة للغاية، حتى أنه، على سبيل المثال، عندما كان يتوضأ، كان المسلمون يحيطون به، ويتسابقون إلى مدّ أيديهم إلى المياه المتساقطة من وجهه الكريم ولحيته المباركة ويديه، حتى أنه ورد أنهم لم يكونوا يَدَعون قطرةً واحدةً تسقط إلى الأرض.
ومَن منّا لا يحب أن يكون شخصية محبوبة بالحق؟
بل إنّ كل إنسان سويّ يحب أن يكون محبوبًا لله تعالى ولرسله وأوصيائه وللملائكة (مَن يؤمن بهم طبعًا)، وأن يكون في الوقت نفسه محبوبًا للناس.
وهل يوجد شخص سويّ لا يحب أن يكون شخصية محبوبة عند أهله وأقربائه وجيرانه وزملائه، وحتى منافسيه؟
لكنّ المشكلة التدافع بين المحبوبية لله تعالى والمحبوبية للناس
ولكنّ المشكلة تكمن في التعارض الذي يبدو بين أن يكون الشخص محبوبًا لله تعالى وبين أن يكون محبوبًا للناس، إذ يحب الناس من يُجارِيهم، حتى وإن كان ذلك في المحرمات، فمن لم يُجارِهم فيها، لا يحبونه، بل ربما أبغضوه.
ألا ترى أنّ الناس، أي كثير منهم، يحبون أن يغتابوا ويتهموا وينمّوا ويجرحوا هذا أو ذاك، ويزدروا بهذا أو ذاك؟ كما انهم يحبون من جلسائهم الاستماع لهم والتفاعل معهم والتأييد أيضًا، ولو أن أحدًا أبدى امتعاضه منهم أو هجرهم وترك مجالستهم أو نهاهم عن المنكر، استثقلوه وربما قلوه وكرهوه.
والعكس بالعكس، فإن من يريد أن يكون محبوبًا لله تعالى عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهما غالبًا مما يكرههما غالب الناس، ويكرهون من يَحذَرُهم على دينه ويتجنّب مجالس الأنس واللهو واللعب وجلسات البطالين التي تستحوذ على قلوبهم عادةً.
وكذلك من يدمن على المسكرات أو المخدرات أو الرشوة والسرقات، من الحكام والمسؤولين وغيرهم، فإنهم يحبون من يجاريهم ويتستر عليهم ويدافع عنهم، ويكرهون من ينهاهم عن ذلك أو يضغط عليهم، فكيف إذا فضحهم في وسائل الإعلام؟
طرق مفتاحية للجمع بين المحبوبيتين
فكيف يمكن إذًا أن نجمع بين الأمرين: أن نكون محبوبين لله تعالى وللصالحين، ونكون في الوقت نفسه محبوبين للناس أيضًا؟
الجواب: هنالك طرق مفتاحية ومقوِّمات تتكفل بهذا الإعجاز العرفي، نستعرضها في هذه المقالة والمقالات القادمة بإذن الله تعالى.
أ- لا ترضَ عن نفسك أبداً ولا تعجب بها أصلاً
المقوِّم الأول: لا ترضَ عن نفسك أبدًا ولا تعجب بها أصلًا، فإن الرضا عن النفس والعجب سبب أساس في أن يكرهك الناس، وأن يكرهك الله تعالى أيضًا، وقد ورد: «إِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى لِنَفْسِكَ فَيَكْثُرُ السَّاخِطُ عَلَيْكَ»[2]، وورد: «ثَمَرَةُ الْعُجْبِ‏ الْبَغْضَاءُ»[3]، وورد «رِضَا الْعَبْدِ عَنْ‏ نَفْسِهِ‏ مَقْرُونٌ‏ بِسَخَطِ رَبِّهِ»[4]، بل ورد «مَنْ كَانَ عِنْدَ نَفْسِهِ‏ عَظِيماً كَانَ‏ عِنْدَ اللَّهِ حَقِيراً»[5]، و«حَقِيراً» عبارة بالغة القوة والدلالة.
ولذلك فإن «الْعُجْبُ‏ رَأْسُ‏ الْحَمَاقَةِ»[6] كما في الحديث، لأنه يدل على جهله البالغ من جهة، ويسبب خسارته لمحبة الله ومحبة الناس له من جهة أخرى.
بل ورد «الْمُعْجَبُ‏ لَا عَقْلَ‏ لَهُ»[7] لأنه يعمى عن عيوبه ونقاط ضعفه، ويتصور نفسه قِطعةً من الكمالات، مع انه إضافة إلى عدم كونه كذلك وجهله المركب، يكفيه نقصاً غرورُهُ وإعجابه بنفسه.
قصة الأستاذ المعجب بآرائه!
