• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 192- مقاييس الاختيار الالهي : 1ـ الاتقان والاتمام في شتى مراحل الحياة .

192- مقاييس الاختيار الالهي : 1ـ الاتقان والاتمام في شتى مراحل الحياة

بسم الله الرحمن الرحيم 
 
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم. 
 
مقاييس الاختيار الإلهي للأنبياء والأوصياء 
 
ومحورية عامل الإتمام والإتقان 
 
يقول تعالى: 
 
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)([1]) 
 
في هذه الآية القرآنية الكريمة هنالك بحر من البصائر واللطائف والحقائق والدقائق، وسوف نشير الى بعض ما تيسر لنا منها فيما يخص مفردة (فَأَتَمَّهُنَّ)، وسيكون المنطلق هو التدبر في مقاييس الاختيار الإلهي في القران الكريم من خلال هذه الآية وهذه المفردة بالذات. لكن هذا المنطلق سيخلص الى عنوانين يرتبطان بحياتنا جميعا، وهما عنوانان يشكلان سر تقدم الامم او تخلفها وهما: 
 
1- الاتقان في العمل. 
 
2- صناعة الكفاءات في المجتمع. 
 
البصيرة الاولى: الإعجاز القرآني في اختيار الكلمات (أتمهن نموذجاً) 
 
ان كلمة (فَأَتَمَّهُنَّ) كغيرها من كلمات القران الكريم، تعد احدى معاجز القران الكريم، والتي تتحير بها عقول ذوي الألباب، لجهات عديدة منها: وان من مظاهر إعجازه أن تراه مستسهلا، واذا به يستصعب عليك او تراه مستصعباً فإذا به يسهل لك. 
 
وهذا ما نلمسه جلياً في كلمة (فَأَتَمَّهُنَّ) فانها تبدو واضحة في بادئ الامر، لكن عندما تتدبر فيها اكثر ستتحير لتموجّها بالحقائق والمطالب والدقائق والأفكار ـ وقد وقع لي ذلك بالفعل؛ اذ فكرت في: مالذي يريده تعالى من خلال اختيار هذه الكلمة بالذات ولماذا لم يقل تعالى مثلا (ونجح فيهن) او (أكملهن) او (أتقنهن)؟ 
 
وقد أرجعت النظر مراراً في هذه الكلمة وراجعت النظائر القرآنية لها؛ حتى يمكننا ان نستضيء بآيات أخرى من القران الكريم كونها تحمل نفس الجذر اللغوي لهذه الكلمة أو إحدى تصريفاتها. 
 
ولكي نتعرف على بعض دلالات ومعاني كلمة (فَأَتَمَّهُنَّ) لا بد ان نرجع الى بعض الادعية الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة، وبعض الآيات الكريمة التي تتضمن هذه المفردة ومن ثم تفسيرها: 
 
معاني (كلمات الله التامات) 
 
أ) ورد في بعض الأدعية: (أعيذ نفسي بكلمات الله التامات) وقد فسرت الكلمات التامات بوجوه منها: 
 
1) التي لا يعتريها نقص ولا عيب؛ لان كلماتنا قد تكون فيها نواقص معنوية أو لفظية: نحوية او صرفية او فكرية او غير ذلك، بينما كلمات الله لا يعتريها نقص اوعيب بالمرة، بل لا يجوز عليها ان يعتريها نقص، وفي ذلك اشارة هامة الى البنية الداخلية للكلمات أي ان هذا البناء، كمنظومة متكاملة، لا يعتريه نقص ولا عيب ولا خلل ولا خطل. 
 
2) التي تحفظ من تعوّذ بها من ان يتعرض لمكروه، فهي تامة في حفظ المتعوِّذ، إضافة الى تمامها في حد ذاتها (وهو المعنى السابق). 
 
معاني (اللهم رب هذه الدعوة التامة) 
 
ب) كما ورد أيضا في بعض الادعية: (اللهم رب هذه الدعوة التامة) وهنا تجري المعاني السابقة التي مرت بنا([2]) ونضيف إليها: 
 
3) التي لا ينالها (أي الدعوة التامة) الزمان وتطوراته وتغيراته وتبدلاته، بل هي متعالية على الزمان والمكان والظروف والتقلبات. 
 
