• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 367- الفوائد الاصولية: الصحيح والأعم (10) .

367- الفوائد الاصولية: الصحيح والأعم (10)

الفوائد الأصولية
(الصحيح والأعم)

 

الفائدة العاشرة [1]: درج الأصوليون  في بحث  الصحيح والأعم أن يبحثوه  من حيث الصحة والفساد لدى الشك في الجزئية والشرطية؛ ولكن ينبغي أن يكون  معقد هذا البحث أعم مما طرحوه ؛ وذلك بأن  يشمل:
أولاً : ألفاظ  المعاملات هل  هي موضوعة  للجائز أو الأعم ؛ فإن قلنا إنها موضوعة للأخص - أي الجائز - فإنه كلما شك في جواز معاملة وعدمها فلا يصح التمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) للإلزام بالوفاء بها ؛ إذ يكون حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ؛ فإنه مع الشك في جوازه يشك في أنه عقد أو لا - وضعاً أو انصرافاً-  فكيف يتمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) المتفرع على الفراغ عن كونه عقداً ليقال له أوفوا به؟
بل ويشمل  ثانياً : ألفاظ المعاملات هل هي موضوعة للكامل أو الأعم  ؛ كما في البيع الصحيح ؛إذ منه صحيح كامل  وصحيح ليس بكامل ؛ فالأول كالبيع اللازم، والثاني كالبيع المتزلزل ؛ فلو أحرزنا أن الهدية عقد  - مثلاً - ولكن شككننا هل أنه أفاد الملك على نحو اللزوم أم الجواز والتزلزل؛ فبناءً على أعمية (العقود) للكامل والناقص فـ(أَوْفُواْ ) يشمله فيفد اللزوم، وأما  على الأخصية فــ(أَوْفُواْ ) لا يشمله ؛ لأن مفاد (أَوْفُواْ )  لزوم الوفاء فكيف يشمل العقد الناقص ؛ لذا مع الشك في أن الهدية هل تفيد النقل الكامل أو الناقص فإن التمسك بـ(أَوْفُواْ ) يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية، وكذا الحال في كل عقد شك في لزومه وجوازه ؛ فظهر أن العقد تارة يوصف بالكمال - أو عدمه - بلحاظ  النقل وأخرى بلحاظ المنقول ، فمن أمثلة الأول ما تقدم ، ومن أمثلة الثاني بيع المغشوش و بيع المشاع وغيرهما .
وبل يشمل ثالثاً: ألفاظ المعاملات هل هي موضوعة للحسن الراجح ، أم هي موضوعة  للأعم منه ومن القبيح المرجوح؛ كما لو وكلّه في بيع أمواله وشك في هذه الوكالة  هل هي شاملة للقبيح المرجوح أم هي مختصة في الراجح الحسن ، فبناءً  على أنه منصرف عن المرجوح فلا يمكن التمسك بعمومات أدلة الوكالة لتصحيح هكذا بيع ، وأما على القول بالأعمّ فيصح .

بحث تطبيقي :
ثم إن نقاشنا مع الآخوند (قدس سرة) [2] كان مبنياً على ما درج عليه الأصوليون من البحث عن أن ألفاظ العبادات والمعاملات هل هي موضوعة لخصوص الصحيح منها أو الأعم.
قال في الكفاية: (العاشر: إنّه وقع الخلاف في أن الفاظ العبادات، أساٍم لخصوص الصحيحة أو للأعم منها ) [3].
وقال (قدس سرة) : (بقي اُمور: الأول: إن أسامي المعاملات، إن كانت موضوعة للمسببات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة أو للأعم، لعدم اتصافها بهما، كما لا يخفى، بل بالوجود تارةً وبالعدم أُخرى، وأما إن كانت موضوعة للأسباب، فللنزاع فيه مجال، لكنه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً)[4].
ولكن قد يقال: بأن معقد البحث ينبغي أن يكون أعم مما طرحوه ولو طولياً؛ وذلك بأن يبحث عن أن أسماءها هل هي موضوعة للصحيح بمعنى الجامع للأجزاء والشرائط، أو للأعم.

فعلى مسلك الطولية:
فإن اخترنا أنها موضوعة للأول [5] فحينئذٍ يبحث عن أنها موضوعة:
أولاً : للحلال أو الأعم من الحلال والحرام ؛ وذلك لما سبق من التفكيك بين الحكم التكليفي الوضعي:
أ- إذ قد يكون صحيحاً بمعنى كونه مؤثراً أثره لكنه يكون محرماً، ويمكن التمثيل له بعدة أمثلة:
منها: البيع وقت النداء.
ومنها: البيع بغش؛ فإنه حرام وليس بباطل بل للطرف الخيار.
ومنها: البيع أو الطلاق على خلاف الشرط ؛ فإن البعض ذهب إلى أنه صحيح حرام كما لو اشترطت عليه أن لا يتزوج عليها فتزوج الثانية ، فإن مخالفته للشرط حرام لكن النكاح حسب رأي البعض صحيح، ونقل عن السيد الجد (قدس سره) القول بالبطلان لمبناه العام من أن الشروط تنتج حكماً وضعياً بالبطلان استناداً إلى أن مفاد (عند) في (المؤمنون عند شروطهم) هو أنه يقف عنده ولا يتجاوزه وضعاً.
ومنها: أنه قد يكون من أمثلته- على بعض المباني- المحرم لمزاحمته للأهم؛ فإنه على تقدير عصيان الأهم به يكون محرماً لكنه صحيح، كما لو أمره بالجهاد فخالف وانشغل بالتجارة فإن بيعه وشراءه صحيح لكنه محرم بناءً على أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص.
ومنها: ما هو الأولى التمثيل به ، وهو ما لو نهاه عن التجارة أو عن الصلاة في سعة وقتها لتفويتها الأهم كالجهاد أو الحج فإنها محرمة للنهي، وليس النهي ههنا إرشاداً للبطلان، وإن قلنا بأن الأصل في النواهي في المعاملات هو الإرشاد للقرينة العامة على ذلك؛ وذلك لوجود القرينة الخاصة على أنه للتحريم ؛ وذلك لأنه يريد ردعه والردع بالتحريم المولوي المستتبع للعقوبة، وأما كون الحكم بالبطلان رادعاً فإنه وإن صح لكنه لا شك في كونه أضعف ردعاً، وأهمية المفوَّت- كالجهاد- تقتضي الردع الأقوى ، على أن الوجدان شاهد بمولوية التحريم في أمثال ذلك.
وعلى أي فإن التجارة والكسب يكون محرماً حينئذٍ لكنه صحيح إذ لا وجه لبطلانه ؛ فإن وقوعه مفوِّت لا وقوعه صحيحاً ؛ فالصحة والبطلان أجنبيان عن المفوتية فليس شيء منها مقدمةً فلا مجال لتوهم بطلانه من هذه الجهة، فتأمل.
ومنها: لو كان بيعه موجباً لأذى أمه أو أبيه ؛ فإنه حرام لكن لا دليل على بطلانه، ولا بأس ههنا بالإشارة استطراداً إلى الخلاف في حرمة ما يؤدي إلى أذية الوالدين مطلقاً أو في الجملة فقد ذهب بعض الأعلام إلى الحرمة مطلقاً، وذهب بعض الأعلام إلى التفصيل كما اختلفوا في البطلان أيضاً [6].
ب- وقد يكون باطلاً لكن يكون غير حرام، كالبيع بدون شرائطه ككونه غير منجز أو بلا موالاة وكالنكاح والطلاق بغير الصيغة المخصوصة، ويمكن التمثيل له بالمضاربة أيضاً: وهي أن يكون المال يكون من أحدهما والعمل من الآخر والربح بينهما على حسب ما يتفقان عليه، فإذا شرط المالك على العامل أن تكون الخسارة عليهما فالأقوال ثلاثة: أحدها: بطلان الشرط والعقد ذهب إليه بعض، فعلى هذا فالمضاربة باطلة لكنه لم يفعل حراماً، ثانيها: بطلان الشرط دون العقد، ثالثها: صحة العقد والشرط، ذهب إليه صاحب العروة والقليل أو النادر من الفقهاء، قال في العروة: إذا اشترط المالك على العامل أن يكون الخسارة عليهما كالربح أو اشترط ضمانه لرأس المال ففي صحته وجهان، أقواهما الأول لأنه ليس شرطا منافيا لمقتضى العقد، كما قد يتخيل، بل إنما هو مناف لإطلاقه، إذ مقتضاه كون الخسارة على المالك وعدم ضمان العامل إلا مع التعدي أو التفريط) [7].
وأما الأخبار فتدل على انقلاب المضاربة حينئذٍ إلى قرض قهراً، وافتى بعض الأعلام بذلك، فيكون تمام الربح للعامل.
ج- وقد يكون باطلاً محرماً، كالعقد على الأم، وكالربا [8].

تتميم: وجوه أربع لردّ ارشادية النهي في المعاملات [9]
وبعبارة أخرى: أن المولى لو نهى المكلف عن البيع والكسب أو عن الصلاة في سعة وقتها لتفويتها الأهم  -كالجهاد أو الحج المستقر في الذمة أو الواجب في عام الاستطاعة- فإنه قد يقال بأن النهي ارشادي في ما لو تعلق بالمعاملة للقاعدة العامة فيها؛ إذن هي ليست بحرام  بل هي حلال جائز كما هي صحيحة فلم تنفك الصحة عن الحلّية؟
والجواب من وجوه أربع:

النقاش مبنىً
الأول: النقاش مبنىً، بأن قاعدة (الأصل في النهي في المعاملات كونها إرشاداً) [10] دعوى لا دليل عليها؛ والاستقراء الناقص ليس حجة؛ والموارد التي استدلوا بها على ذلك - كالنهي عن الطلاق في غير طهر المواقعة و(نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك)[11] وأشباهها - هي مما علم من الخارج أنها ليست محرمة شرعاً لذا حمل النهي فيها على الإرشاد [12]، وهناك العديد مما بقي على القاعدة العامة في النهي من دلالته على الحرمة كـ: لا تبع وقت النداء، ولا تبع مطففاً، قال تعالى: (إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)[13] وقال جل اسمه: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)[14] فإنه للتحريم لا للتنزيه والإرشاد للبطلان وإلا لما كان وجه للتهديد بل العقاب بالويل وهو وادٍ في جهنم ؛ ولذا نجد أنه لو لم يُعلم من الخارج أن هذه المعاملة محرمة أو محلل وورد عنها نهي فإنه يحمل على التحريم والمولوية.
بل حتى من يرى القاعدة العامة في المعاملات الإرشادية فإنه ينبغي أن يتحير حينئذٍ على الأقل؛  كما لو قال: (لا تبع المصحف للكافر) فهل يفيد الحرمة أو مجرد البطلان؟ فلو لم يعلم من الخارج أحدهما لما كان وجه للحكم بأنه إرشادي إلا على دعوى أن ذلك الاستقراء ، وإن كان ناقصاً لكنه معلّل.
وفيه: أن علته مخدوشة كما فصّل في محله، ومن العلل ما التزمه المحقق النائيني من أن النهي إذا تعلق بالمسبَّب أفاد كونه محجوراً عنه شرعاً [15]، والمحجور عنه شرعاً لا سلطان له عليه كالمحجور عنه عقلاً ؛ فلا تصح المعاملة إذ أراد نقل ما ليس له نقله [16].

وبناءً، بشهادة الوجدان
الثاني: النقاش بناءً، بأن الوجدان شاهد على أن النهي مولوي للتحريم في أمثال ذلك [17] ،  ألا ترى أنه لو قال لخادمه - المشغول بالبيع والشراء  أو بكنس الدار المفوّت بذلك لإنقاذ ابنه من الغرق في الماء  - : ( اترك الكنس أو لا تكنس أو لا تبع ولا تشتر بل انقذ ولدي فوراً) على أنه أمر مولوي وأنه يستحق العقاب بالمخالفة، لا أنه إرشادي إلى ان عملك لا تستحق به عليَّ أجرة!.

ولاقوائية رادعية النهي المولوي
الثالث: أنه لا شك في اقوائية رادعية النهي المولوي التحريمي المستتبع للعقوبة من رادعية مجرد الحكم ببطلان المعاملة؛ فان أكثر الناس لا يعيرون بالاً لحكم الشرع أو القانون ببطلان المعاملة (المفوِّتة للأهم) ، لكنهم ينزجرون إذا علموا أن النهي تحريمي يستتبع العقوبة بالمخالفة، بل حتى لو كان الحكم بالبطلان رادعاً، كما هو كذلك في الجملة، فلا شك أن التحريم المستتبع للعقاب أقوى ردعاً؛ فمقتضى الحكمة من المولى - حفاظاً على اغراضه الملزمة-  التحريم المولوي لا مجرد الإرشاد للبطلان الذي قد يفوِّت بالاقتصار عليه كثيراً من أغراضه الأهم.

ولأن الوقوع مفوِّت لا الوصف
الرابع: ما سبق من (وعلى أي فإن التجارة والكسب يكون محرماً حينئذٍ لكنه صحيح ؛ إذ لا وجه لبطلانه ؛ فإن (وقوعه) مفوِّت لا (وقوعه صحيحاً) ؛ فالصحة والبطلان أجنبيان عن المفوتية فليس شيء منهما مقدمةً ؛ فلا مجال لتوهم بطلانه من هذه الجهة، فتأمل) [18].
والحاصل: أنه ينبغي أن ينهى عما هو مقدمة وهو نفس الفعل [19] لا عما ليس بمقدمة [20]؛ إذ المفوت للأهم نفس انشغاله بالكسب -على الفرض- لا كونه صحيحاً أو باطلاً.

الثمرة في وضع الألفاظ للجائز من المعاملات أو الأعم
الثمرة: وتظهر الثمرة في النزاع في أن البيع وسائر ألفاظ المعاملات:  هل هي موضوعة لخصوص الجائز منها -ولو بوضع تعيّني شرعاً-  أو هي منصرفة إليه في إطلاقات الشارع لمناسبات الحكم والموضوع وغيرها، أو هي موضوعة للأعم غير منصرفة لخصوص الجائز المحلل منها؟
فإن قلنا إنها موضوعة للأخص - أي الجائز منها خاصة-  أو منصرفة إليه فإنه كلما شك في جواز معاملة وعدمها شرعاً [21] فلا يصح حينئذٍ التمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [22] للإلزام بالوفاء بها ؛ إذ يكون حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ؛ فإنه مع الشك في جوازه يشك في أنه عقد أو لا - وضعاً أو انصرافاً-  فكيف يتمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) المتفرع على الفراغ عن كونه عقداً ليقال له أوفوا به؟
وكذلك لا يصح التمسك بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) [23] بناءً على أن المراد من ( أَحَلَّ ) أنفَذَ ، أي جعله نافذاً [24]؛ إذ كلما شك في جوازه [25] شك- على هذا المبنى- في كونه بيعاً ، فكيف يتمسك بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)؟
تنبيه: قد يقال بأن العقد والبيع وسائر ألفاظ المعاملات موضوعة للأعم من الجائز والمحرم، لكنها منصرفة للجائز شرعاً بمناسبات الحكم والموضوع؛ لبداهة أن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) لا يراد به- حسب المرتكز في الأذهان- أوفوا بالعقود المحرمة ولا الأعم منها ومن المحللة؛ لا لأن التقييد لو امتنع امتنع الإطلاق كما ذهب إليه الميرزا [26] ؛ بل للانصراف المسلّم في عرف المتشرّعة، كما أنه لا يراد بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) أي: أنفَذَ الله البيع الحرام، أو أنفَذَ الحرام منه والحلال؛ لأنه خلاف المتبادر للأذهان جداً، أو فقل إن مناسبات الحكم والموضوع صرفته عن الشمول لو فرض وضعه للأعم.