ومن الغريب أنني سمعت أستاذًا، وهو جالس على كرسي الأستاذية، يطرح رأيًا معيّنًا، ثم يقول بصوت جهوري: أنّه لا يوجد أحد على وجه الكرة الأرضية يمكنه أن يُثنيني عن رأيي هذا أو أن يُغيّره! وحيث رأى أن هذه دعوى ثقيلة جدًا، استدرك وقال: إلا الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرجه)!
أقول: لا شك في صحة الاستثناء، ولكن من أين هذا القطع العجيب؟ ألا تحتمل أنّ أحد أصحاب الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، أو حواريّيه، يمكنه أن يُثنيك عن رأيك؟ بل أَلا تحتمل أن يكون هناك من هو أعلم منك مطلقاً أو في هذه المسألة بالذات، يمكنه أن يُغيّر رأيك لو استمعت إليه حقًا؟
وما أكثر المعجبين بأنفسهم وبآرائهم من أمثال هذا الأستاذ في المجتمع، سواء في آرائهم السياسية، أم الاجتماعية، أم الدينية، أم الثقافية، أم غيرها! وقد يُصرّح بذلك بعضهم، وقد لا يُصرّح، وقد قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[8].
قصة الـمَلَك الذي خلق السماوات والأرض!
وفي قصة الملك الذي خلق السماوات والأرض فأصيب بالعجب، أكبر العبرة فقد ورد عن أبي جعفر (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَوَّضَ الْأَمْرَ إِلَى مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَخَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعَ أَرَضِينَ وَأَشْيَاءَ، فَلَمَّا رَأَى الْأَشْيَاءَ قَدِ انْقَادَتْ لَهُ، قَالَ: مَنْ مِثْلِي؟ فَأَرْسَلَ‏ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نُوَيْرَةً مِنْ نَارٍ.
قُلْتُ: وَمَا نُوَيْرَةٌ مِنْ نَارٍ؟
قَالَ: نَارٌ بِمِثْلِ أَنْمُلَةٍ، فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَيْهِ، لِمَا دَخَلَهُ الْعُجْبُ»[9].
والعجيب أنّ أحدنا قد يملك حفنة من الدنانير، فيُصاب بالعُجب، أو يملك عقارات وقصورًا، أو يحصل على شهرة ومتابعين كُثُر في وسائل التواصل (الفيس بوك، X، يوتيوب، تلكرام، إنستغرام... إلخ)، فيُصاب بالعُجب.
وأنّ بعضنا قد يحصل على كرسي في البرلمان، أو يصبح مديرًا، أو وزيرًا، أو رئيسًا في بلد من البلاد، فيُصاب بالعُجب الشديد، مع أن ذلك كله لا شيء، بالقياس إلى عظمة مملكة هذا الملك الذي خلق سبع سماوات وسبع أرضين، وأشياء عظيمة (ولعلها المجرات، والنجوم، والشموس، و...)، فأصابه العُجب، فخسر كل شيء وعاقبه الله عقاباً لا يتصور.
ولو حُقّ لأحد أن يُصاب بالعُجب، لكان له أن يُصاب بالعُجب، لا نحن؛ وغاية ما نملكه أو نسيطر عليه دولة تُنافسها دول كثيرة، ومع ذلك، سَخِط الله عليه ذلك السُّخط الشديد؛ إذ أرسل إليه نويرة، لا نارًا، وذلك تصغيرًا لشأنه، لكي يُدرك ونُدرك أنه رغم كل ما خلق لا يستطيع أن يدفع عن نفسه أذى نويرة، فكيف تعجب بنفسك؟ وكل ما فعلته كان بإذن الله تعالى، فأيّةُ قيمةٍ لك، إلا بإذنه؟ {وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[10]، و{وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ}[11]، و{يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَميدُ}[12].
«فَاسْتَقْبَلَهَا بِجَمِيعِ مَا خَلَقَ» أي جعل السماوات والأرضين والجبال و... حاجزاً بينه وبينها لكن النويرة اخترقت كل ذلك بسهولة فائقة حتى وصلت إليه (فأحرقته – حسب الظاهر)[13].
فكيف يعجب أحدنا بعلمه أو ماله أو سلطته بعد ذلك؟
قصة الضفدعة مع داود النبي
وفي قصة الضفدعة وداود عِبرةٌ كبيرة إذ ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «سَهَرَ دَاوُدُ (عليه السلام) لَيْلَةً يَتْلُو الزَّبُورَ، فَأَعْجَبَتْهُ‏ عِبَادَتُه،ُ‏ فَنَادَتْهُ ضِفْدَعٌ: يَا دَاوُدُ تَعَجَّبْتَ‏ مِنْ سَهَرِكَ لَيْلَةً، وَإِنِّي لَتَحْتَ هَذِهِ الصَّخْرَةِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا جَفَّ لِسَانِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى‏»[14]
أقول: 1- تُعدّ الضفادع، بحسب تصنيف العلماء، من الكائنات المتنوعة جدًا، إذ يبلغ عدد أنواعها نحو ستة آلاف نوع، وتختلف أعمارها باختلاف هذه الأنواع؛ فبعضها يبلغ متوسط عمره ما بين 20 إلى 30 سنة، وبعضها يعيش ما بين 10 إلى 15 سنة، وقد يزيد أو ينقص عن ذلك.