توضيح ذلك: ان قوانيننا وتشريعاتنا تكون عادة غير تامة وطالما نستدرك بعد مدة من الزمن فنحذف او نضيف او نعدل او نرفع اليد عن الفكرة بالمرة في حين ان كلمات الله تامة رغم امتداد الزمن، فهي تامة كاملة حاكمة على البشرية الى يوم القيامة وليست ناقصة من حيث ما قد يعتريها بسبب الامتداد الزمني، فهي تامة أي: لا يعتريها تغيّر بتغير الأزمان والأحوال والظروف، وغير ذلك. 
 
وفرق هذا المعنى عن المعنيين السابقين، انهما كانا يتمحوران حول الحاضر، اما هذا المعنى الثالث فهو يستهدف المستقبل الزمني والخلود الأبدي. 
 
4) التامة في الزام الغير بالحجة وايجابها عليه. 
 
توضيح ذلك: ان حجتي قد تكون غير تامة على الطرف الاخر، في حين ان كلمات الله تامة في الحجية عليه، فكاشفيتها عن الواقع ومرآئيتها للحقائق لا تشوبها شائبة، إضافة الى انها تناغم الفطرة والمستقلات العقلية، فلكلمات الله التامات في أعماق كل انسان جندي من جنود الله يصحح له العقائد والأفكار والسلوكيات([3])
 
5) هي دعوة تامة؛ لان منشأها هو مصدر الكمال المطلق، القادر العالم المحيط وهو منشأ كل الكمالات؛ فلابد ان تكون دعوته دعوة تامة لان منشأها تام. 
 
وبكلمة جامعة: هي تامة من حيث العلة الفاعلية، كما أنها تامة من حيث العلة الغائية بل والامتداد الزمني؛ ولذا كان ديننا خاتم الأديان، كما أنها تامة من حيث العلة المادية والصورية أي من حيث البناء الداخلي والشكل والمنهجية والأسلوب، كما أنها تامة من حيث الحافظية والمحفوظية. 
 
من معاني (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) 
 
ج ) قال تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)([4]) أن من معاني التمام هو القيام بالأمر فتكون (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) أي قوموا بأمرهما لله تعالى.. وعليه فمن قام بأمر بكل جوانبه حقاً فهو مُتمُّ له ولا يقال مكمل له ولا متقن له بل هناك معنى أخر أعلى وهو القيام فإنه منشأ الإتقان والإكمال. 
 
من معاني (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) 
 
د ) قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا)([5]) وقد فسرها بعض المفسرين: بـ(انتهائها الى حد لا تحتاج معه إلى شيء خارج عنها)، فكلمات الله تعالى لا تحتاج، نظراً لتكامل منظومتها الداخلية وشد بعضها من أزر البعض الآخر، إلى شيء خارج عنها([6]) وهي بخلاف كلماتنا التي غالبا ما تحتاج الى مكمل او معدل. 
 
سبعة معاني لـ(وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ) 
 
هـ) قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)([7]) (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)([8]) وهنا تأتي كل المعاني السابقة... فان نور الله لا يعتريه نقص ولا عيب ولا ضعف ولا ما أشبه ذلك... ونور الله محفوظ من التحريف وحافظ لمن اهتدى به من الزيغ والضلال... كما انه لا يزال هذا النور موجودا بامتداد الزمن الى ان يصل ليد ولي الله الأعظم عجل الله فرجه الشريف ويرث الله الأرض ومن عليها... كما ان هذا النور هو الحجة البالغة والتامة... كما لا يحتاج إلى شيء خارج عنه... كما انه جل وعلا هو القائم بأمر هذا النور مباشرة. 
 