تتمة الثمرة: لا يصح التمسك بالإطلاقات مع الشك في جواز المعاملة
والحاصل: أنه لو قيل بأن البيع وأشباهه موضوع أو منصرف للحلال والجائز منه خاصة، وأن المحرم [27] ليس ببيع شرعاً - بل هو صورة بيع لدى الشارع وإنما يطلق عليه البيع حينما يطلق من باب المجاز بالمشاكلة، وذلك كما أن بيع الفضولي ليس ببيع عرفاً وإنما سمي بيعاً للمشاكلة، وذلك بناءً على أن أسماء المعاملات موضوعة للمسببات-  أوضح، فلو شككنا في مدخلية أمر في حلية العقد مطلقاً أو البيع خاصة بأن شك مع فقده في أن هذا البيع جائز أم لا ؟ فلا يصح التمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[28] أو (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)[29] لأنه حينئذٍ من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ويظهر ذلك بملاحظة الأمثلة التالية:

لو شك في حلية فعل مودٍّ لأذية الوالدين
المثال الأول : لو شك في أن هذا البيع لو كان سبب إيذاء أحد الأبوين فهل هو حرام أم لا؟ فقد أطلق بعض الأعلام حرمة ما يسبب ايذاءهما، بينما خصّها بعض [30] بما كان انتهاكاً لهما بما هو من شأنهما مما لو كان على غيرهما لكان محرماً فيكون فيهما أشد حرمة، دون ما كان من شأن الابن كالتزوج بهذه أو شراء هذا أو بيعه ؛ فإنه ليس بحرام إذا لم يفعله بقصد إيذائهما، وخصّ بعض الحرمة بما إذا نهاه أحدهما عن أمر شفقةً عليه وكان أحدهما يتأذى بالمخالفة فهذا هو المحرم من الأفعال التي تؤدي إلى إيذاء أحدهما دون ما إذا نهاه أحدهما عن أمر لا للشفقة عليه، بل كان النهي حسداً أو حقداً أو بلا وجه وكانا يتأذيان بالمخالفة فإنه ليس بمحرم فعل ما يؤدي إلى إيذائهما حينئذٍ.
وعلى أي فلو شك في مدخلية رضاهما أو عدم تأذيهما في جواز هذا الأمر -كالزواج أو السفر أو التجارة- فإنه يشك في حليته وحرمته، ومع القول بوضع ألفاظ المعاملات أو انصرافها للحلال فإن التمسك بمثل (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، أما على القول بالأعم فيصح لصدق البيع موضوعاً بلا انصراف فيشمله أحل حكماً.

لو شك في حلية بعض أنواع الكالي بالكالي [31]
المثال الثاني:  لو شك في حلية بعض أنواع الكالي بالكالي؛ فإن بعض الأعلام فصّل بين ما لو كان المتعلَّق عيناً شخصية مقابل مبلغ خارجي شخصي وقد اشترطا تأخير التسليم إلى مدة معينة، فحكم بالجواز، وما لو كان كلياً في الذمة لكلي في الذمة واشترطا التأجيل فحكم بالبطلان؛ لأنه من الكالي بالكالي، مع أن ظاهر إطلاق البعض الآخر تعميم الجواز[32].
ولا يخفى أن هذا المثال كلاحقه يصلح مثالاً لكلا البحثين على التقديرين: بحث أن ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو الأعم ، وبحث أن ألفاظها موضوعة للجائز أو الأعم؛ وذلك على تقديري القول بأن بيع الكالي بالكالي باطل فقط ، والقول بأنه حرام  ؛كما قد يدّعى لما فيه من الاخطار والاضرار وكونه منشأ الفساد كما ظهر ذلك اقتصادياً وعلى مستوى العالم في الانهيارات الاقتصادية الكبرى التي حدثت في الأعوام الماضية [33] والتي كان من أهم مفرداتها بيع الكالي بالكالي والدين بالدين، فتأمل.

لو شك في صحة المضاربة بشرط كون الخسارة عليهما
المثال الثالث:  لو شك في جواز -أو صحة-  المضاربة لو اشترط كون الخسران عليهما معاً ،  وذلك في صورتين:
الأولى: ما لو شك في أن هذا الشرط خلاف مقتضى العقد أو خلاف إطلاقه؟ فإنه إذا أحرز الفقيه أنه خلاف مقتضى العقد حكم ببطلانه (أو حرمته) [34]،  وإذا أحرز أنه خلاف إطلاقه -كما صار إليه صاحب العروة خلافاً للمشهور- حكم بصحته وجوازه، فلو شك كان من مصاديق مسألتنا هذه.
الثانية: لو شك في أن الشرط الفاسد مفسد للعقد أم لا، فلو أحرز الفقيه أنه مفسد أو أحرز عدمه فهو، ولو شك ظهرت الثمرة في هذه الصورة.

هل أسماء المعاملات موضوعة للكامل أو الأعم
المبحث الثاني [35]: هل أسماء المعاملات موضوعة أو منصرفة للكامل منها أو للأعم منه ومن غير الكامل ؟ لا بمعنى الناقص غير المستجمع للأجزاء والشرائط ليرجع إلى بحث الصحيح والفاسد بل الكامل وغير الكامل من الصحيح ،  فمثلاً: البيع اللازم، صحيح كامل ،  والبيع المتزلزل بيع صحيح لكن غير تام،  فهل البيع موضوع - أو منصرف-  للصحيح الكامل أو للصحيح الأعم من الكامل وغيره؟ هذا.
وأمثلة غير الكامل كثيرة:
منها: البيع قبل القبض ؛ فإنه متزلزل.
ومنها: البيع معاطاة ؛ فإنه يفيد الملك المتزلزل على رأي.
ومنها: الهبة لغير ذي الرحم ؛ فإنها جائزة قبل التلف أو التصرف.

أمثلة أخرى لغير الكامل من العقود
والكمال والنقص يوصف بهما العقد تارة بلحاظ ذاته وأخرى بلحاظ متعلَّقه، والمراد من (ذاته) النقل ، ومن متعلقه (المنقول) وإن سرى حكم أحدهما للآخر تبعاً، والمقياس المصب فقد ينعكس الأمر في الأمثلة الآتية بحسب اللحاظ والمصب.
ومن أمثلة الأول: كل ما أفاد النقل المتزلزل، أو نقل التمليك المتزلزل والملك المتزلزل بالتبع، كما فيما سبق من الأمثلة في البحث السابق.
ومن أمثلة الثاني: ما لو باع المغشوش؛ فإنه غير كامل بلحاظ المنقول وإن تبعه النقل ، وأيضاً:

بيع المشاع
منها: بيع المشاع؛ فإنه بيع لذا لا يجري فيه بحث الصحيح والأعم لمسلّمية كونه بيعاً صحيحاً عرفاً وشرعاً لكنه من الصحيح غير الكامل، فقد يقال بانصراف البيع إلى الصحيح الكامل منه وأنه لو باعه هذه الدار مثلاً فظهر كونها مشاعاً كان له الخيار إن كان كونه ملكاً صرفاً شرطاً وكان باطلاً إن كان قيداً، وجريان خيار تبعض الصفقة فيه مبني على الأول.
وعلى أي فإن (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)[36] وإن شمل المشاع وضعاً لكنه لا يشمله انصرافاً في البيوع المعهودة التي لم يصرح فيها بكونه مشاعاً- مع جهل المشتري بالاشاعة-  فليس بنافذ أو هو باطل، على الوجهين.
وعليه: يشك في شمول الآية للبيع المشاع بناءً على الأخصي وتشمله بناءً على الأعمي ، فتأمل.

بيع المستأجَر لمدة طويلة
ومنها[37]: بيع المستأجَر لمدة طويلة جداً كمائة سنة مثلاً، حيث إن القانون الوضعي في بعض الدول[38] يرى انقلاب الإجارة لمدة مائة سنة إلى تمليك وبيع، لكنه غير صحيح لدينا، ومورد الكلام أنه لو باعه داره التي أجّرها للغير بإجارة معهودة كسنتين مثلاً فإنها تنتقل إليه مسلوبة المنفعة فلو لم يكن عالماً بذلك كان له الخيار، لكن لو كان أجّرها للغير لمدة طويلة جداً، ثم باعها لزيد وهو لا يعلم فهل العقد باطل أو له الخيار صرفاً؟
 وجه الأول: أن العين المستأجرة لمدة طويلة جداً ناقصة بحد صحة دعوى انصراف (البيع) في حالة الجهل بالإجارة عنها فلا يشملها (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) على الأخصي، واما لو قلنا بأن البيع أعم- من الصحيح والناقص- فيشمل ، فتأمل.

بيع مالية الشيء دون مشخصاته
ومنها: أنها لو باعته مثلاً الدار أو الأشجار التي ورثت قيمتها من زوجها المتوفى[39] ولم يكن عالماً بذلك، فقد يقال بالبطلان بناءً على الأخصي، والصحة مع الخيار بناءً على الأعمي؛ وذلك لأن كامل البيع هو بكون متعلَّقِه مملوكاً ومنقولاً بجوهره وبحجمه أي بماليته وبمشخصاته، أما ناقِصُهُ فهو نقل ماليته فقط دون مشخصاته، فصحة أصل البيع في صورة جهل المشتري وعدمها منوطة بكون البيع موضوعاً للأعم غير منصرف للأخص فهو صحيح ، غاية الأمر أن له الخيار للغبن مثلاً، أو كونه موضوعاً للأعم منصرفاً للأخص [40] فهو باطل ؛ إذ ما وقع غيره وما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع، فتأمل.

الهبة والهدية والفرق بينهما
ومنها: الهبة والهدية، لو شك في كون الهدية قسماً من الهبة أو قسيماً لها ، وأنها بناءً على كونها قسيماً تفيد الإباحة - بدون العقد اللفظي-  دون الملك ، وتوضيحه:

الأقوال والمحتملات الأربع في النسبة بين الهدية والهبة
1- أن الهبة قد يقال بكونها مساوية للهدية وإن كان وجه التسمية لأجل لحاظين وجهتين، نظير الحائط والجدار.
2- وقد يقال بكونها أعم مطلقاً من الهدية؛ استناداً إلى أن الهبة مطلق التمليك المجاني بلا عوض [41] ، وأما الهدية فتفتقر إلى حمل المهدى من مكان إلى آخر.
قال في الجواهر: (أن الهبة أعم من الصدقة، لاشتراطها بالقربة دونها، وأن الهدية أخص من الهبة أيضاً لأنها تفتقر إلى حمل المهدى من مكان إلى مكان، فلا يقال: أهدي إليه داراً أو عقاراً ، بل يقال: وهبه ذلك، فلو نذر الهبة بريء بالصدقة والهدية، ولو حلف أن لا يهب حنث إذا تصدق أو أهدى، دون العكس، وهل يعتبر في حد الهدية أن يكون بين المهدي والمهدى إليه واسطة أو رسول وجهان: أظهرها العدم) [42].
وقال السيد الوالد في الفقه: (ان الهدية عبارة عما فيه انتقال، يقال: أهديت كتابي لزيد، ولا يقال: اهديت داري إلا مجازاً)[43].
أو يقال : إن الهبة أعم لجهة أخرى ، هي أنها أعم مما كان مع احترام وتقدير أم لا، أما الهدية فهي خصوص ما كان مع التقدير والاحترام.
3- وقد يقال: بأنهما متباينان؛ فالهبة عقد يحتاج إلى إيجاب وقبول وهي تفيد الملك، والهدية ليست بعقد بل هي إيقاع وتفيد الإباحة.
4- وقد يقال: بأن للهبة إطلاقين؛ أعم فتشمل الهدية، وأخص فتباينها.
قال في العروة: (وهي بالمعنى الأعم تمليك مال بلا عوض، فترادف العطية، وتشملُ الهديةَ والجائزة والنحلة والصدقة والوقف، وبهذه الملاحظة عبر المحقق في الشرائع بكتاب الهبات، وأما بالمعنى الأخص فتقابل المذكورات)[44] .
وقال : (حقيقة الهبة ليست إلا صِرف التمليك من غير ملاحظة عنوان آخر، وكذا الهدية إذ لوحظ فيها إرسال شيء إلى شخص بقصد الإكرام والإعظام فهي أيضا ليست تمليكاً محضاً)[45].
وقال: (: يشترط في الهبة الإيجاب والقبول)[46].
وقال: ( ذهب جماعة إلى أن الهدية مثل الهبة في الحاجة إلى الإيجاب والقبول اللفظيين وأنها بدون العقد اللفظي تفيد الإباحة لا الملكية والأقوى عدم حاجتها إلى ذلك، بل ولا إلى المعاطاة، بل يكفي فيها الإرسال من المهدي ووصولها إلى المهدى إليه، وأنها تفيد الملكية)[47].
وظاهر قوله (قدس سرة) : (إن الهدية مثل الهبة) كونهما متباينين.
ولعله يظهر من صاحب الرياض التباين، كما عن الفقه : (أما ما عن الرياض من عدم المشروعية[48] في الهبة ومشروعيتها في الهدية غير ظاهر الوجه، اللهم إلا أن يستدل له بثبوت المعاطاة في الهدايا، وتبقى الهبات على أصالة عدم المشروعية)[49]، والكلام عن اشتراط العقد القولي، وانه تكفي أو لا تكفي المعاطاة.