وعلى أي حال، فإن متوسط العمر لا ينفي أن يُعمِّر أحدها إلى خمسين أو حتى ستين سنة، تمامًا كما هو الحال في الإنسان؛ فمتوسط عمر الإنسان في منطقة الشرق الأوسط يُقدَّر بنحو 70 عامًا، وقد يقل أو يزيد بحسب الدول، في حين يبلغ في اليابان قرابة 80 عامًا، إلا أن ذلك لا يمنع من أن يبلغ بعض الأفراد مئة سنة أو أكثر، تبعًا لاختلاف الظروف البيئية والصحية وغيرها.
2- إن إعجاب داوود (عليه السلام) بعبادته قد يُحمَل على ظاهره؛ فيكون من قبيل تَرك الأولى، وكيف لا يُعجَب؟ ولو أعطانا الله تعالى عُشرَ معشار ما أعطاه، لأُعجِبنا بعبادتنا أيضًا، إذ إنه، كما قال تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبي‏ مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ}[15]، وهي مرتبة سامية جداً.
ولكنّ السيد الوالد (قدس سره) كان يرى أن ذلك وأمثاله مما جاء عن الأنبياء (عليهم السلام)، كان يُقصَد به تعليمنا، فلم يُعجَب داوود (عليه السلام) بنفسه واقعًا، بل لعله تظاهر بذلك، كي تخرج الضفدعة فتقول ما تقول، فيبلغنا ذلك فنعتبر. هذا.
من هو الأحمق حقاً؟
ومن جهة أخرى فإنّ الأحمق حق الأحمق، حسب الروايات هو المعجب بنفسه وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): «مَنْ أُعْجِبَ بِنَفْسِهِ هَلَكَ، وَمَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ هَلَكَ، وَإِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ (عليه السلام) قَالَ: دَاوَيْتُ الْمَرْضَى فَشَفَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأَبْرَأْتُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَالَجْتُ الْمَوْتَى فَأَحْيَيْتُهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَالَجْتُ الْأَحْمَقَ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى إِصْلَاحِهِ!
فَقِيلَ: يَا رُوحَ اللَّهِ وَمَا الْأَحْمَقُ؟
قَالَ: الْمُعْجَبُ بِرَأْيِهِ وَنَفْسِهِ، الَّذِي يَرَى الْفَضْلَ كُلَّهُ لَهُ لَا عَلَيْهِ، وَيُوجِبُ الْحَقَّ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهَا حَقّاً، فَذَاكَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا حِيلَةَ فِي‏ مُدَاوَاتِهِ‏»[16].
وما أكثر الرؤساء والمدراء والخبراء والعلماء والمشهورين الذين أصيبوا بداء العجب برئاستهم أو علمهم أو خبرويتهم أو غير ذلك؟.
وقد ورد: «وَلَا جَهْلَ أَضَرُّ مِنَ الْعُجْبِ»[17]، وقال: «اتَّهِمُوا عُقُولَكُمْ‏ فَإِنَّهُ‏ مِنَ‏ الثِّقَةِ بِهَا يَكُونُ الْخَطَأُ»[18]، و«إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ بُرْهَانُ نَقْصِهِ وَعُنْوَانُ ضَعْفِ عَقْلِهِ‏»[19]، وعلى العكس من ذلك فإن «إِزْرَاءُ الرَّجُلِ‏ عَلَى‏ نَفْسِهِ بُرْهَانُ رَزَانَةِ عَقْلِهِ وَعُنْوَانُ وُفُورِ فَضْلِهِ»[20].
وقد وجدت أحد الخطباء متميزاً في مجالسه، متدفقاً في حديثه حتى كأنّه الشلال المتدفق.. غزير المعلومة.. مشحونٌ منبرُهُ بالآيات والروايات والإحصاءات والقصص والعِبَر.. ووجدت له سيطرة غريبة على الجمهور ومحبة فائقة منهم له..
فسألته عن أسرار قوة منبره.. فأجاب بأجوبة عديدة، كان منها: أنه لا يزال ساخطاً على نفسه وعطائه وخطابته مهما كان وكانت.. إذ انه دائماً يؤنب نفسه: انه كان الأفضل أن يقول هكذا.. وأن لا يقول كذا.. وأن يفعل كذا ولا يفعل كذا.. وبذلك فإنه كان يحرص على تطوير نفسه باستمرار وعلى نقد نفسه بنفسه باستمرار.. فكان من الطبيعي أن يسمو بمجالسه باستمرار، عكس المعجب بما يدليه المغرور بما يلقيه فإنه لا بد ان ينزل عن عليائه دون ريب.