عودا على بدء: معاني (فَأَتَمَّهُنَّ) 
 
والآن عندما نتدبر، بعد هذه الجولة، في آيتنا التي صدرنا بها البحث (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) فاننا سنجد ان هذه المعاني التي ذكرناها تجري ههنا ايضا، وسنعرف ان معنى (فَأَتَمَّهُنَّ) أوسع وأعمق من أن إبراهيم ( عليه السلام ) نجح في ذلك الامتحان وحسب، بل انه اثبت بجدارة انه في عمود الزمن سوف يتكلل بالنجاح في الامتحانات اللاحقة أيضاً وانه سوف لا يتعثر في الامتحانات اللاحقة وسوف لا يتراجع عما وصل اليه من الكمال الاستثنائي، فهو وفيٌ لمقتضيات ذلك الامتحان ملتزم بلوازمه، ولذلك وحيث ان الله تعالى علم انه ( عليه السلام ) أتمها (كلمات الامتحان والابتلاء) بهذا المعنى الشمولي: أ- في بناءها الداخلي، ب- وفي استقامته على الدرب في قوادم الأيام ج- وفي كونه قد وفر لها الحصانة([9]) ود- وفي قيامه بأمر الدعوة بما لكلمة قيام من معاني شمولية.. إلى سائر معاني التمام السالفة، فقد أتم الامتحان بما للكلمة من معنى، ولذلك جعله الله تعالى إماما للناس ونال ما نال من مراتب الخلة والمحبة والرفعة. 
 
البصيرة الثانية: الإعجاز القرآني في ذكر العام وإرادة الخاص وبالعكس 
 
ان من إعجاز القران الكريم: انه كثيراً ما عندما يذكر الخاص فانه يصوغه بصياغة عامة، وكثيرا ما يذكر العام لكنه يريد به الخاص... فالقران في هذا المجال يعد معجزا لانه يجمع بين الضدين (العام والخاص) ظاهرا... ولنمثل لذلك لتبسيط الفكرة واستيعابها: 
 
أ- (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا...) 
 
1) اما مثال العام وإرادة الخاص: فقوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)([10]) اذ لاشك ان المقصود خاص وهو أمير المؤمنين ( عليه السلام ) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) وصولا الى المهدي من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، لكنه تعالى صاغها بصياغة عامة وذلك ليعطي فيما يعطي ضوابط الانتخاب الإلهي وان انتخاب هؤلاء للولاية العامة إنما كان لتميزهم المطلق في مناحي علاقتهم بربهم (وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) وفي مناحي علاقتهم بالناس ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، وهذه هي الفائدة الاضافية الاخرى. 
 
ب- (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً...) 
 
2) واما مثال الخاص وإرادة العام: فقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)([11]) وهي قضية خاصة وواقعة تاريخية خاصة، لكنها قانون عام فأي مسجد ضرار تنطبق عليه الشروط مع نظر الحاكم الشرعي، فانه يجري عليه الحكم الوارد في الاية الشريفة. 
 
الابتلاء الإبراهيمي والمقاييس الإلهية 
 
وفي آيتنا الشريفة (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) نجد انه تعالى يتحدث عن إبراهيم وانه نجح في الامتحان وانه بذاته وشخصه جُعِل إماما، فالحكم حكم خاص دون شك لكن الصياغة إذ تضمنت ملاكات الانتقاء الإلهي هي صياغة تفيد فوائد عامة إذ تعطينا ضوابط الاختيار والانتقاء الإلهي ومن ذلك: 
 
أن الإتمام في درجاته العليا ومعانيه الشمولية والتي بيناها سابقا هو ملاك النجاح والفلاح والاصطفاء وقد نال هذه المرتبة السامية خليل الله ابراهيم ( عليه السلام )، وكلما توفرت معاني التمام المتعددة في دعوة او عمل شخص ما أكثر فأكثر، كلما كان قريبا من النجاح والفلاح بنفس المرتبة التي اتم فيها عمله هذا، فرئيس الدولة او المدير او الاستاذ في الجامعة او الحوزة او التلميذ فيهما او الموظف او العامل او غير ذلك، كلما أتم عمله([12]) وأتقنه كان محبوبا لله تعالى أكثر فأكثر، ونال اجر إتمامه وإتقانه بالقدر الذي اجهد نفسه في الوصول إليه، فله درجة من الإمامة اللُّغوية([13]) بذلك القدر. 
 
ولذلك نجد ان الطبيب أو المحامي أو المهندس أو النجار المتقن لعمله يرجع اليه الناس وينهالون عليه، وكذلك المؤلف المتقن لكتاباته، وهكذا الخطيب في خطابته او الاستاذ في تدريسه وبحثه او غير ذلك، فلكل منهم المرجعية والإمامة اللُّغوية في حقل اختصاصه بقدر إتقانه لعمله وإتمامه له. 
 