الثمرة
وموطن الشاهد انه لو أحرز الفقيه ترادف الهبة والهدية فأحكامها أحكامها ، ولو أحرز التباين فأدلة الهبة لا تنفع لمعرفة أحكام الهدية، ولو أحرز أعميّة الهبة من الهدية كانت أدلة الهبة نافعة لبيان أحكام الهدية دون العكس إذ لعلها من خواصها[50].
لكن الكلام فيما لو شك الفقيه في أن الهدية مرادفة للهبة أو مباينة ودلّت أدلة الهبة على أنها مملِّكة وقلنا بأن الهدية-  على فرض الالتزام بأنها مباينة-  إنما هي مبيحة، فشك أنها هبة لتكون مملكة أو لا لتكون مبيحة؟
فالكامل هو المملك ، والناقص هو المبيح، فلا يصح التمسك ب (أوفوا بالعقود) لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية؛ إذ لا يدرى أهي عقد أم لا؟  ، كما لا يصح التمسك بأدلة الهبة إذ لا يدري أنها – الهدية – هبة أم لا؟
وفيه: أن مردّ ذلك إلى الشك في العنوان والموضوع، وأما الكمال والنقص فأمران متفرعان عليها؛ فسواء أقلنا بأن لفظ العقد منصرف للكامل أو لا ؛  فإنه لا يضر ولا ينفع في معقد البحث هنا ؛ لأن الشك في كونها هدية أو هبة هو شك في أمر سابق رتبةً تكون على أحدهما عقداً وعلى الآخر لا.
اللهم إلا أن يقال بأن الهبة على قسمين مملّكة ومبيحة، ثم شك أن الهدية بناءً على أنها منها مملكة أو مبيحة فالمملك هو الكامل والمبيح هو الناقص فلا يمكن التمسك ب(أوفوا بالعقود) للقول بان الهدية تفيد الكامل إذ الحكم لا ينقح الموضوع ،فتأمل.
نعم ، تظهر الثمرة بناءً على إحراز أنها عقد ، لكن شك أنها مبيحة أو مملّكة فهل يصح التمسك ب(أوفوا بالعقود)؟.

تلخيص فيه تحصيل: النسبة بين الهبة والهدية
سبق أن في النسبة بين الهبة والهدية احتمالات أربع: التساوي والتباين والعموم المطلق،  ونضيف: العموم من وجه ، ولعله ظاهر إحدى عبارات الجواهر، إضافة إلى الاحتمال الآخر وهو أن يكون للهبة إطلاقان: أعم تشمل به الهديةَ والصدقة والمنحة والعطية ونثار العرس، وأخص تكون به مباينة لها جميعاً.

أدلة مباينتها لها
وقد يستدل على المباينة بأحد أمور:
أ- ان الهدية قوامها بكونها مما يتقرب به الـمُهدي إلى المهدى إليه، عكس الهدية ولذا تطلق الهبة على الله تعالى كما في :  (يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ)[51] و : (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)[52] ولا تطلق عليه الهدية وأنه الـمُهدي أو أهدى، إلا توسعاً ومجازاً، إذ لا يتقرب الله تعالى إلى العبد.
ب- أن الهدية متقوّمة بالتقدير والاحترام عكس الهبة.
ج- أنها متقوّمة بالنقل والانتقال، عكس الهبة فإذا كانت تقبل النقل والانتقال وحملها إليه، كالكتاب، كانت هدية وإلا، كالدار، كانت هبة.
د- أنها متقوّمة بوجود الواسطة أو الرسول، عكس الهبة.
لكن هذه الوجوه الأربع- حتى لو فرض تمامية بعضها- أعم من الدلالة على المباينة ؛ إذ تصلح دليلاً على العموم المطلق أيضاً.
كما أن ما نقلناه عن صاحب الرياض أيضاً صالح لتفسيره بالعموم المطلق؛ بالقول أن الهبة بشكل عام تتوقف على العقد اللفظي ولا تكفي فيها المعاطاة إلا الهدية من أقسامها فتكفي فيها المعاطاة للدليل الخاص وهو سيرة النبي (صلى الله عليه واله) والأئمة (عليه السلام) وشبه ذلك.

الثمرة: في أربع صور
والثمرة تظهر في أمور :
أ- فيما لو أحرز الفقيه أن الهدية عقد، بناءً على المباينة بينها وبين الهبة.
ب- بل وبناءً على أنها أخص منها مطلقاً وقلنا بأن الهبة عقد وأنها نوعان: مملِّكة ومبيحة ،  وأن المملِّك منها لازم ومتزلزل ؛ وشك في أن الهدية من قسم المملك بأحد قسميه أو المبيح.
ج- دون ما تردد أمر الهدية- بناءً على المباينة-  بين كونها عقداً أو إيقاعاً ؛ إذ على هذا الأخير لا تشملها (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[53] [54] لأنه من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية؛ إذ لا يعلم أعقد هي أم لا.
د- ودون ما لو تردد أمرها- بناءً على كونها أخص مطلقاً من الهبة-  بين كونها عقداً أو إيقاعاً إذا قلنا بأن الهبة على نوعين عقد وإيقاع، وهذا هو الذي ينسجم مع الإطلاق الأعم لها.

لو أحرز أن الهدية عقد وشك انها لازمة أو جائزة
أما في الفرضين الأولين[55] ؛ فإنه بعد إحراز أنها عقد فلو شك أنها مملِّك بنحو اللزوم أو بنحو الجواز والتزلزل:

الثمرة بناءً على أعمية العقود من الكامل والناقص أو الأخصية
فإنه بناءً على أعمية (العقود) من الكامل والناقص فإن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يشمل الهدية حينئذٍ بلا إشكال فتفيد لزومها، دون ما لو قلنا بأخصية العقود ولو للانصراف للكامل وأن الناقص من العقود [56] غير مشمول لأوفوا بالعقود بدعوى لزوم التناقض من شموله لها إذ مفاد (أَوْفُواْ) هو لزوم الوفاء بالعقد وعدم صحة فسخه فهو لازم غير متزلزل فكيف يشملُ العقدَ الجائزَ - أي المتزلزل بذاته- كالمضاربة مثلاً؛  إذ عليه يكون مفاد (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) متناقضاً في العقود الجائزة؛  إذ تكون حينئذٍ جائزة بمقتضى ذاتها والإجماع ولازمةً بمقتضى وقوعها متعلقاً لأوفوا (والكلام كله في العقد الجائز ذاتاً بدون شرط اللزوم فيه بناءً على صحة هذا الشرط، إذ الكلام عن أن (أَوْفُواْ) هل يشمل العقد الجائز بذاته ابتداءً وبما هو هو، لا بعد الشرط فإنه بحث آخر.
والحاصل: أنه إن قلنا بأن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) منصرف للكامل [57] فإنه لا يشمل- اقتضاءً- العقد الناقص [58]- سواء علم بأنها تفيد الملك المتزلزل أم شك أنها تفيد الملك المتزلزل أم اللازم،  والكلام الآن على الأخير-  إذ على الانصراف للكامل؛ فمع الشك في الهدية وأنها تفيد النقل الكامل أو الناقص فإن التمسك بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية، وكذا الحال في كل عقد شك في لزومه وجوازه.

المحتملات في (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)
نعم ذلك مبني- كما أشرنا إليه-  على تحقيق معنى (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)؛ فنقول: أنه تحتمل فيه ثلاث احتمالات:

الوفاء بالعقد نفسه
الأول: (أوفوا بالعقد نفسه) مقابل فسخه (بدون التراضي).

الوفاء بمقتضاه
الثاني: (أوفوا بمقتضى العقود) مقابل عدم ترتيب آثارها.
فإن أريد الأول: لم يشمل مثل المضاربة وسائر العقود الجائزة كالهبة حتى بعد القبض [59] للدليل الخاص على جوازها -من كونها عرفاً كذلك والإجماع وغير ذلك- فإن شمول (أَوْفُواْ) لها موجب [60]  للتناقض أو رفع اليد عن المسلّم به من جوازها.
وإن أريد الثاني: شملها؛ إذ يكون حينئذٍ أجنبياً عن الجواز واللزوم ووجوب الوفاء بأصل العقد بعدم فسخه، بل يكون المراد أن العقود لازمة كانت أو جائزة (أَوْفُواْ) بها ، أي رتبوا آثارها عليها واعملوا بمقتضاها؛  فمثلاً (المضاربة) وإن كانت عقداً جائزاً لكنه مادام لم يفسخ أحد الطرفين فعليهما تقسيم الربح مثلاً بينهما حسبما اتفقا عليه، وكذا الوكالة فإنها عقد جائز فمادام لم يعزله فإن عليه أن يرتب عليها آثارها فلو باع الوكيل داره وكالة عنه صح البيع ولزم إذا لم يكن فيه أحد الخيارات، وكذلك الهبة فإنه مادام قد أهدى فعليه أن يسلم الهدية إليه مثلاً إلا إذا فسخ.

الأعم منهما
الثالث: وهو الظاهر: أن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) أعم منهما ؛ فكل ما لم يدل الدليل على استثناء الأول (وعلى كونه جائزاً) فتفيد كليهما [61]، وكلما دل على استثناء الأول بقيت دلالة (أَوْفُواْ) على حالها بالنسبة للثاني ولو دل الدليل على استثناء الثاني فرضاً [62] بقي أوفوا دالاً على الأول وعلى غير المستثنى من المقتضَيات.
ولا يرد : أن التعميم يكون من استعمال اللفظ في أكثر من معنى؛ لما سيأتي.

الثمرة في بحث تطبيقي: العام الفوقي والتحتاني والمخصص له
وتظهر الثمرة [63] فيما إذا كان لنا عام فوقاني، ثم عام تحتاني ، ثم ما هو أخص من التحتاني وشك في اندراجه في التحتاني أو الفوقاني؛ فإنه لو كان منفصلاً اندرج مورد الشك في التحتاني ولو كان متصلاً اندرج في الفوقاني ؛وذلك بناءً على القول الأخص لا على الأعم من حيث الكمال والنقص ، توضيحه:

(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) مع (الهبة يرجع فيها)
إنه ورد (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[64] وهو العام الفوقاني إذ يشمل كل العقود، ثم ورد عام آخر أخص مطلقاً منه، لذا سمي بالتحتاني، يستثني الهبة [65] مثلاً، كصحيحة جميل والحلبي عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ) [66].
وصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الباقر (عليه السلام): (الْهِبَةُ وَالنِّحْلَةُ يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ شَاءَ حِيزَتْ أَوْ لَمْ تُحَزْ إِلَّا لِذِي رَحِمٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ)[67].

مع (الهبة لذي الرحم لازمة)
وأما الأخص من العام التحتاني فهو الهبة لذي الرحم حيث استثني في الصحيحة الثانية.
وحينئذٍ فالرحم القريب كالأخ والعم والخال حكمه معلوم أنه من الاستثناء من العام التحتاني، وحكمه اللزوم مطابقاً للعام الفوقاني، وأما الرحم البعيدة جداً كالمشترك معناً من الألمان أو اليابانيين في آدم مثلاً فإنه ليس برحم شرعاً قطعاً عرفاً ولا شرعاً، ولكن تبقى بعض الحدود الوسطى مجهولة أنها من المستثنى أم من المستثنى منه [68] ، فهل تلحق بالعام الفوقاني (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) أو بالعام التحتاني كالصحيحتين السابقتين وكـ: ((الْهِبَةُ جَائِزَةٌ قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ قُسِمَتْ أَوْ لَمْ تُقْسَمْ وَالنُّحْلُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يُقْبَضَ وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّاسُ ذَلِكَ فَأَخْطَئُوا))[69]

المقياس انفصال المخصص واتصاله
ذلك مبني على ورود الأخص من التحتاني بشكلِ مخصصٍ متصلٍ بالعام التحتاني كما في صحيحة محمد مسلم السابقة، أو بشكل مخصص منفصل عنه كما لو وردت في رواية مستقلة فتكون استثناء من صحيحة جميل والحلبي؟

إذا كان المخصص متصلاً فالمرجع العام الفوقاني
أ- فإن كان المخصص متصلاً كما في صحيحة محمد بن مسلم سرى إجماله للعام ؛ إذ الفرض أن (ذي الرحم) مجمل من حيث الحدود الوسطى؛ إذن لم ينعقد لهذا العام عموم لها مادام قد اتصل به مجمل ، فإنه إن انفصل عنه استقر عمومه أما مع اتصاله فلا ؛ إذ للمتكلم أن يلحق بكلامه ما شاء مادام متكلماً.
وعليه: يكون العام الفوقاني هو المرجع فتكون الهبة لذي الرحم المتوسطة لازمة كالهبة لذي الرحم القريبة، أي يكون المرجع (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ).
بعبارة أخرى: للهبة مصاديق:
1- غير ذي الرحم وهو مشمول للمستثنى منه وأنه جائز قطعاً: ((الْهِبَةُ وَالنِّحْلَةُ يَرْجِعُ فِيهَا إِنْ شَاءَ)).
2- الرحم: لازمةٌ قطعاً: ( إِلَّا لِذِي رَحِمٍ ).
3- المشكوك (الرحم المتوسط) فلا يعلم دخوله في المستثنى منه وهو جواز الهبة فيبقى على أصل اللزوم نظراً لأوفوا بالعقود إذ لا يعلم إخراج العام التحتاني له.

إذا كان المخصص منفصلاً فالمرجع العام التحتاني
ب- وأما إن كان المخصص [70] منفصلاً فان عموم العام التحتاني ((إِذَا كَانَتِ الْهِبَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ)) منعقد مستقر وهو المتقدم على العام الفوقاني لكونه أخص منه مطلقاً فقد اقتطع التحتانيُّ من الفوقانيِّ هذه الحصةَ أي (الهبة لذي الرحم) ثم يشك في خروج ذي الرحم المتوسطة من العام التحتاني (بعد فرض دخوله لانعقاد عمومه) فيبقى على الأصل التحتاني فتكون الهبة لذي الرحم المتوسط جائزة أي يكون المرجع "له ان يرجع فيها".
مثال توضيحي: لو ورد عام فوقاني كـ: (أكرم الأصدقاء) وعام تحتاني كـ: (لا تكرم فساق الأصدقاء) ومخصِّص له كـ: (أكرم فساق الأصدقاء إذا كان إكرامهم مقدمة لهدايتهم) فان المخصص لأنه منفصل عن العام التحتاني فعمومه (التحتاني) منعقد فلو شك في ما كان مقدمة بعيدة جداً للهداية انه من الاستثناء أي من (المقدمة) – وضعاً أو انصرافاً – وعدمه، فان عموم (لا تكرم فساق الأصدقاء) لأنه انعقد، بالانفصال، فلا يخرج منه إلا ما أحرز انه مقدمة وضعاً مع عدم الانصراف عنه فالعام التحتاني هو المحكم.
وذلك عكس ما لو اتصل الاستثناء بالعام التحتاني كما لو قال: (لا تكرم فساق الأصدقاء إلا إذا كان إكرامهم مقدمة) فان المقدمة حيث اجملت (في البعيدة) وأُجمل المستثنى فقد أُجمل المستثنى منه لاتصاله به فالعام الفوقاني حينئذٍ هو المحكم فيجب إكرام من كان إكرامه مقدمة متوسطة وإن كان فاسقاً، اما ذو المقدمة البعيدة فلا يكرم كغير ذي المقدمة.