قصص متنوعة من الروايات الشريفة
وفي الروايات الشريفة قصص متنوعة عن العجب والتحذير منه، وهي تحمل أبلغ الدلالات، وقد مضى بعضها وهذه نماذج أخرى منها:
1- ينقل عن الإمام عليه السلام قصة العابد الذي صار فاسقاً والفاسق الذي صار صديقاً، بسبب العجب وضده فقط.
قصة العابد والفاسق وانقلابهما بعد الخروج من المسجد!
عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «دَخَلَ‏ رَجُلَانِ‏ الْمَسْجِدَ، أَحَدُهُمَا عَابِدٌ، وَالْآخَرُ فَاسِقٌ، فَخَرَجَا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَ الْفَاسِقُ صِدِّيقٌ، وَالْعَابِدُ فَاسِقٌ! وَذَلِكَ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْعَابِدُ الْمَسْجِدَ مُدِلًّا بِعِبَادَتِهِ، يُدِلُّ بِهَا، فَتَكُونُ فِكْرَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَتَكُونُ فِكْرَةُ الْفَاسِقِ فِي التَّنَدُّمِ عَلَى فِسْقِهِ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِمَّا صَنَعَ مِنَ الذُّنُوبِ»[21].
العابد المعجب بعبادته
2- وأيضاً: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «أَتَى عَالِمٌ‏ عَابِداً فَقَالَ‏ لَهُ: كَيْفَ صَلَاتُكَ؟ فَقَالَ: مِثْلِي يُسْأَلُ عَنْ صَلَاتِهِ؟ وَأَنَا أَعْبُدُ اللَّهَ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا! قَالَ: فَكَيْفَ بُكَاؤُكَ؟ قَالَ: أَبْكِي حَتَّى تَجْرِيَ دُمُوعِي، فَقَالَ لَهُ الْعَالِمُ: فَإِنَّ ضَحِكَكَ وَأَنْتَ خَائِفٌ أَفْضَلُ مِنْ بُكَائِكَ وَأَنْتَ مُدِلٌّ، إِنَّ الْمُدِلَّ لَا يَصْعَدُ مِنْ عَمَلِهِ شَيْ‏ءٌ»[22]
هل كانت خطيئة داود إعجابه بنفسه؟
3- وفي قصة داود (عليه السلام) حيث سخط الله عليه لاعتداده بعلمه، ظاهراً، أكبر العبرة فقد ورد «فَقَالَ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ خَطِيئَتُهُ؟ قَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّ دَاوُدَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) إِنَّمَا ظَنَّ أَنْ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقاً هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ الْمَلَكَيْنِ، فَتَسَوَّرَا الْمِحْرَابَ، فَقَالاَ: {خَصْمٰانِ بَغىٰ بَعْضُنٰا عَلىٰ بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنٰا بِالْحَقِّ وَلاٰ تُشْطِطْ وَاهْدِنٰا إِلىٰ سَوٰاءِ الصِّرٰاطِ * إِنَّ هٰذٰا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وٰاحِدَةٌ فَقٰالَ أَكْفِلْنِيهٰا وَعَزَّنِي فِي الْخِطٰابِ} فَعَجَّلَ دَاوُدُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ. وَلَمْ يَسْأَلِ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يُقْبِلْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَيَقُولَ لَهُ: مَا تَقُولُ؟ فَكَانَ هَذَا خَطِيئَةُ رَسْمِ الْحَكَمِ، لاَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ، أَلاَ تَسْمَعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ؟»[23].
وقصة الغرام بزوجة أوريا، خرافة..
فالقضية كانت مجرد قضيّة عُجب، بل دونه، إذ كانت مجرد تصوّر أن الله لم يَخلُق خَلقًا أعلَم منه، لكن القَصّاصين حوّلوها إلى قصة غراميّة – خُرافيّة، تتّهم الأنبياء بارتكاب القبائح والشنائع، أي حوّلوها من موعظة وعِبرة بأن يتجنّب المرء الاعتداد بالنفس، وتَصوُّر تفوّقها على الآخرين، إلى قصة مختلقة تُبرّر، في جوهرها، للحكّام الظَلَمة مجونهم وتعدّيهم على أعراض الناس.
وتدلّ على خُرافية قصة زوجة أوريّا، ما رواه الصدوق في عيون أخبار الرضا.