وجه عدم تحريم التدخين وأشباهه
تنبيه: حيث وقع الشك في صدق المقدمة – وضعاً أو انصرافاً – على المقدمات البعيدة جداً، لذلك لم يفتِ العلماء بحرمة التدخين؛ مع أنه لا شك في أنه علة بعيدة للموت ؛إذ يسبب أمراض السرطان في الحنجرة والرئة وغيرها وحسب الإحصاء فان خمسة ملايين شخص يموتون سنوياً من أمراض التدخين وهو رقم كبير جداً والضرر والخطر كبير جداً، لكن مع ذلك لم يحرِّم العلماء التدخين رغم مسلمية مقدميته [71] وذلك لأن مقدميته بعيدة إذ هي بتراكم التدخين لسنين طويلة فهو نظير البِطنة فإن (أكثر أهل المقابر من التخمة) ولو حرم الشيء لمقدميته البعيدة لوجب القول بحرمة أشياء كثيرة جداً [72].
نعم ، لو كانت مقدمية التدخين قريبة بأن كانت كالسم موجبة للموت بعد ساعة أو يوم مثلاً كانت محرمة، بل للحرمة وجه آخر قبل المقدمية رتبة وهو كونها ضارة أو من الخبائث، فتدبر.

استحالة إرادة العقد وآثاره من (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)
ولكن قد يورد على أن المراد من (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[73] الأعم من الوفاء بالعقد نفسه مقابل عدم فسخه ومن الوفاء بآثاره مقابل ترتيب الأثر عليه: أنه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال.
الجواب
والجواب من وجوه:

لا استحالة، مبنىً
الوجه الأول: مبنىً بأن المحال استعمال اللفظ في أكثر من معنى على أن يكون كل منها بشرط لا، دون ما إذا كانت بنحو لا بشرط ؛ إذ اللابشرط يجتمع مع ألف شرط، أي أن يكون كل منها مقصوداً بالاستقلال إن أريد به البشرط لائية، ولعله يندر قصد ذلك ؛ فبحثه قليل الجدوى، وفي المقام: يراد كل منها لا بشرط أو على أن يكون كل منها بعض مدلوله نظير دلالة الجمع على أحاده، فتأمل.

هناك جامع بين المعنيين
الوجه الثاني: بناءً، بأنه يوجد جامع بين المعنيين؛ وذلك لأن الجامع إما ذاتي، بذاتي باب الايساغوجي أو البرهان، وإما عرضي وإما اعتباري أو انتزاعي؛ فالجسم والجوهر جامع ذاتي من باب الكليات لزيد والحائط، والماهية جامع بذاتي باب البرهان، والأبيض جامع عرضي إذا كان كلاهما أبيض، وأحدهما جامع انتزاعي إذ لا يوجد في الخارج أحدهما بل الموجود هذا بعينه وذاك بعينه، والاعتباري ككونه مملوكاً أو مسمى باسم كذا.
وفي المقام: الجامع بين نفس العقد وآثاره هو  العقد من حيث نفسه ومن حيث آثاره؛ فالجامع هو (العقد) والانقسام هو بلحاظ حيثياته، فلا نقول- بناءً على هذا الجواب- إن (أوفوا) يعني: أوفوا بالعقد وأوفوا بآثاره، بل معناه: أوفوا بالعقد من حيث نفسه ومن حيث آثاره.
لا يقال: العقد هو هو فلا معنى لتقسيمه إليه من حيث نفسه ومن حيث آثاره أو غيرها؟
إذ يقال: الاختلاف باللحاظ، والعينية بالذات.

الطولية حل آخر
الوجه الثالث: الطولية: بأن يقال إن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يفيد لزوم الوفاء بالسبب ويتبعه لزوم ترتيب الآثار نظير دلالة اللفظ على ملزومِ لازمٍ مّا؛ فإنه يدل على لازمه لكن دلالته على الملزوم بالوضع وعلى اللازم بالعقل، ونظير قولك (أكرم زيداً) الدال على إكرام ابنه وعبده لأنه من شؤونه؛ فهو لازمه عرفاً وإن لم يلزمه عقلاً إن لم نقل بأن إكرامه إكرامه، لا لأن زيداً دل بنفسه على زيد وعلى عبده ليكون من الاستعمال في أكثر من معنى.
لكن هذا وإن صح لكنه لا يصحح شمولية الآية للعقود الجائزة، لاستحالة إرادة العقد فيها بل المدار الآثار ومع انتفاء الملزوم ينتفي اللازم، إلا من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

المراد بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) الجائزة أو اللازمة؟
ثم أن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) كما سبق إما أن يقال فيه بأن العقد موضوع أو منصرف للّازم فلا يشمل الجائز أو أنه أعم من اللازم، فيرد أنه لا معنى لكونه أعم ؛ إذ الجائز كيف يكون مشمولاً لأوفوا وإلا لكان الجائز لازماً هذا خلف؛  إذ الحاصل: أن العقد الجائز -كالمضاربة والوكالة- صار ببركة أوفوا لازماً فلزم انقلابه، وهذا مما لم يقل به أحد من العلماء أو العقلاء، كما أن اللازم لازم فلا معنى للأمر بالوفاء به؟.

خمسة أجوبة
والجواب بوجوه[74]:
الأول: أن العموم هو للفرد المشكوك بينهما لا للجائز بعد اللازم؛ إذ أفراد العقد ثلاثة: اللازم والجائز والمشكوك، وموطن الثمرة والكلام في المشكوك وأن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يفيد لزوم الوفاء بالعقود اللازمة كما يفيد لزوم الوفاء بالعقود المشكوك أنها جائزة أو لازمة؛ وذلك لأنها عقد فتفيد الآية لزومه، فالفرق بين العقود اللازمة والمشكوكة أن اللازمة لازمة قبل تعلق الآية (أَوْفُوا) بها والمشكوكة لازمة بعد تعلقها بها وببركتها.
والحاصل: أن (العقود) كلّي طبيعي فيشمل اللازمة والمشكوكة، وخرج منها الجائزة إما للانصراف والتخصص على الأخصي، أو للدليل الخارجي على جوازها والتخصيص على الأعمي.
لا يقال: الأمر بالوفاء بالعقود اللازمة طلب للحاصل، فهو لغو.
إذ يقال: كلا لما يأتي في الجواب الثاني والثالث:
الثاني: أن المراد أن العقد اللازم عرفاً لازم شرعاً ،أي يجب الوفاء به شرعاً.
الثالث: أن العقد اللازم اقتضاء تكويناً اعتبر لازماً في عالم التشريع أيضاً.
الرابع: أن التأسيس في مثل بطبعه ذلك لا مانع منه كما فصلناه سابقاً من أنه في الأمور التشكيكية ليس من تحصيل الحاصل لأن مصبه بعض المراتب، فيفيد المرتبة الأعلى ويزيد الداعوية ، إلى غير ذلك مما سبق فراجع.
الخامس: أن الجائز من العقود مشمول لـ(أَوْفُواْ) بلحاظ آثاره، أي يجب ترتيب آثاره مادام لم يفسخ بأن يقسِّم المضارِبُ الربحَ بينهما مثلاً مادامت المضاربة قائمة ولم تفسخ.

الأدلة على أصالة اللزوم حسب الشيخ
ثم  إن الشيخ ذكر وجوهاً لأصالة اللزوم منها: الاستصحاب؛  إذ أنه بالعقد نقل إليه الملكية فإذا شك أنه نقلٌ لازمٌ أو جائزٌ فَفَسَخَ فأنه لا يُعلم أنه خرج عن ملكيته أو لا، فنستصحبها، لكن هذا أصل عملي محله بعد الأصول اللفظية ؛ وقد ذكر الشيخ منها:
((إِنَّ النَّاسَ مُسَلَّطُونَ عَلَى أَمْوَالِهِمْ))[75] و((لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ))[76] و(وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)[77] ووجه الاستدلال بها جميعاً واحد؛ وهو أن المنتقَل إليه مالكٌ غاية الأمر لا يعلم أنه متزلزل أم لازم فلا يحل لي [78] إن استرجع ماله إلا بطيب نفسه وهو مسلط على ماله ولا يحل لي أكل ماله بالباطل.
ولا مجال لتوهم أنه ثبّت العرش ثم انقش ؛ إذ كل ذلك فرع كونه مالاً لازماً لا متزلزلاً؛ إذ إطلاق أموالكم ومال امرئ شامل للصورتين، فتأمل.

وما ذكرناه وجه آخر
وعلى أي فإن ما ذكرناه بالبيان الآنف هو وجه آخر[79] لإثبات أصالة اللزوم في العقود وهو ان (العقود) أعم من العقود اللازمة فتشمل المشكوك أمرها وتخرج [80] منها الجائزة بالدليل، أو فقل انها كلِّي طبيعي تنطبق على الأولين وخرج الثالث بالدليل.
نعم، إن قلنا بأن العقود موضوعة للأخص - أي اللازمة منها، أو منصرفة إليها- فإنه لا يمكن التمسك بالآية لإثبات أصالة اللزوم في المشكوكة لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، فتدبر.                 
ومن المحبّذ التمثيل أخيراً لما يصلح أن يكون مثالاً فقهياً للمشكوك في صحته وبطلانه أو المشكوك في كماله بلزومه ونقصه بتزلزله، فيكون على الأول مما يدور في فلك مبحث أنه هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد وعلى الثاني يكون مرتبطاً بمبحث أنها هل هي موضوعة أو منصرفة للكامل أو لا بأن تعمّ الناقص أيضاً، وذلك المثال هو بيع الرهن؛ فإنه قد يقع البحث عنه في موضعين:

هل يصح بيع الرهن؟
الموضع الأول: هل يصح بيع الرهن بدون إذن الراهن أو أنه باطل؟
هل يصح بيعه مع العلم بالإذن أو بفكه؟
الموضع الثاني: أنه لو علم بأنه سيأذن له المرتهن أو علم بأنه سيفكه، فهل البيع صحيح أو باطل وعلى فرض الصحة فهل يصح البيع الآن كاملاً أو يقع ناقصاً متزلزلاً ؟ فإن أَذِنَ أو فكَّ لزم البيع وإلا فسخ، وتكون الثمرة في مثل هذا البيع أن النماء المستقل- كولد الناقة وثمرة البستان- تكون للمشتري وإن أبطل المرتهن العقد لاحقاً [81] ، بل يكون ارتفاع القيمة له حينئذٍ بناءً على النقل ، فتأمل [82] .

دليل البطلان
وفي كلتا المسألتين [83] : قد يقال ببطلان البيع؛ للمرسل عن النبي (صلى الله عليه واله) من أن الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرفُ؛ لأنه محجور عليه شرعاً والمحجور عليه شرعاً لا يمكن نقله، بل يمكن إدخاله في غير المقدور على تسليمه وغير المقدور على تسليمه شرعاً كغير المقدور على تسليمه عقلاً، فهو باطل.
الجواب
وقد يجاب: بأن المرسل- على فرض تسليم حجيته-  منصرف للتصرف المنافي لحق المرتهن، وبيعه متزلزلاً ليس منافياً له؛ إذ له فسخه ولو ببيعه للغير المستلزم لفسخه قبل ذلك رتبةً، هذا.
إضافة إلى أن الرهن وثيقة الدين، فالمصبّ والمقصد كونه استيثاقاً للدين، وهذا مما لا ينافيه البيع المتزلزل فيصح بيعه له وينتقل إليه لكنه ان فكه أو اذن استقر ولزم، وإن لم يفكه ولم يسدد الراهن الدين فللمرتهن بيعه فإذا باعه كان فسخاً للبيع السابق، إذ كان متزلزلاً، فيبطل حينئذٍ لا من قبل.
لا يقال: ليس هذا البيع [84]  مع احتمال فسخ المرتهن ببيعه لرابع مثلاً، عقلائياً.
إذ يقال: بل هو عرفي عقلائي وفائدته:
أما للمشتري [85]  فما سبق من كون النماء له وارتفاع القيمة أيضاً، على النقل، وأيضاً له (الاعتبار) في المجتمع ؛ إذ تعنون بعنوان أنه مالك للمزرعة أو القصر أو المتجر الفلاني.
وأما للبائع وهو المديون الراهن فهو حصوله على ثمنه وتصرفه فيه بأنواع التصرفات، وإن كان لو فسخ لاحقاً وجب عليه إرجاعه لو أمكنه وكان بذمته ديناً لو لم يمكنه، وعلى أي فلا وجه لدعوى أن الملك المسوِّغ للبيع هو ملك الأصل مع ملك التصرف فيه مطلقاً.
ولأجل ما قلناه ذهب جمهور المتأخرين- حسبما نقله الشيخ- إلى كون بيع الراهن للرهن موقوفاً على الإذن.
وعلى أي فلو شك في الصحة شرعاً أو الفساد فلا مجال للتمسك بمثل (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) [86]  و(وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) [87]  للصحيحي ، ويصح التمسك للأعمّي.
ولو شك في الكمال والنقص -أي في اللزوم والتزلزل بعد الفراغ عن الصحة- فإن قلنا بانصراف (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) للكاملة [88]  وخروج المتزلزلة عنها؛ فلا يصح التمسك بالآيتين ونظائرهما ؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وإن قلنا بالوضع للأعم وبعدم الانصراف للأخص أمكن التمسك بها لإثبات اللزوم لأنه عقد بيع عرفاً، فإذا شك في لزومه وجوازه صح التمسك الآيتين لإثبات اللزوم كما سبقت نظائره.

المبحث الثالث [89]: هل الألفاظ منصرفة للراجح أو هي أعم منه ومن المرجوح
ثم إنه إضافة للبحوث الثلاثة الماضية [90]  يجري بحث رابع لكنه خاص بالانصراف؛  لبداهة الوضع للأعم من هذا الحيث؛  وهو: أن ألفاظ المعاملات هل هي منصرفة للحسن الراجح منها أو هي أعم منه ومن القبيح المرجوح؛ وذلك بعد تسليم أن المرجوح صحيح جائز لازم [91] ، فتختص دائرة البحث حينئذٍ في مثل الوكالة والنيابة والولاية والقسم [92] مثلاً ، فلو وكلّه في بيع أمواله فيقع البحث أنه ينصرف إلى خصوص الراجح الحسن أو يشمل القبيح المرجوح أيضاً  كالبيع للسفلة والادنين، وكأن يبيع غالياً ويشتري رخيصاً، وكأن يبيع للأجنبيات عنه مع اقتضائه الكلام معهن وشبهه؛ فإنه كسوابقه مكروه، وكذلك لو باع في موضع يستتر فيه العيب فإنه مكروه لو لم يؤد إلى الغش، وإلا حُرم.
ومن الواضح أنه لو كان ارتكاز على التقييد أو التعميم فلا كلام، إنما الكلام لو شك في شمول وكالته لمثل ذلك ؛ فإنه بناءً على أن ألفاظ المعاملات- مما كان كالوكالة- منصرفة عن المرجوح، فإنه لا يمكن التمسك بعمومات أدلة الوكالة لتصحيح هذا البيع وكالةً،  أما على الأعمّي فيصح؛ إذ ليس تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقية حينئذٍ، فتأمل.