ابن بابويه، قال: حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام الـمُكَتّب، وعلي بن عبد الله الورَّاق رضي الله عنهم، قالوا: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، قال: حدثنا القاسم بن محمد البرمكي قال: حدثنا أبو الصلت الهروي، قال: «لَمَّا جَمَعَ الْمَأْمُونُ لِعَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا (عليه السلام) أَهْلَ الْمَقَالاتِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّيَانَاتِ مِنَ الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوسِ، وَالصَّابِئِينَ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْمَقَالاتِ، فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَ قَدْ أَلْزَمَهُ حُجَّتَهُ كَأَنَّهُ أُلْقِمَ حَجَراً، قَامَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ،
فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، أَتَقُولُ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ؟
قَالَ: نَعَمْ، إلى أن قَالَ: فَمَا تَعْمَلُ‏ في قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ فِي دَاوُدَ: {ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ}
فقال له (عليه السلام): فَمَا يَقُولُ مَنْ قِبَلَكُمْ فِيهِ؟.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، يَقُولُونَ: إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) كَانَ فِي مِحْرَابِهِ يُصَلِّي، فَتَصَوَّرَ لَهُ إِبْلِيسُ عَلَى صُورَةِ طَيْرٍ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الطُّيُورِ، فَقَطَعَ دَاوُدُ صَلَاتَهُ وَقَامَ لِيَأْخُذَ الطَّيْرَ، فَخَرَجَ‏ الطَّيْرُ إِلَى‏ الدَّارِ، فَخَرَجَ‏ الطَّيْرُ إِلَى‏ السَّطْحِ، فَصَعِدَ فِي طَلَبِهِ، فَسَقَطَ الطَّيْرُ فِي دَارِ أُورِيَا بْنِ حَنَانٍ، فَأَطْلَعَ دَاوُدُ فِي أَثَرِ الطَّيْرِ فَإِذَا بِامْرَأَةِ أُورِيَا تَغْتَسِلُ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا هَوَاهَا، وَكَانَ قَدْ أَخْرَجَ أُورِيَا فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَكَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ أَنْ قَدِّمْ أُورِيَا أَمَامَ التَّابُوتِ فَقُدِّمَ فَظَفِرَ أُورِيَا بِالْمُشْرِكِينَ فَصَعُبَ ذَلِكَ عَلَى دَاوُدَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ثَانِيَةً أَنْ قَدِّمْهُ أَمَامَ التَّابُوتِ، فَقُدِّمَ، فَقُتِلَ أُورِيَا فَتَزَوَّجَ دَاوُدُ بِامْرَأَتِهِ،
قَالَ: فَضَرَبَ الرِّضَا (عليه السلام) بِيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، وَقَالَ:‏ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏، لَقَدْ نَسَبْتُمْ نَبِيّاً مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ إِلَى التَّهَاوُنِ بِصَلَاتِهِ، حَتَّى خَرَجَ فِي أَثَرِ الطَّيْرِ، ثُمَّ بِالْفَاحِشَةِ، ثُمَّ بِالْقَتْلِ.
فَقَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا كَانَ خَطِيئَتُهُ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ دَاوُدَ (عليه السلام) إِنَّمَا ظَنَّ أَنَّ مَا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقاً هُوَ أَعْلَمُ مِنْهُ»[24]
فهذه الرواية صريحة في أن قضية زوجة أوريا مجعولة كاذبة.
الروايات متعارضة في قصة داود وأوريا فأيها أرجح؟
لا يقال: إنها وردت في تفسير القمي بتفصيل وإسهاب؟
إذ يقال: المستظهر ان الراوي وهو هشام نقلت عنه الرواية مبتورة ناقصة وأن الإمام (عليه السلام) نقل كلام الناس في القضية أي أنه (عليه السلام) نقل الشبهة ثم أجاب عنها، نظير ما قاله الإمام الرضا (عليه السلام) حيث طلب من ابن الجهم أن يشرح قول الناس في القضية ثم رده الإمام (عليه السلام) بقوله: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ‏، لَقَدْ نَسَبْتُمْ نَبِيّاً مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ إِلَى التَّهَاوُنِ بِصَلَاتِهِ، حَتَّى خَرَجَ فِي أَثَرِ الطَّيْرِ، ثُمَّ بِالْفَاحِشَةِ، ثُمَّ بِالْقَتْلِ»، فالراوي وهو هشام أو المنقول في الكتب المستنسخة عنه، نَقَلَ تقرير الإمام للشبهة وأغفل النساخ جواب الإمام وردّه عليها أو ان الراوي نفسه غفل أو الراوي عنه نسى أو غفل أو حدث صارف طارئ فبتر الحديث، وذلك نظير ما يصنعه كل استاذ أو خطيب أو معلم حيث قد ينقل شبهة أو خبراً وَرَدَ ويشرحه كما ورد ثم يفنّده، فقد يلتقط التلميذ أو الراوي عنه تقرير الخبر أو الشبهة وينسى أو يغفل أو لا يسعفه الوقت لنقل ردّ المعلم أو الخطيب للشبهة أو نفيه لصحة الخبر.