بيع الخشب ممن يشك انه يعمله صنماً
وقد يمثل لذلك ببيع الخشب ممن يشك أنه يعمله صنماً، فإنه لا شك في حرمة بيعه في الصور الآتية:
أولاً: ليعمله –قيداً أو شرطاً –صنماً أو صليباً.
ثانياً: ممن يعلم أنه يعمله صنماً أو صليباً وإن لم يكن بيعه له لأجله.
ثالثاً : ألحق به السيد الوالد بيعه ممن يظن أنه يعمله صنماً أو صليباً وإن كان ظناً شخصياً غير حجة.

ولكن ما حكم بيعه ممن يشك أنه يعمله صنماً أو صليباً ثم عَمِلَه؟
استظهر السيد الوالد الجواز؛  قال (قدس سرة) : ( إذا باع الخشب لمن لا يعلم أنه ماذا يعمل به، ثم عمل به الصنم، لم يكن البيع باطلاً، إذ الظاهر من الروايتين صورة العلم بأنه يريد للصنم) [93]  والروايتان هما: صحيحة ابن اذينة: (قال: كتبت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن رجل له خشب فباعه ممن يتخذه صلباناً؟ قال (عليه السلام): لا ) [94] وصحيحة عمر بن حريث:  ( قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن التوت أبيعه يصنع به الصليب والصنم؟ قال: (عليه السلام): لا)  [95]  والإجماع على ما قد عرفت) [96] .

مسائل تمرينية:
يكره بيع آلات العبادة كما يكره بيع العقار إلا لشراء ما هو خير منها، فلو وكله في البيع والشراء له مطلقاً فهل ينصرف عن هذه الصورة؟ وما هو حكم الولي المشترط في تصرفاته الغبطة؟
ويكره استئجار الأجير الأول - مع عدم شرط المباشرة عليه- أجيراً آخر بأقل مما استأجره ولم يكن قد عمل شيئاً.
ويكره من المعاملات ما عارض الطاعات أو الواجبات.
وتكره المعاملة مع الشبهة.
ويكره الدخول في سوم المؤمن.
ويكره التعامل بين الطلوعين، وتكره زخرفة المساجد وتزويقها وأخذ الأجرة عليها، كما تكره أنواع كثيرة أخرى من المعاملات [97].
فكيف يمكن تطبيق البحث على ذلك كله؟
المراد بـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) اللازمة أو الجائزة أو الأعم؟
ونعيد [98]  طرح السؤال بتعبير آخر وبإضافة أجوبة عديدة أخرى؛ فنقول: قد يقال بأن (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) إن أريد به العقود الجائزة لزم إما التناقض [99] أو الانقلاب الماهوي ، وإن أريد به العقود اللازمة لزم طلب الحاصل [100] ؛ إذ العقد لازم حسب الفرض فلا معنى لطلب تحصيل لزومه ؛ إذ الوفاء به يعني إما أجعله لازماً فهو طلب للحاصل أو أبقِهِ لازماً فكذلك؛ إذ هو لازم بأسبابه التكوينية الاعتبارية لا بالمكلف نفسه.

المراد (أوفُوا بالعُقُودِ اللازمة) ووجوه تصحيحها
والجواب: لا إشكال سواء أكان المراد (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) اللازمة أم (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) الجائزة أو الأعم، أو غير ذلك:
أولاً: أما إذا أريد ب (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)  اللازمة؛ فإنه صحيح وليس طلباً لإيجاد الحاصل أو إبقائه؛ بل ذلك مندفع بأحد وجوه:
أ- المراد: أن العقود اللازمة عرفاً يجب عليكم الوفاء بها شرعاً، أي اللازم العرفي لازم شرعي أيضاً، فأين طلب الحاصل؟ إذ هو بلحاظ معتبِرَين، وهما اعتباران مختلفان والنسبة بينهما من وجه.
ب- المراد: أن العقود اللازمة واقعاً لازمه شرعاً، والنسبة بين اللازم الواقعي والعرفي من وجه.
ج- المراد: أن العقود اللازمة اقتضاءً لازمة شرعاً ؛ فإن ما فيها من المصالح تقتضي لزومها وليست علة؛ وذلك ككل المصالح والمفاسد في المتعلقات؛ إذ المقتضي هو من أجزاء العلة التامة التي تتألف منه ومن توفر الشروط وانتفاء الموانع أيضاً.
د- المراد: العقود اللازمة عرفاً أو واقعاً أو اقتضاءً أو شرعاً، أوفوا بها أنتم كأشخاص، نظراً لأن أوفوا انحلالي فهو خطاب لكل شخص شخص بأن يفي بالعقود اللازمة شرعاً أو عرفاً.. الخ ويلتزم بها.
وبعبارة أخرى: (أَوْفُواْ بِالعُقَودِ) يعني التزموا بالعقد اللازم لا اجعلوه لازماً، فأين طلب الحاصل؟
هـ - ما سيأتي أخيراً فانتظر، وهو الأصح. كما سيظهر.

المراد (أوفوا بالعقود الجائزة) ووجهان للتصحيح
ثانياً: وأما إن أريد ب(أَوْفُواْ بِالعُقَودِ) الجائزة فإنه صحيح بوجهين:
الأول: ما سبق من (الخامس: أن الجائز من العقود مشمول لـ(أَوْفُواْ) بلحاظ آثاره، أي يجب ترتيب آثاره مادام لم يفسخ بان يقسِّم المضارِبُ الربحَ بينهما مثلاً مادامت المضاربة قائمة ولم تفسخ) [101].
الثاني  [102] : أن يقال: أن ( أَوْفُواْ بِالعُقَودِ)  إذا أُريد بها الجائزة يراد بها الوفاء بها بنفسها - لا بلحاظ آثارها فحسب-  ولا يلزم التناقض ولا الانقلاب ؛ وذلك إذ الوفاء في كل شيء بحسبه إن جائزاً فجائز أو لازماً فلازم؛ فالوفاء بالعقود اللازمة بعدم فسخها ، والوفاء بالعقود الجائزة بأن لا تعتبرها لازمة أو غير منعقدة أصلاً، بل اعتبر الجائز جائزاً وابقِهِ على جوازه فـ(فِ بالعقد الجائز) أي ابقِهِ جائزاً ، أي التزم بجوازه فلا تعتبره لازماً أو غير منعقد أصلاً، فتأمل.

المراد الأعم
ثالثاً: أن يكون المراد الأعم فـ(أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يراد به العقود الجائزة واللازمة؛ فإنه إذا أمكن كل منهما - كما برهن سابقاً - أمكن الأعم، والإطلاق يقتضيه.
نعم ، لو لم يمكن أحدهما لم يمكن الأعم منهما؛ إذ امتناع أحد الفردين يساوق امتناع الأعم منه ومن قسيمه.

المراد العقود بما هي هي
رابعاً: أن يكون المراد من (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) العقود بما هي هي ، أي اللابشرط عن اللزوم والجواز وغيرهما ؛ وذلك ككل عنوان أو كليّ طبيعي صُبَّ عليه الحكم ؛ فإنه بما هو هو يكون متعلقاً للحكم ثم إن انطباقه على أقسامه بلحاظ طواريه وحالاته قهري؛ ألا ترى أنه لو قال اشتر السيارة -مثلاً-  لم يكن المراد السيارة البيضاء خاصة أو الحمراء خاصة أو الخضراء؛ إذ لو كان أي منها المراد لكان غيره خارجاً ، بل المراد الكليّ الطبيعي للسيارة المنطبق على كل ذلك وغيره، بل الأمر في وضع الأسماء كذلك فإنه يضع الحائط –مثلاً- للحائط بما هو هو ، أي لا بشرط كونه أبيض أو أسود لا أنه يضعه للحائط الأبيض  إذ يكون - على هذا مثلاً- استعماله في غيره مجازاً أو يلزم تعدد الوضع.
وعليه: فالمراد (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) بما هي هي وكما هي عليه؛ فإن كانت لازمة فأوفوا بها لزوماً أو جائزة فأوفوا بها كذلك.

مثال فقهي: جواز بيع آلات اللهو للكفار
ولنمثل أخيراً بمثال فقهي آخر [103]  لصلاحية العمومات للشمول للفرد المشكوك مرجوحيته - أو حرمته أو نقصه أو فساده- على الأعمّي، وعدم صلاحيتها على الأخصّي ؛ وهو أنه:
لا شك في حرمة بيع آلات اللهو، لكن هل يجوز بيعها للكفار الذين يستحلونها؟ قال السيد الوالد (قدس سرة) : (وهل يجوز بيع المصنوع لهم لقاعدة الإلزام؟ الصناعة تقتضي ذلك – وإن كان الاحتياط الترك –وإنما تقتضيه الصناعة إذ لا دليل على أنه كالخمر حيث يُمنَع حتى عن الكافر نصّاً وإجماعاً، لكن لم أجد له تعرّضاً في كلامهم) [104].

العام الفوقاني والتحتاني والخاص الحاكم والأخص الناظر
أقول: تحقيق حال المثال يتوقف على ملاحظة حال العام الفوقاني ، والتحتاني، والخاص تحتهما، والأخص منهما جميعاً أو الحاكم على التحتاني ثم الحاكم على الحاكم.
1- العام الفوقاني: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) فهو بعمومه شامل لبيع آلات اللهو للكفار، وقد خرج بيعها للمسلمين بدليل خاص فيبقى الباقي على الأصل.
2- العام التحتاني: كقوله (صلى الله عليه واله):  (إِنَّ آلَاتِ الْمَزَامِيرِ شِرَاؤُهَا وَ بَيْعُهَا وَ ثَمَنُهَا وَ التِّجَارَةُ بِهَا حَرَامٌ) [105]  فإنها عامة تعمّ البيع للمسلم والكافر وهي أخص من الآية فتتقدم عليها فتفيد حرمة بيع آلات اللهو للكافر.
3- الحاكم تحتها: قاعدة الإمضاء والإلزام كقوله: (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ) [106]  و( أَلْزِمُوهُمْ بِمَا أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) [107]  فإنها حاكمة على أدلة التحريم، فتفيد جواز بيع آلات اللهو للكافر مطابقاً للعام الفوقاني (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ).
4- الحاكم على الحاكم: قوله (صلى الله عليه واله): (وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة ) [108] ولسانها حاكم على قاعدة الإلزام، وظاهرها المحو مطلقاً حتى لما لدى الكفار وإلا لما كان محواً خاصة ومع كثرة تداولها لديهم بل لعله لم يكن يوجد بيت إلا وكانت فيه،  وفيما سبق كلام ونقاش فانتظر.

من فقه الأدلة الطولية الأربعة

(وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) لو شك في إطلاقه لبيع الآلات للكفار
أولاً: أما قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) فإنه إذا لم تتم [109]  لدى الفقيه قاعدتا الإمضاء والإلزام - إما مطلقاً أو في غير الثلاثة [110] - فإنه عام لكل مبيع، لكل شخص؛  فهو حلال.
ولكن يخرج منه بيع آلات اللهو للأدلة الخاصة على حرمة بيعها وتعمّ الحرمة البيع الكفار على هذا المبنى [111]  ، لكن لو شك في إطلاق أدلة حرمة بيع آلات اللهو لبيعها للكفار فالمرجع عموم العام الفوقاني (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) فيجوز بيعها لهم، لكن لو شك في إطلاق الآية-  إما للشك في كونها في مقام البيان من هذه الجهة فرضاً ؛ فاللازم إثبات كونها كذلك ولو بالأصل العام، وإما للشك في انصرافها عن ما فيه المفسدة محضاً [112] ، بمعنى أنه يشك في أن (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) شامل لبيع المرجوح مما فيه المفسدة  للكفار [113]  أو لا-  فعلى الأخصّي [114] لا تشمل الآية البيع لهم؛  فلا تكون دليلاً على حلية بيع آلات اللهو لهم؛ إذ يكون من التمسك بالعام في الشبهة الموضوعية ؛ فإنه مع العلم بمرجوحيته-  كما في بيعها للمسلم- لا تشمله الآية،  ومع الشك في مرجوحيته،-كما في بيعها للكافر- يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية كما سبق، وأما على الأعمّي فعلى مدعي الانصراف عهدة إثباتها إلا أن يستند- قبل ذلك- إلى عدم تمامية المقدمة الأولى [115] ، فتأمل.

حرمة بيع المزامير لو شك في إطلاقها للكفار
ثانياً: وأما قوله (عليه السلام): (إِنَّ آلَاتِ الْمَزَامِيرِ شِرَاؤُهَا وَ بَيْعُهَا وَ ثَمَنُهَا وَ التِّجَارَةُ بِهَا حَرَامٌ) [116]  فهو شامل بإطلاقه لبيعها للكفار وتعضد الإطلاقَ مرجوحيتُها الذاتية وما فيها بنفسها من المفسدة، والكلام كله مع قطع النظر عن قاعدة الإلزام فانه سيأتي.

ولو شك فرضاً في كون الرواية في مقام البيان  [117] من هذه الجهة فالمرجع أصالة الإطلاق؛ فإن الحكم إنما هو بنحو القضية الحقيقية ؛ والكفار مكلَّفون بالفروع كما هم مكلفون بالأصول، ولو شك في الانصراف عنهم فلا بد من البحث عن منشأه، ومناشئه سبعة كما فصلناه في بعض المباحث، وليس ما يفيده مستقراً منها متحققاً في المقام ونظائره ، فتدبر.

قاعدة الإمضاء لو شك في إطلاقها لبيع آلات اللهو [118]
ثالثاً: وأما قوله (عليه السلام): (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ ) [119] فإنه لا يشمل ما عُلِم من الشارع كراهة وقوعه في الخارج إلا ما نُصَّ عليه؛ وأما ما نُصَّ عليه فكزواج المجوسي من محارمه فإنه وإن علم من الشارع كراهة الزواج بالأم قطعاً - فإنه مما يستكرهه العقلاء أيضاً جداً - لكن النص دل على الجواز لهم.
وأما ما لم يُنصَّ عليه فكقتل النفس المحترمة، فإنه وإن كان لديهم حلالاً لكننا لا يجوز لنا مساعدتهم على ذلك، فلو فرض أنهم ارتأوا جواز المسمى بالقتل الرحيم لمن هو محقون الدم كقتل المبتلى بداء عضال مؤلم لا يرجى شفاؤه كالسرطان الشديد فإن الطبيب المسلم لا يجوز له معونته على الانتحار ، وكذا لو رأوا جواز قتل المسمى بالميت سريرياً -كالميت مخّه دون قلبه أو العكس- فلا يجوز لنا فعله أو المعونة عليه بالاستناد إلى قاعدة الإلزام ؛ إما لانصرافها عما علم من الشارع كراهة وقوعه بكل الصور أو لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة أصلاً ، فلا مقتضِيَ للشمول على هذا لا أن المقتضي موجود ثم نقول بالانصراف، وكذلك لو ارتأى حلية الزنا بها لم يجز للمسلم فعل ذلك، للعلم بكراهة وقوعه ولا تشمله قاعدة الإلزام، فتأمل [120].
ولكن مورد الكلام هو صورة الشك كما لو احتمل كراهة وقوعه في الخارج لا ما لو علم .
فقد يقال: إنّ ما احتمل كراهة وقوعه في الخارج من الشارع كبيع آلة اللهو لهم – كما سبق - وكرفع جدار الكنيسة مثلاً، لا يشمله (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) ولا  (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ )؛ أما على الأخصّي فلأنه لا يعلم أنه بيع ؛ إذ بعد انصراف البيع عن المرجوح إذا شك أن هذا مرجوح أو لا ؛ فإنه يكون التمسك به من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية، وأما على الأعمّي فيشمله؛ فإنه بيع وإن كان مرجوحاً لكن لا يعلم أنه في مقام البيان من هذه الجهة، فتأمل.
وأما قاعدة الإلزام فلعدم إحراز البيان أو للانصراف.

حكومة ((أَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ)) على قاعدة الإمضاء
رابعاً: وأما قوله (وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة ) [121] فانه أخص من قاعدة الإلزام فيتقدم عليها.
وفيه: أنه معها من وجه [122] ، فالصحيح القول بحكومته على القاعدة ؛ لأن لسانه لسان الناظرية والتفسير ككافة العناوين الثانوية كلا ضرر ولا حرج ، بل هو أقوى منها في الحكومة لقرينة قوة المادة وهي (أمحو..) وكون اللسان آبياً عن التخصيص؛ وقرينية نقض الغرض لو استثني الكفار ومطلق من يستحل من المحو فإنه لا يتحقق امحاؤها حينئذٍ؛ لوضوح امتلاء بيوت الكفار منها فتجويزها لهم وتجويز بيعها لهم مناقض- عرفاً- لمحوها المأمور (صلى الله عليه واله)، ولقرينية السياق- وإن كان وحده ليس حجة ، بل يصلح مؤيداً-  فإنه وقع في سياق الأوثان فكما محاها (صلى الله عليه واله)عن دورهم ولم يعمل بقاعدة الإلزام فيها؛  فكذلك حال المزامير والمعازف وأشباهها.
 وعلى أي فمجموع هذه الثلاثة يورث الاطمئنان بحكومة (وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة ) على قاعدة الإلزام، إلا أن يجاب ببعض الوجوه الآتية كما سيأتي الكلام عن صورة الشك.
خامساً: سَبْقُ قولِه (صلى الله عليه واله): (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ...) فإن تقديم (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَنِي هُدًى وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) يفيد عرفاً كونه علة أو كالعلة لأمره (صلى الله عليه واله)بمحو المزامير والمعازف وسائر أمور الجاهلية، أي أن مقتضى بعثه رحمة للعالمين جميعاً، لا للمسلمين فحسب، هو محو المزامير من صفحة الوجود، ولو كان بعثُهُ رحمة للمسلمين خاصة لأمره بمحوها من دُور المسلمين خاصة، والمدعى ان ذلك ظاهر عرفاً فيما أفيد ولو لم يستظهر فهو مؤيد فيحتاج للضميمة كي يورث الاطمئنان والقرائن الثلاث السابقة نعمت الضميمة.
سادساً: أنه (صلى الله عليه واله) حيث كان مأموراً بنهي الناس عن عبادة الأوثان وعن اللعب بالمزامير وشبهها، وجب عليه إبلاغ الجميع مسلمين كانوا أم كفاراً، خاصة مع وضوح أن الكفار مكلفون بالفروع كما هم مكلفون بالأصول [123].
وفيه: ان المقدور بالواسطة مقدور [124] ، والأحكام تابعة لمصالح ومفاسد في المتعلقات، نعم القاصر لا يتنجز التكليف عليه لا أنه غير مكلف ، فالواجب إذن - كأصل عام- هو نهي الكل عن المنكر وإن كانوا كفاراً إلا ما علم من الشرع، بدليل أو سيرة مسلّمة عدم وجوبه،  فلو كان مأموراً بمحوها وجب عليه محوها من بيوت الكل وإلا لقال (وأمرني أن أمحو من بيوت المسلمين المزامير...).
والحاصل: أنه كما أن الأمر بالنهي عن المنكر تشريعاً يقتضي العموم، كذلك الأمر بمحو المنكر تكويناً وبالفعل -كتحطيم الأصنام- يقتضي العموم كذلك، فتأمل.

مناقشة ناظرية الرواية على قاعدة الإلزام
ولكن الاستدلال بهذه الرواية على ناظريتها على قاعدة الإلزام- حتى لو سلمنا باعتبارها سنداً نظراً لمبنى حجية مراسيل الثقاة المعتمدة أو بدعوى أنها أخبار مستفيضة ، أو بشهادة التاريخ على صدق المضمون حيث حطم (صلى الله عليه واله) الأصنام وورد عنه قوله: (بُعِثْتُ بِكَسْرِ الْمعَازِفَ وَالْمَزَامِيرِ) [125]  إضافة للرواية السابقة أو لغير ذلك مما يوكل تحقيقه لمحله والذي لأجل ذلك وغيره لم يبحث مثل صاحب الجواهر عن سندها بل أرسل الاستدلال بمراسيلها وبمثل رواية تحف العقول إرسال المسلمات مع أن دأبه البحث عن السند ولعله لما سبق ولكون الإجماع وليس الشهرة فقط عليها ولغير ذلك- مخدوشة:

الرواية أجنبية عن القاعدة لأنها من مبتدعات الجاهلية لا الدين
أما أولاً: فلأن الظاهر أن الرواية أجنبية عن قاعدة الإلزام ؛ فإن قاعدتي الإمضاء والإلزام إنما هما في (ذوي الأديان)، فكل ذي دين تلزمه أحكامه وتُمضى له، ورواية المزامير والأوثان إنما هي عن أحكام لم تكن مقتضى أديانهم بل كانت من عادات الجاهلية كما هو صريح قوله (عليه السلام) في أخرها (وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة) بناءً على أنه من عطف العام على الخاص وأن مفاده: وسائر أمور الجاهلية.
بل نقول : مع قطع النظر عن ذلك فإن الظاهر أن عملهم في آلات اللهو لم يكن حتى بادعائهم من أحكام دينهم بل كان من مقتضيات عاداتهم وتقاليدهم وشهواتهم، وقاعدة الإلزام والإمضاء إنما تُمضيان ما اعتقدوه أنه من دينهم وإن كان اعتقاداً باطلاً.
اللهم إلا لو عمّمنا الدين لكل ما يدين به قوم ويلتزمون به سواءً أسمّي ديناً اصطلاحاً أو لا، كما ذهب إليه السيد الوالد (قدس سرة) صناعياً خلافاً للمشهور ؛ فما كان من عادات قوم وتقاليدهم واعتبروه حلالاً فهو – على هذا الرأي - دين لهم، وكذا ما سنّه القانون في الأمم التي تدين بالقوانين وإن كانت على خلاف دينها فإنه دين لهم،  وذلك مثل علاقات الصداقة التي يرونها حسب القانون والعرف مبيحة للمقاربة مادام الطرفان راضيين فإنهم لا يعتبرونه زواجاً كما لا يعتبرونه زنا بل يعتبرونه أمراً ثالثاً محللاً ، لذا يرون الولد ولد حلال ويمنحونه كافة الحقوق، بل وسّع بعضهم الدين إلى مثل الشيوعية فإنها نوع دين برفض الأديان! أي أنهم يدينون لعقلهم أو لحكومتهم أو للمادية الديالكتيكية بذلك! وفيه: ما لا يخفى من البعد والغرابة.
وعلى أي فإنه على المشهور لا تشملهم قاعدة الإمضاء والإلزام؛ إذ ليس هذا ديناً بالمعنى المرتكز في الأذهان وهو ما تلقي – ولو حسب الزعم - من السماء لا ما وضعه البشر كقانون أو بنوا عليه كعادة أو تقليد أو شبه ذلك.
وبعبارة أخرى: يرد على التمسك بقاعدة الإلزام والإمضاء كمستند لتحليل بيع المزامير وشبهها لمن يستحلها من الكفار، أمور:

مشركوا مكة لم يكونوا ذوي دين
الأمر الأول: أن مشركي مكة لم يكونوا من ذوي الأديان إذ كانوا مشركين، والمشرك في الشرع وحسب مرتكز المتشرعة ليس ذا دين بل الأديان هي المعروفة من مسيحية ويهودية وشبهها، بل الظاهر أنه لا يطلق على المشركين أنهم ذووا دين حتى عرفاً.
وبعبارة أخرى: الأديان هي ما ادعي انتسابها للأنبياء وتلقّيها منهم، هذا إن لم يُدَّع أن الأحكام التسهيلية [126] إنما هي خاصة بأهل الكتاب منهم لا مطلق الدين المنسوب للنبي[127]، فتأمل، وتنقيحه موكل إلى محله.
والرواية (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ) [128]  إنما حللت لذوي الأديان ما يستحلون لا لغيرهم، ولو شك في ذلك فلا أقل من إجمال (الدين) من حيث عمومه للمشركين وعدمه فلا يمكن التمسك بالرواية حينئذٍ.

سلّمنا لكن تحليلهم لآلات اللهو لم يستند لدينهم
الأمر الثاني: سلّمنا أنهم كانوا ذا دين وأن الرواية تشملهم وليست منصرفة عنهم إلى غير المشركين، ولكن نقول إنه يرد ما سبق من: (ورواية المزامير والأوثان إنما هي عن أمور وأحكام لم تكن مقتضى أديانهم بل كانت من عادات الجاهلية كما هو صريح قوله (عليه السلام) في أخرها (وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة) بناءً على أنه من عطف العام على الخاص وأن مفاده : وسائر أمور الجاهلية، بل مع قطع النظر عن ذلك فان الظاهر ان عملهم في آلات اللهو لم يكن حتى بادّعائهم من أحكام دينهم بل كان من مقتضيات عاداتهم وتقاليدهم وشهواتهم، وقاعدة الإلزام والإمضاء إنما تُمضيان ما اعتقدوا كونه من دينهم وإن كان اعتقاداً باطلاً [129].

سلّمنا لكن مفاد الإلزام: يجوز لهم لا لنا
الأمر الثالث: سلّمنا، لكن الرواية مفادها أنه يجوز لهم ما يستحلون، وليس مفادها أنه يجوز لنا ما يستحلون؛ أفترى أنهم لو كانوا يستحلون الزنا فهل يصح أن يزني بها المسلم؟ بل المعنى أنه إذا كان الزنا فرضاً حلالاً لديهم بمقتضى دينهم فإنه يُمضى لهم ولا يمنعون منه ولا تُجرى عليهم الحدود لا أنه مادام قد جاز لهم الزنا – حسب دينهم - حل لنا الزنا بهم.
إن قلت: فكيف جاز لنا الزواج من المطلقة بطلاق باطل عندنا لمجرد أنه صحيح عندهم؟

التفريق بين ما لو أفاد الإلزام الحكم التكليفي أو الوضعي
قلت: فرقٌ بين ما كان مقتضى قاعدة الإمضاء أو الإلزام هو إحداث حكمٍ وضعيٍ لهم وبين ما لو أفاد الحكم التكليفي لهم فقط، فلو أفادت القاعدة حدوث حكم وضعي لهم جاز لنا ترتيب آثاره، فإنه لو طلقها -مثلاً - من غير إشهاد أو طلقها في طهر المواقعة، فإن مفاد قاعدة الإلزام أنها تكون خليّة حينئذٍ فإذا كانت خليّة جاز لنا الزواج منها، وفي مورد البحث: مفاد (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ) أنه لو باع أحدهم مزماره لآخر منهم مثلاً جاز تكليفاً وحلّ وضعاً أي انتقلت ملكية هذا لذاك.
وعليه: فلو وهبني من انتقل إليه عينُ المال الشخصي الذي باع مزماره به صح لي تملّكه؛ إذ حيث حَكَم الشارع وضعاً بملكه له- كعنوان واقعي ثانوي-  جاز لي التعامل معه كالتعامل مع أي ملك آخر.
وأما في مثل الزنا فإنهم وإن استحلوه لكنهم لا يرون أنه ذو حكم وضعي، أي لا يرون أنها زوجة مثلاً للزاني بها ،  فتجويزهم للزنا تكليفي فقط فلا يجوز للمسلم الزنا بها.
نعم، لو فرض أن دينهم اقتضى أن نفس تسليم نفسها للزنا بها هو تمليك لبضعها أو تزويج منها لنا جاز لولا الدليل الخاص، فتأمل.
وفي المقام: يجوز لهم بمقتضى قاعدة الإمضاء بيع المزمار بعضهم لبعض، وهو في هذه المرحلة حكم تكليفي فقط، والوضعي إنما هو في المرحلة اللاحقة أي إذا باعه فقد ملكه المشتري، لا أنه يجوز لنا بيع المزمار لهم لأنهم يجوز عليهم ما يستحلون فإن ذلك غير لازم عقلاً ولا عرفاً، بل لولا تصريح روايات الإلزام في مواردها [130] بترتيب الأحكام لنا، لما جاز لنا الزواج منها [131]  ، بل كان مفاد و (أَلْزِمُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَلْزَمُوهُ أَنْفُسَهُم ) [132]  مجرد أن طلاقها يقع في مذهبها، فلها في مذهبها أن تتزوج بآخر ممن يستحل ذلك لا أن لنا الزواج منها، لولا نصّ تتمة الرواية (وَتَزَوَّجُوهُنَّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِك ) [133] [134]، فتأمل جداً.

رواية تحف العقول أظهر من روايات الإلزام
الأمر الرابع: أن بعض الروايات الأخرى-  غير رواية ((وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة)) [135]  -  كرواية تحف العقول تعضدها، وقد يقال بحكومتها على قاعدة الإلزام أو اظهريتها منها لقوة لسانها الآبي عن التخصيص [136]  ؛ فقد جاء فيها (إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الصِّنَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ كُلُّهَا الَّتِي يَجِيءُ مِنْهَا الْفَسَادُ مَحْضاً ، نَظِيرَ الْبَرَابِطِ وَالْمَزَامِيرِ وَالشِّطْرَنْجِ وَكُلِّ مَلْهُوٍّ بِهِ وَالصُّلْبَانِ وَالْأَصْنَامِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَاتِ الْأَشْرِبَةِ الْحَرَامِ ، وَمَا يَكُونُ مِنْهُ وَفِيهِ الْفَسَادُ مَحْضاً وَلَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ فَحَرَامٌ تَعْلِيمُهُ وَتَعَلُّمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَأَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَرَكَاتِ كُلِّهَا ) [137]
فلاحظ قوله (عليه السلام): (إِنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الصِّنَاعَةَ الَّتِي هِيَ حَرَامٌ كُلُّهَا ) وأصرح منه قوله (عليه السلام): (الَّتِي يَجِيءُ مِنْهَا الْفَسَادُ مَحْضاً) و( وَمَا يَكُونُ مِنْهُ وَفِيهِ الْفَسَادُ مَحْضاً وَلَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَا فِيهِ شَيْءٌ مِنْ وُجُوهِ الصَّلَاحِ ) وأصرح منه قوله (عليه السلام): (وَجَمِيعُ التَّقَلُّبِ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِ الْحَرَكَاتِ).
وعليه: فإن قاعدة الإلزام والإمضاء عامة إلا لمثل بيع آلات اللهو لاظهرية أدلتها منها أو لحكومتها عليها. فتأمل [138] .