ولا مجال لتوهم التعارض بين هذه الرواية ورواية علي بن إبراهيم، إذ هذه الرواية حاكمة لأنها ناظرة وشارحة فتصلح مفسرة وموضحة للبتر الحاصل في رواية علي بن إبراهيم، بل وتعضدها رواية أخرى وهي:
وعنه، عن أبيه، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة، عن حمدان بن سليمان، عن نوح بن شعيب عن محمد بن إسماعيل، عن صالح، عن علقمة، عن الصادق (عليه السلام)، في حديث قال فيه: «يَا عَلْقَمَةُ، إِنَّ رِضَا النَّاسِ لَا يُمْلَكُ، وَأَلْسِنَتَهُمْ لَا تُضْبَطُ، وَكَيْفَ تَسْلَمُونَ مِمَّا لَمْ يَسْلَمْ مِنْهُ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ وَحُجَجُ اللَّهِ (عليهم السلام) أَلَمْ يَنْسُبُوا يُوسُفَ (عليه السلام) إِلَى أَنَّهُ هَمَّ بِالزِّنَا؟ أَلَمْ يَنْسُبُوا أَيُّوبَ‏ (عليه السلام) إِلَى أَنَّهُ ابْتُلِيَ بِذُنُوبِهِ؟ أَلَمْ يَنْسُبُوا دَاوُدَ (عليه السلام) إِلَى أَنَّهُ تَبِعَ الطَّيْرَ، حَتَّى نَظَرَ إِلَى امْرَأَةِ أُورِيَا فَهَوِيَهَا، وَأَنَّهُ قَدَّمَ زَوْجَهَا أَمَامَ التَّابُوتِ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ بِهَا»[25].
ويؤكد عدم تمامية الرواية التي نقلها القمي انه بنفسه ذكر بعض إحدى معارضاتها فقال: (وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: {وَظَنَّ داوُدُ} أَيْ عَلِمَ‌ وَأَنابَ‌ أَيْ تَابَ. وَذَكَرَ أَنَّ دَاوُدَ كَتَبَ إِلَى صَاحِبِهِ أَنْ لَا تُقَدِّمْ أُورِيَا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَرُدَّهُ. فَقَدِمَ أُورِيَا إِلَى أَهْلِهِ وَمَكَثَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ‌)[26].
ب- لا تتبع عورات الناس ولا تتفقد ذنوبهم
المقوِّم الثاني: لا تتتبّع عوراتِ الناس، ولا تتفقّد ذنوبهم.. فإن ذلك من أهم أسباب مبغوضية الإنسان لدى الله تعالى كما هو سبب بغض الناس له، فإنّ طبع بعض الناس جرى على أن يراقب الآخرين ويتتبع نواقصهم: فهذا قصير وذاك طويل.. وهذا بخيل وذاك جبان وذاك لئيم.. وهذا حسود وذاك حقود.. وذاك بدين وهذا سمين وذاك نحيف أو دميم أو عجول أو كسول.. إلخ وهذا كذوب وذاك نمام والآخر لحوح.. وهكذا.
وقد ورد في الحديث: «إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَبْدَ يَتَفَقَّدُ الذُّنُوبَ مِنَ النَّاسِ نَاسِياً لِذَنْبِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ مُكِرَ بِهِ»[27]، أي اعلموا انه استدراج.. يستدرجه الله تعالى، بسوء فعله، إلى أن يدخله جهنم أو في أشد العذاب أو إلى أن يكون ذريعة إلى حرمانه من الكثير مما حباه الله تعالى من النِعم.
كونوا كالنحل ولا تكونوا كالذباب، كيف؟
وقد ورد في الحكمة، ولعلها رواية، كونوا كالنحل ولا تكونوا كالذباب، فإن النحل لا يسقط إلا على الورود والأزهار والرياحين، ولذلك فإنه لا يخرج من بطنه إلا الطيب {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ}[28]، ولذلك عزّت في أعين الناس وكان شأنهم المحافظة على بيوتها ومساكنها ورعايتها، أما الذباب فإنه لا يسقط إلا على المزابل والقاذورات وكل شيء خبيث ولذا يكرهه الناس.. وهكذا بعض الناس فإنه يتتبع عورات الناس وسيئاتهم، فكأنّه ذبابة سمجة لا تبصر إلا العيوب ولا تحب إلا القاذورات..
وبذلك يكشف هؤلاء الناس عن نفس دنيئة خبيثة حقيرة.. عكس من يتتبع حسنات الناس ويشيد بما لديهم من محاسن الخصال وحميد الفعال فإنه يكشف عن نفس زكية لطيفة نظيفة رائعة.
وحينئذٍ يحبكم الله والناس وتربحون اقتصادياً أيضاً
والناس تحب بطبعها من يرى محاسنها ويشيد بها، وقبل ذلك يحبّه الرب الجليل.. كما تبغض بطبعها من يتفحص معايبها ويعيّرهم بها أو يحفظها عليهم ليكسرهم بها يوم الحاجة.
والأمر، على المستوى الاقتصادي أيضاً، مربح تماماً لمن يتتبع محاسن موظفيه، من دقة ونظام والتزام ونظافة.. إلخ، فيثني عليها وعليهم ويشجعهم ويمدحهم أمام الآخرين.. فإن ذلك يزيده حباً في قلوبهم فيتفانون في إنجاز الأعمال المفوضة بهم.. كما أن ذلك يحرّض سائر الموظفين على التحلي بتلك الخصال.. وبذلك تحكم المحبة والتفاؤل والحماس، أجواء الشركة والمعمل والمصنع والوزارة والمدرسة والجامعة، فتسير الأمور سيراً حسناً رائعاً.. على العكس من المدير الآخر الذي يتتبّع عورات موظفيه أو زملائه فيفضحهم بها.. إذ انّه وإن خاف منه الموظفون.. إلا انهم قد يعملون مادام سيفه مسلطاً عليهم، فإذا وجدوا فرصة سانحة لخيانة أو غيرها، فعل بعضهم ذلك.. بل ويكفي أن ينجزوا أعمالهم بتثاقل فإنه لا يعدو انجازهم حينئذٍ المتوسط إن لم نقل بأنه سيبقى في الحد الأدنى، عكس المدير الذي يتتبّع إيجابيات موظفيه فيمدحهم عليها ويثيبهم بأحسن الثواب حيث يتحولون بذلك إلى أسرة واحدة كبيرة سعيدة متعاونة متآزرة تتحرك إلى الأمام بخطى ثابتة.
وقد ورد في نهج البلاغة: «فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ،
وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلَاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلَادِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ
وإِنَّهُ لَا تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلَّا بِسَلَامَةِ صُدُورِهِمْ، وَلَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ [أُمُورِهِمْ‏] الْأُمُورِ وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ وَتَرْكِ‏ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ،
فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ [مِنْ‏] فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ [فِعَالِهِمْ‏] أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ‏ وَتُحَرِّضُ النَّاكِل»‏[29]
إضافة إلى ذلك فإنّ دأب الشخص إذا كان على تتبع عورات الناس، قابلوه بالمثل، فإن من يتتبع سيئات الناس ليفضحهم بها.. تتبعوا سيئاته ليفضحوه بها.. وبذلك يوّلد لنفسه أحقاداً وضغائن وعداوات لا تنتهي.. بل تكون ككرة الثلج الذي كلما تدحرجت كبرت أكثر فأكثر.. فيكرهه الناس حينئذٍ أكثر فأكثر.. ويكرهه الله تعالى وأولياؤه لأنه يفتح بذلك في المجمع بوابة للغيبة والتهمة والنميمة والقطيعة لا تغلق.
قصة الكيس المليء بالفئران، وهي طريقة الشيطان!
وقد وجدت بعضهم ينقل قصة طريفة، وقد تكون قصة رمزية إلا أن لها أبلغ الدلالة كما لا يبعد أن تكون حقيقية، وعلى أية حال فقد وجدتها، لدى التدبر، تصلح كأفضل مثال للشيطان وما يفعله ببني آدم.
والقصة هي: أن حكيماً جلس في الحافلة المتجهة من القرية إلى المدينة، إلى جوار فلاح مسنّ يبدو عليه الوقار إلا انه كان يقوم بحركات غريبة نوعاً ما حيث انه كان يضع أمامه كيساً ضخماً تصدر منه أصوات عجيبة.. ثم انه كان يحركه ويهزّه بقوة بين فترة وأخرى، كل ثلاثة دقائق مثلاً، بقوة وهكذا يواصل تحريكه وهزه بعنف في فترات متقاربة، فسأله الحكيم عن السر في هذا الفعل العجيب؟ فقال: انني اصطاد نوعاً خاصاً من الفئران وأذهب بها إلى بعض المختبرات العلمية التي تحتاج هذا النوع، فأبيعها بسعر جيد، وحيث ان الكيس من الكتان لذا فإن الفئران إذا استقرت وهدأت تبدأ بقضم الكيس بسرعة وسرعان ما تهرب بأجمعها.. لذلك فإنني أهزّ الكيس بعنف في فترات متقاربة لكي يصطدم بعضها ببعض.. فتدوخ من جهة.. ويظن بعضها أن صاحبته قد نطحته عمداً فتنتقم منها بضربها.. وهكذا تنشغل الفئران بضرب بعضها بعضاً.. فاطمأن.. حتى إذا ما كادت أن تهدأ (وتنصرف إلى قرض الكيس) أعود فأهزها من جديد.. وهكذا.