دعوى أن الأمر بمحو المزامير و... قضية خارجية
كما أنه قد يورد على التمسك بالدليل الطولي الرابع: (وَأَمَرَنِي أَنْ أَمْحُوَ الْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ وَالْأَوْتَارَ وَالْأَوْثَانَ وَأُمُورَ الْجَاهِلِيَّة) [139] باعتباره حاكماً على قاعدتي الإمضاء والإلزام أو أظهر منهما في مدلوله وأنه على ذلك لا يجوز بيعها حتى للمستحل من الكفار، بأن قوله: ((وَأَمَرَنِي...)) إنما هو بنحو القضية الخارجية وأنه خاص به (صلى الله عليه واله) وفي زمانه، فلا مانع من الالتزام بقاعدة الإلزام لغيره (صلى الله عليه واله)وفي مثل أزمنتنا فيجوز بيعها لهم.

الجواب: الأصل انها قضايا حقيقية
والجواب واضح ؛ وهو: أن الأصل في القضايا والأوامر والنواهي الشرعية كونها قضايا حقيقية لا خارجية إلا إذا دلّ الدليل على كونها خارجية ؛ فكونها خارجية خلاف الأصل جداً.

الشواهد على كونها خارجية والجواب
إن قلت: يدل على كونها خارجية أمور:
منها: تعبيره (صلى الله عليه واله) بـ((وَأَمَرَنِي)) الظاهر في أنه أمر له وليس عاماً لنا فهو نظير قوله (صلى الله عليه واله): ( أَمَرَنِي رَبِّي بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أَمَرَنِي بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ ) [140] حيث لا يشملنا فإنها عليه (صلى الله عليه واله) واجبة وعلينا مستحبة.
ومنها: أن ذلك يناسب مرحلة تأسيس الشريعة، كما يرمز إليه الخبر الآخر (بُعِثْتُ بِكَسْرِ الْمعَازِفَ وَالْمَزَامِيرِ) [141] فهذا من شأن البعثة لا من أحكام الشريعة عامة.
قلت: لا شيء منهما بصالح :
أما الأخير فإنه مشعر وليس حتى مؤيداً ؛  فهل يفيد مثلاً قوله: (بعثت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) أو (بعثت لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة) أو (بعثت لإتمام مكارم الأخلاق) على أنها خاصة به (صلى الله عليه واله)؟ وكونه يناسب كذا مشعر فقط؟
وأما الأول: فيدفعه - كما يدفع كلِّي دعوى أن أمثالها قضايا خارجية-  أن من ضروريات الفقه بل من ضروريات الإسلام اشتراك الأحكام بيننا وبينه (صلى الله عليه واله) وأن الخطابات القرآنية للنبي (صلى الله عليه واله) سواء أكانت بصيغة أمر كـ(أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [142]  أم بمادته كـ(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [143] طرف الخطاب فيها النبي (صلى الله عليه واله)لاحتياج الخطاب إلى طرف فخُصّ به تشريفاً مع تعميم الحكم للكل، فالمخاطب هو (صلى الله عليه واله) لا أنه المحكوم خاصةً بالحكم.
ولا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل كما لو دلت رواية أخرى على أن هذا من مختصاته (صلى الله عليه واله)، أو على أن هذه القضية قضية خارجية كما ورد النهي عن أكل الحمر الأهلية فجاءت رواية أخرى أوضحت أنه إنما نهى رسول الله (صلى الله عليه واله)عنها لأنهم كانوا يحتاجونها في معركة خيبر،  فلاحظ الرواية: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّهُمَا سَأَلَاهُ عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) عَنْهَا وَعَنْ أَكْلِهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ أَكْلِهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَمُولَةَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا الْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ) [144].
ويشهد للقاعدة العامة قوله (صلى الله عليه واله): (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَ حَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [145]  و (يَا أَيُّهَا النَّاسُ وَاللَّهِ مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَمَا مِنْ شَيْ‏ءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه)  [146].

النتيجة والثمرة
فتحصل من البحث كله أن أ- العام الفوقاني ب- والمخصص له ج- والحاكم عليه أو على مخصصه د- والحاكم على الحاكم أو الأظهر منه، كلها محكومة في عمومها للأفراد بأربع قواعد ومباني:
الأولى: مبنى الصحيحي أو الأعمّي من حيث الصحة والفساد لدى الشك في الجزئية والشرطية ، وهذا هو ما بحثه القوم تحت عنوان : هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح منها أو الأعم.
الثانية: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الجواز والحرمة.
والثالثة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الكمال والنقص، أي اللزوم وعدمه.
الرابعة: مبنى الصحيحي والأعمّي من حيث الرجحان والمرجوحية، وهذه الثلاثة الأخيرة هي ما استظهرنا ضرورة إضافتها لبحث الصحيحي والأعمّي مع توسعته إلى الأعم من البحث عن الوضع والبحث عن الانصراف المستقر وغيره.

الشك في شمول البيع للمحتمل مرجوحيته الذاتية
وفي المقام: فإن العام الفوقاني الأول هو (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) [147]  ، فإذا علم من الشارع كراهة وقوع أمر ما -كبيع الصنم والصليب- فإنه لا يشمله، وإذا شك في أنه مما يكره الشارع تحققه في الخارج مطلقاً- كما فيما نحن فيه من كراهته بيع وشراء آلات اللهو إجمالاً واحتمالنا عقلائياً أن كراهته له شاملة حتى لبيعها لمن يستحلها، فمع الشك العقلائي في كون آلات اللهو كذلك -  فإنه لا يصح التمسك بـ(أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) لإثبات حليتها على الأخصي [148]  ؛ لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية [149]  ويصح التمسك بالآية لإثبات الحلية على الأعمي.
والمراد من الأخصي: القول بانصراف (البيع) في الآية وشبهها عن المرجوح ذاتاً ، أي ما علم من الشارع كراهة وقوعه فإذا قلنا بالانصراف المستقر ففي صورة الشك فإن التمسك بالآية فيما شك في مرجوحيته الذاتية تمسك بالعام في الشبهة المصداقية بعد فرض الانصراف عن المرجوح الذاتي مستقراً.

الشك في شمول قاعدة الإمضاء للمكروه الذاتي
وفي المقام أيضاً: فإن الدليل الطولي الثالث وهو قاعدة الإمضاء (يَجُوزُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ ذِي دِينٍ مَا يَسْتَحِلُّونَ) [150]  فإنه على الأخصي فإن (يستحلون) منصرف [151]  إلى ما لم يعلم كراهة الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً  [152] كالقتل والفساد في الأرض (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) [153] ، فإذا احتمل كون بيع آلات اللهو للكفار مما يكره الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً فلا يصح التمسك برواية الإمضاء هذه بناء على الأخصي ويصح بناءً على الأعمّي.
وبعبارة أخرى: هنا قاعدتان:
الأولى: لو شككنا في شمول النهي عن بيع المزامير، لبيعها للكفار فالمرجع قاعدة الإلزام، اللهم إلا ما احتمل كراهة الشرع وقوعه في الخارج مطلقاً؛ فإنه على الأخصي لا يتمسك بالقاعدة وعلى الأعمّي يمكن التمسك.
الثانية: لو رفضنا قاعدة الإلزام ولو برفض عمومها لما عدا الأبواب الثلاثة  [154] فالمرجع (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) على الأعمّي ولا يصح على الأخصّي التمسك بها لأنه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

المرجوح الذاتي والعرضي
تنبيه: الفرق بين المرجوح الذاتي والعرضي او الاعتباري ان ما كان فيه الفساد محضاً كان مرجوحاً ذاتياً كالزنا واللواط وقتل النفس المحترمة، والمرجوح العرضي أو الاعتباري ما كان مرجوحاً لا لذاته بل لضرب القانون مثلاً فلا تكون المفسدة فيه بشخصه لكنه حرّم كلّيّه ضرباً للقانون، ومنه العِدّة لمن علم خلوّ رحمها من الحمل، ومنه بطلان الطلاق إذا كان بشاهد واحد مع انه يكتفى به لثبوت الأحكام الكلية الإلهية التي تترتب عليها ألوف الأحكام الجزئية فكيف لا يكتفى به في موضوع خارجي جزئي، فتأمل. والحاصل: ان المرجوح الذاتي ما كان لأمر داخل والمرجوح العرضي ما كان لاعتبار خارج.

مثال فقهي: لو وكّل المسلمُ الكافر فهل تشمله قاعدة الإلزام؟
وقد يمثل للأخصّي والأعمّي، في بعض جهات البحث الأربع السابقة [155] ، بما لو وكّله في الاتجار بأمواله كلها، فهل الحكم في حرمة المعاملة تابع لحال الوكيل أو تابع لحال الموكل؟ فمثلاً: لو كان الموكّل مسلماً وكان الوكيل كافراً فهل له أن يبيع للكفار ما يستحلونه كالميتة أو الدم أو آلات اللهو أو شراء وبيع المبغى لهم وبناء دور الفحشاء لهم؟
فقد يقال:  بالجواز ؛ لأن البائع - وهو الوكيل - كافر فيقع في دائرة قاعدة الإمضاء أو الإلزام.
وقد يقال: بالحرمة ؛ لأن فعل الوكيل هو فعل الموكل ؛ فإنه عنه يبيع لا عن نفسه ، والأموال أمواله أيضاً فهو أكل للمال بالباطل.

الوالد: صور المسألة مختلفة
وقال السيد الوالد (قدس سرة): (والمسألة سيّالة يشكل بعض صورها، مثل أن يقوم وكيله الكافر بفتح مبغى من مال المسلم، أو محلاً لممارسة الشذوذ الجنسي في بلد الكفار يدخل ربحه في كيس المسلم، ولا يشكل بعضه الآخر، مثل أن يشتري ويبيع الأسماك المحرّمة ويدخل ربحه في كيس المسلم) [156].
أقول: إن الكلام :
تارة : يكون في الأدلة على الطرفين ؛ فيمكن أن يستدل لكل منهما بأدلة،  أو يقال بالتفصيل كما ذهب إليه السيد الوالد ، إذ قال (قدس سرة) : (ولا يبعد أن يقال: بتحريم الأول لأنه عرفاً من الفساد في الأرض، كما هو المركوز في أذهان المتشرّعة، بخلاف الثاني، فاختلاف التلقّي العرفي يوجب اختلاف الحكم مثل قولهم: إنّ ماء البحر مطلق، أما إذا وضع بقدره ملح في الماء العذب الموجود في الاناء لم يكن به) [157] ،  وراجع أيضاً استدلاله للطرفين هنالك.
وتارة أخرى : يكون الكلام في صورة الشك، بمعنى أن الفقيه لو لم تتمّ لديه الأدلة على أحد الطرفين فشك في الجواز والحرمة فهل يصح التمسك بعمومات أدلة الوكالة أو أدلة المعاملات كـ(وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )  [158]  و(إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ) [159]  أو لا؟

التمسك بأدلة الوكالة لتصحيح المعاملة تمسك بالعام في الشبهة المصداقية [160]
أما (الوكالة): فتمهيداً لبيان صورة الشك ، نقول: إن التوكيل في المحرمات لا يجري [161] ، كأن يوكله في السرقة أو في ضرب اليتيم ، بل حتى أن يوكله في إجراء المعاملة الربوية وشبه ذلك.
لكن لو شك في أن هذا الفعل حرام أو لا ونافذ أم لا [162]  ؟  فإنه لا يصح التمسك بأدلة الوكالة لتصحيحها - وضعاً وتكليفاً - على الأخصّي [163] ؛ لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وتوضيحه: أنه لا فرق فيه [164]  بين كون الشك في صدق عنوان الموضوع للشك في نفس الوضع وأنه وُضِع لما يشمله أو لا، وبين كون الشك في صدقه للشك في انصرافه عنه؛ إذ الانصراف يكون عند الأُنس الذهني بالمعنى المنصرف إليه بما أوجب للفظِ وجهة جديدة خرج بها عن الدلالة عن بعض الموضوع له، غاية الأمر أن الخروج في (الوضع للأخص) [165]  عن الشمول لبعض أفراد الأعم، هو بنحو العِلّة المحدّثة والخروج في (الانصراف للأخص) [166]  انصرافاً مستقراً، هو بنحو العِلّة المبقية، بمعنى أنه لا يشمل هذا الفرد من أفراد الموضوع له، في مرحلة بقائله نظراً لمناسبات الحكم والموضوع وشبهها حيث أوجبت أُنس الذهن بالمعنى المنصرف إليه بحيث كان كأنه القالب له، ولك أن تقول: إن الانصراف إلى بعض أفراد الموضوع له هو – تنزيلاً – بمنزلة الوضع له ، هذا كله على الأخصي، وأما على الأعمّي فيجوز.
ثم إن ذلك كله كان فيما لو شك أن هذا الفعل حلال نافذ أو حرام غير نافذ، وأما لو شك في أن هذا الفعل-  كشراء الوكيل الكافر عن المسلم للمبغى من الكفار وبيعه لآخرين منهم أو افتتاح مبغى لهم بأمواله، مما كره الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً أو لا -  فإن علم أنه مما كره وقوعه مطلقاً لم تشمله أدلة الوكالة وإن علم العدم شملت، لكن لو شك كما في المقام ولم يكن هنالك أصل ينقح حاله؛ فإنه لا يصح التمسك بعمومات الوكالة على الأخصّي، ويجوز على الأعمّي، فتدبر.

وكذلك التمسك بأدلة البيع والتجارة...
وأما (البيع والتجارة)، فالأمر كذلك ؛ فإنه لو شك في جواز ذلك الفعل وحرمته لم يصح التمسك بـ(وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) على الأخصي [167] وجاز على الأعمّي، ولو شك في مرجوحيته الذاتية فعلى الأخصي [168]  لا يجوز التمسك بهذه العمومات وعلى الأعمي يصح؛ والوجه في الكل أنه من - أو نظير-  التمسك بالعام في الشبهة المصداقية على الأخص دون الأعم [169].