وذلك في الواقع هو مَثَلُ الشيطان مع بني آدم حيث أنّ الدنيا هي الوعاء الذي يستوعبهم جميعاً.. والشيطان شأنه إيقاع الفتنة بينهم باستمرار، بين أفراد العائلة الواحدة.. بين الجيران والجيران.. وبين هذه العشيرة وتلك.. بين هذه المؤسسة وتلك.. وهكذا.. حتى ينشغل الجميع دوماً بالغيبة والتهمة والنميمة والسباب والشتائم.. وبذلك يصل الشيطان إلى غايته حيث {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ}[30]، وكلما هدأت المعارك أوجد الشيطان ذريعة جديدة لإلقاء الفتنة والنزاع والشقاق.. وأن أهم سلاح يستخدمه هو أن يثير في كل طرف الفضول الشديد لتتبع عورات الآخرين ثم يغريه بنشر الغسيل على الملأ ويحرّضه على إشاعة الفاحشة.. وهكذا تبدأ، ولا تنتهي، معارك متتالية يثيرها الشيطان بدهائه ويقع في شباكها ابن آدم بجهله وحماقته.
إذا انفصلتَ عن جهةٍ فلا تغتبها ولا تتهمها
وفي بعض السنين السابقة، انفصل شخص من جهة كان يعمل معها، مرجعية أو غيرها، لا يهم الآن، لخلافات إدارية والتحق بمؤسسات بعض الأصدقاء فلما زارني بدأ يستعرض بعض سلبيات تلك الجهة التي كان يعمل معها (إذ يتقرب الناس عادة إلى الجهة التي يلتحقون بها، وإلى مسؤوليهم أو كبارهم بذكر معايب المنافسين!) فقلت له: يا هذا! إن ما ترويه إما صدق أو كذب، إما حق أو باطل.. فإن كان صدقاً فهي غيبة وهي من الكبائر وإن كان كذباً فهي تهمة وهي من الكبائر.. فلا تعد لمثلها أبداً.. فالتَزَمَ بذلك فترةً.. ثم بلغني انه بدأ يحكي مرة أخرى بعض السلبيات عن تلك الجهة الأخرى، فقلت للأصدقاء: انصحوه ثم أنذروه ثلاث مرات بأن يكفّ وإلا فكونوا في حل منه وليرحل إلى حيث يشاء فإننا لا نسمح في المؤسسات التابعة لنا والخاضعة لإدارتنا مباشرة أو بالواسطة، بأن يتخذوها منابر للازراء بالعلماء والمؤمنين أو غيبتهم أو تهمتهم، بل اننا نرفض هذا المنهج بقول مطلق على حسب ما فصّلته في كتاب (قولوا للناس حسناً ولا تسبّوا)، وكتاب (الوسطية والاعتدال في الفكر الإسلامي).


 
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

----------------------------------------------------------------------------------

[1] سورة ص: 23-24.
[2] غرر الحكم ودرر الكلم: ص166.
[3] غرر الحكم ودرر الكلم: ص327.
[4] المصدر: ص389.
[5] المصدر: ص626.
[6] المصدر: ص30.
[7] المصدر: ص55.
[8] سورة المؤمنون: 53، الروم: 32.
[9] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، دار الشريف الرضي ـ قم: ص251.
[10] سورة النحل: 53.
[11] سورة الإنسان: 30.
[12] سورة فاطر: 15.
[13] تنبيه: يُراد بالخلق في الرواية، على المشهور، العِلّة المُعدّة، لا الخلق من كتم العدم ولا من شيء، المُسمّى بـ(خلق الإبداع)، كما يُقال: (الرسام خلق اللوحة)، وكما ورد في عيسى (عليه السلام): {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْني‏ فَتَنْفُخُ فيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْني‏} (سورة المائدة: 110)، إذ أنه (عليه السلام) إنما صَنع الشكل والمجسّمة ككل نحّات، ثم نفخ فيه، لكنّ الرّوح وُجدت بإذن الله، وتفصيله في محلّه.
[14] مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل: ج1 ص142.
[15] سورة سبأ: 10.
[16] الشيخ المفيد، الاختصاص، دار المفيد ـ قم: ص221.
[17] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج8 ص244.
[18] المصدر: ص158.
[19] تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم: ص308.
[20] المصدر: ص112.
[21] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص314.
[22] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص313.
[23] السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت: ج6 ص473.
[24] الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (عليه السلام)، انتشارات جهان ـ طهران: ج1 ص193.
[25] الشيخ الصدوق، الأمالي، دار كتابجي ـ طهران: ص103.
[26] علي بن إبراهيم القمي، تفسير القمي، دار الكتاب ـ قم: ج2 ص234.
[27] الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة: ص364.
[28] سورة النحل: 69.
[29] نهج البلاغة: الكتاب 53.
[30] سورة ص: 82-83.

 

  طباعة  ||  أخبر صديقك  ||  إضافة تعليق  ||  التاريخ : الإثنين 29 شوال 1446هـ  ||  القرّاء : 25



 
 

برمجة وإستضافة : الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net