 
----------------
[1] هذه الفائدة تشتمل على ثلاثة بحوث مترابطة في موضوعها وفكرتها ؛ لذا آتينا بها جميعاً على طولها .
[2] تقدم في  الفوائد السابقة.
[3]  كفاية الأصول : ص23.
[4] المصدر نفسه: ص32-33.
[5] بل مطلقاً، كما سيأتي.
[6] قال في العروة : ج3 ص672-673: (وإذن الزوج بالنسبة إلى الزوجة إذا كان منافياً لحقه ، وإذن الوالد أو الوالدة بالنسبة إلى ولدهما إذا كان مستلزما لإيذائهما) ، ولم يعلق غالب المحشين،  وعلق القليل منهم كالسيد الگلپايگاني (على الأحوط ، نعم مع النهي والإيذاء من مخالفته فالأقوى البطلان) ،  وكذلك احتاط السيد عبد الهادي الشيرازي، فتأمل.
[7] العروة الوثقى: ج5 ص161-162.
[8] الدرس : 245، بحث البيع.
[9] المنهي عنها لتفويتها الأهم.
[10] إلى الشرطية أو الجزئية، أو إلى البطلان.
[11] من لا يحضره الفقيه: ج4 ص8.
[12] وأنها شرائط الصحة أو الوقوع.
[13] سورة الجمعة: آية 9.
[14] سورة المطففين: آية 1-3.
[15] أي محجوراً عن التصرف فيه شرعاً.
[16] وتفصيل الأخذ والرد في محله.
[17] وهو : ما لو نهى عن معاملة لتفويتها الأهم.
[18] راجع الدرس (245).
[19] وهو : الإتيان بالعمل والبيع والشراء.
[20] وهو: صحته مثلاً.
[21] كما فيما سيأتي من الأمثلة.
[22] سورة المائدة: آية 1.
[23] سورة البقرة: آية 275.
[24] وهو الحكم الوضعي.
[25] كبيع ما يستلزم أذى الوالدين.
[26] فإن المقام ليس صغرى لقاعدة الميرزا، وأيضاً كبراه غير تامة لدينا.
[27] كالبيع الربوي مثلاً.
[28] سورة المائدة: آية 1.
[29] سورة البقرة: آية 275.
[30] كما سبق.
[31] أو أن هذا البيع من الكالي بالكالي، أو لا.
[32] قال في وسيلة النجاة :( يجب على المتبايعين تسليم العوضين بعد العقد لو لم يشترط التأخير؛ فلا يجوز لكل منهما التأخير مع الإمكان إلا برضى صاحبه؛ فان امتنعا اجبرا، ولو امتنع أحدهما مع تسليم صاحبه أجبر الممتنع. ولو اشترط كل منهما تأخير التسليم إلى مدة معينة جاز، وليس لغير مشترط التأخير الامتناع عن التسليم لعدم تسليم صاحبه الذي اشترط التأخير).
وقال السيد الكلبايكاني معلقاً على (ولو اشترط كل منهما)  : ( في الأعيان الخارجية، وأما في الكلي فاشتراط تأخير كل منهما يوجب أن يكون بيع الكالي بالكالي وهو باطل) ، وسيلة النجاة : ص49.

[33] في العامين 2008 و 2009م في أزمة الرهون العقارية والتضخم المغالى فيه في قيمة الأصول التي تنتقل من واحد لآخر ككلي في الذمة.
[34] فتأمل.
[35] المبحث الأول: هل ألفاظ المعاملات موضوعة أو منصرفة للجائز الحلال منها أو الأعم؟ المبحث الثاني: هل هي موضوعة أو منصرفة للكامل منها أو الأعم؟ المبحث الثالث: هل هي موضوعة أو منصرفة للحسن أو الأعم؟ فهذه ثلاثة بحوث إضافة للبحث المعهود في الأصول وهو: هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو الأعم؟
[36] سورة البقرة: آية 275.
[37] من أمثلة الثاني ؛وهو من يوصف بالنقص والكمال من حيث متعلقه ، أي (المنقول).
[38] كالدول الغربية.
[39] حيث إن الزوجة ترث من قيمة البناء والأشجار لا من العين، ولا ترث من الأرض لا عيناً ولا قيمة، وترث من المنقولات عيناً وقيمة.
[40] لدى الجهل؛ إذ الارتكاز يقود إلى الكامل.
[41] تمليكاً منجزاً (فخرجت الوصية) مجرداً عن القربة (فخرجت الصدقة).
[42] جواهر الكلام : ج28 ص126.
[43] الفقه : ج60 ص215.
[44]  العروة الوثقى: ج6 ص239.
[45] المصدر نفسه: ج6 ص239.
[46] المصدر نفسه: ج6 ص240.
[47] المصدر نفسه:ج6 ص241.
[48] أي مشروعية المعاطاة.
[49]  الفقه: ج60 ص213.
[50] الهدية.
[51] سورة الشورى: آية 49.
[52] سورة آل عمران: آية 8.
[53] سورة المائدة: آية 1.
[54] بناءً على أن العقود لا تشمل الإيقاعات.
[55] وهما (أ) و(ب).
[56] أي المتزلزل.
[57] لمناسبات الحكم والموضوع أو غيرها.
[58] أي المفيد للنقل المتزلزل كالمضاربة وكالهدية.
[59] إذا كانت لغير ذي الرحم، أو إذا لم تكن معوّضة ولا قصد بها القربة، ولا تلفت أو تصرف فيها تصرفاً مغيّراً لها بحيث لا يصدق (القيام بعينها) الوارد في الرواية فإنها لازمة إذا كانت للرحم أو كانت معوّضة أو قصد بها القربة أو تلفت بعد القبض أو تصرف بها تصرفاً مغيراً لها كما سبق.
[60] كما سبق.
[61]  اللزوم والعمل بالمقتضى.
[62] كما لو باعه بشرط ان لا تنتقل إليه المنافع لفترة (كالمستأجَر من قبل).
[63] لعموم مثل (أوْفَوا بِالعُقودِ) للكامل والناقص من العقود أو لانصرافه عن الناقص.
[64] سورة المائدة: آية 1.
[65] وهي من العقود كما سبق إجماعاً.
[66] الكافي: ج7 ص32.
[67] المصدر نفسه: ص31.
[68] كالحفيد الخامس لابن عمه أو كابن عم ابن خالته مثلاً أو كحفيد عمة الجد أو الأبعد: كحفيد عمة خالة الجد.
[69] التهذيب: ج9 ص156.
[70] وهو: لزوم الهبة لذي الرحم.
[71] ومقدمة الحرام حرام عقلاً أو وشرعاً أيضاً.
[72] كالبطنة وكثرة الجماع وقلة النوم المفرط أو كثرته المفرطة وترك الرياضة وقلة شرب الماء أو كثرته (فانّ قِلّته من عوامل سقوط الكلية عن العمل وكثرته من عوامل التسمّم المائي) وهكذا.
[73] سورة المائدة: آية 1.
[74] لا يخفى ان للإشكال مصبات ثلاث والأجوبة بعضها بلحاظ هذا وبعضها بلحاظ ذاك أو ذياك، فتدبر تعرف.
[75]  عوالي اللآلئ: ج1 ص222.
[76]  وسائل الشيعة:ج14 ص572.
[77] سورة البقرة: آية 188.
[78] (أي للمالك الأول البائع مثلاً.
[79] أو في كيفية بيان المطلب.
[80] وإن لم تخرج بلحاظ الآثار.
[81] هذا على النقل تامٌّ، أما على الكشف فبحاجة إلى دليل خاص.
[82] إذ لا مجال لتوهم اللزوم إذا لم يأذن ولم يفك.
[83] وإن كانت الثانية أهون من الأولى، لكن قد يرى الفقيه البطلان فيهما لشمول الأدلة لهما، وقد يفرق آخر بانصراف أدلة البطلان عن الثانية عرفاً، فتأمل.
[84] أي بيع الرهن لثالثٍ.
[85] وهو الثالث.
[86] سورة المائدة: آية 1.
[87] سورة البقرة: آية 275.
[88] اللازمة.
[89]الثالث بالنسبة لما أضفناه في هذه الفائدة ، والرابع مع ما درج على بحثه المشهور في هذه المسألة.
[90] إذ تقدم هل ألفاظ المعاملات موضوعة للصحيح أو للأعم؟ وهذا البحث درج بحثه في علم الأصول وقد تقدم تفصيله في الفوائد السابقة ،  وهل هي موضوعة أو منصرفة للجائز أو الأعم منه ومن الحرام؟ وهل هي موضوعة أو منصرفة للكامل أو الأعم منه والناقص ؟ وهذه البحوث الثلاثة هي ما قد أضافها الماتن دام ظلة للبحث الأول .
[91] بل مع الجهل بالجواز وعدمه قد يجري بحث الحسن والقبح، فتأمل
[92] إذ لا يشترط في متعلقه الرجحان نعم لا يصح كونه مرجوحاً.
[93]  الفقه: ج1 ص79.
[94] الكافي: ج5 ص226 ح2.
[95] الكافي: ج5 ص227 ح5.
[96]  الفقه – كتاب المكاسب المحرمة -: ج1 ص73.
[97] فراجع جواهر الكلام كتاب التجارة، وغيره.
[98] حيث تقدم بعض البحث عن معنى قوله تعالى: (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)،
[99] إن بقي جائزاً رغم وجوب الوفاء به وتعلق (أوفوا) به.
[100] أو فقل: طلب قهري الحصول لأنه لازمٌ شئت أم رفضت، تعلَّقَ به أمر (أوفوا) أو لا.
[101] راجع الدرس (251).
[102] وهذا أسبق رتبة من الأول.
[103] تتمة للدرس (252).
[104]  الفقه/ كتاب المكاسب المحرمة : ج1 ص91.
[105]  مستدرك الوسائل: ج13 ص219.
[106] الاستبصار: ج4 ص148.
[107] التهذيب:  ج9 ص322.
[108] مستدرك الوسائل : ج13 ص219.
[109] وأما لو تمت فسيأتي الكلام فيها في ثالثاً.
[110] النكاح والطلاق والإرث.
[111] عدم تمامية قاعدة الإلزام.
[112] كالمزامير وشبهها.
[113] بعد الفراغ عن شمول الحرمة لبيعها للمسلمين وعدم شمول (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) لهم.
[114] وكون البيع موضوعاً للأخص أو منصرفاً عن المرجوح لمفسدة ذاتية فيه ولو اقتضاءً.
[115] كونه في مقام البيان من هذه الجهة.
[116] مستدرك الوسائل: ج13 ص219.
[117]  أي بيان حكم الحرمة حتى للكفار.
[118] لكونه مما يحتمل كراهة الشارع وقوعه في الخارج مطلقاً.
[119]  الاستبصار: ج4 ص148.
[120] لأن حرمة الزنا وإن رفعت فرضاً من طرفها حسب دينها فلا تعاقب عليه لكنه غير مرفوع من طرفه؛ إذ هو فعل قائم بالطرفين نظير ما لو زنا بالنائمة أو المغمى عليها ؛ فإنه وإن لم يحرم عليها لكنه حرام عليه ،  ولا وجه للقول في قاعدة (الإلزام) بدلالتها على الحلية له بالتبع ،فتدبر.
[121] مستدرك الوسائل: ج13 ص219.
[122] مادة الاجتماع: مزامير الكفار وبيعها لهم، ومادة افتراق الإلزام عن المزامير موضوعاً: الطلاق والنكاح والإرث، ومادة افتراق حرمة المزامير عن الإلزام: بيع المسلم لها لمسلم.
[123] خلافاً لمن ادعى أنه حيث لم يؤمنوا بالله والرسول Jفليسوا مكلفين بالفروع.
[124] فلا يقال حيث لا يزال غير مؤمن بالله والرسول فكيف يؤمن أو يلتزم بأوامرهما؟
[125] الرواية مروية عن طرق العامة، واما عن طرق الخاصة فبحاجة إلى بحث.
[126] كالزواج.
[127] فلا يجوز الزواج من المجوسية مثلاً.
[128]  الاستبصار: ج4 ص148.
[129] راجع الدرس (255).
[130] كما في : النكاح والطلاق والإرث.
[131] المطلقة بغير إشهاد مثلاً.
[132] التهذيب : ج8 ص58.
[133] المصدر نفسه.
[134] وتفصيل الأخذ والرد في مبحث القاعدة.
[135] مستدرك الوسائل : ج13 ص219.
[136] اللهم إلا في نفس الموارد التي وردت فيها قاعدة الإلزام فإنها نص فيها فلاحظ.
[137] تحف العقول: ص335.
[138] إذ قد يقال بانصراف رواية تحف العقول عن الكفار ،فتأمل.
[139]  مستدرك الوسائل:  ج13 ص219.
[140] الكافي:  ج2 ص117.
[141] الرواية مروية عن طرق العامة، واما عن طرق الخاصة فبحاجة إلى بحث.
[142] سورة الإسراء: آية 78.
[143] سورة الشورى: آية 15.
[144]  الكافي: ج6 ص245.
[145] المصدر نفسه: ج1 ص58.
[146] المصدر نفسه: ج2 ص74.
[147] سورة البقرة: آية 275.
[148] المراد الأخصية لا بلحاظ الوضع بل بلحاظ الانصراف.
[149] لا مصداق الموضوع له بل مصداق المنصرف إليه فانتبه.
[150]  الاستبصار :ج4 ص148.
[151] في رتبة سابقة، فإن لم نقل بالانصراف فمخصَّص.
[152] أي من أي شخص أو دين كان.
[153] سورة البقرة: آية 205.
[154] وهي : النكاح والطلاق والإرث.
[155] الصحة والفساد، الحلال والحرام، الكامل والناقص، والمرجوح ذاتاً وغيره.
[156]  الفقه/ كتاب المكاسب المحرمة: ج1 ص91.
[157] المصدر نفسه.
[158] سورة البقرة: آية 275.
[159] سورة النساء: آية 29.
[160] على الأخصّي دون الأعمّي.
[161] - أي ليس بنافذ.
[162] كالمثال السابق ، إذا شك في أن أصل بيع الكافر للكافر الميتة أو المبغى أو آلات اللهو ولو وكالةً حلال ونافذ أو لا.
[163] وأن ألفاظ المعاملات ومنها الوكالة، فإنها عقد، منصرفة عن الحرام.
[164] في عدم صحة التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
[165] الموضوع له حسب الفرض.
[166] المنصرف إليه.
[167] وأن البيع موضوع أو منصرف للمحلل منه.
[168] وأن البيع منصرف عن المرجوح ذاتاً.
[169] الدرس : 46، 47، 48، 49، 50، 51، 52، 53، 54، 55، 56، 57، 58، بحث البيع.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3770
  • تاريخ إضافة الموضوع : 16 جمادي الاول 1441هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 16