والحاصل: ان هذا ضابط عام استُبطن في ضمن ذكر حكم خاص، ومن هنا كان القرآن يجري مجرى الشمس والقمر كما في الرواية فانه لم يقتصر على ذكر قصص الامم السابقة للتسلية او لمجرد سرد التاريخ بل انه يعطي ضوابط وإرشادات عامة، ولو بدلالة الإيماء والإشارة أو دلالة الاقتضاء، لنيل الكمال والنجاح لكل من يولد الى يوم القامة. 
 
البصيرة الثالثة: الإتمام احد أهم المقاييس الالهية 
 
وعند التدبر في الآية الشريفة نجد انها تشير إلى مقياسين جوهريين: 
 
1) الإتمام واللاإتمام. (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) 
 
2) العدل والظلم. (قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وسياتي البحث عن هذا المقياس مفصلا ان شاء الله تعالى في بحث لاحق. 
 
اما فيما يخص المقياس الاول وهو ( الاتمام ) في العمل والسلوك فنقول: 
 
لو ان الناس التفتوا الى هذا المقياس ألقراني وطبقوه في حياتهم وتصرفاتهم اليومية فأنهم سيصلون الى اعلى الدرجات وسوف يحصلون على افضل الملكات والكمالات وسيبدعون حتى في صناعاتهم وشؤون معاشهم، فالحداد مثلا او الطبيب او غيرهما اذا اتموا عملهم وأتقنوه واحكموا جوانبه واخلصوا فيه فانهم سينجحون في حياتهم العملية أيّ نجاح؛ ذلك ان قانون الاتمام لا يختص بكونه شرط التدرج في مدارج الكمال في شؤون الآخرة فحسب، بل هو عام يشمل العالَمين ويجري في النشأتين أعني الدنيا والآخرة. 
 
وبالعكس: فان الطالب في الدراسة مثلاً قد لا يُجدُّ في دراسته فلا يصغي للأستاذ جيداً ولا يكتب أو يقرر الدرس ولا يستعد له بالمطالعة المسبقة من قبل ولا يتباحث في موضوعاته، وبكلمة الذي لا يكون متما لدراسته فانه سوف لا يحصل في اخر المطاف على شيء ذي بال، في حين ان الطالب المتم والمجد والملتفت سيجني ثمار إتمامه وإتقانه لدراسته فيكون متفوقا وبالتالي سوف يرجع الناس اليه ويأتمون به ويكون علماً من الأعلام. 
 
نموذج من إتمام الشيخ الانصاري في (رسائله) 
 
ويكفينا شاهداً معبراً عن ذلك: الكتاب الاصولي الشهير للشيخ الانصاري (الرسائل) وكذا الكتاب الفقهي الاخر (المكاسب) فانهما لم يمكن ان يستغنى عنهما رغم مرور أكثر من 150 سنة على تأليفهما حتى ان الطالب الحوزوي لا يعد طالبا فاضلاً ما لم يدرس هذين الكتابين بإتقان، كما ان العلماء عكفوا على دراسة وتدريس هذين الكتابين وعلقوا عليهما وشرحوهما وناقشوا الكثير من مباحثهما ومازالوا على هذا المنوال... 
 
وما ذلك إلا لبلوغ الشيخ فيهما حد الاتمام والاتقان الممكن له بعد استفراغ الوسع.. ومن أكثر الشواهد دلالة على ذلك ما نقل من ان الشيخ كتب في الرسائل كلمة ثم شطب عليها – دون أن يمحوها - وكتب فوقها كلمة بديلة عنها([14]) والسبب في ذلك: ان الشيخ عندما الف كتابه كتب تلك الكلمة، لكن تلامذته ـ ومنهم الميرزا الشيرازي الكبير والذي طلب منه الشيخ تنقيح الرسائل فرفض الميرزا تأدباً منه في مقابل أستاذه([15]) ـ ناقشوا أستاذهم في إبدال هذه الكلمة وطال النقاش فترة معتنى بها إذ أرتأوا ان هذه الكلمة هي الادق (والاتم) في ايفاء المقصود حقه بدون ورود إشكال وبعد النقاش المطول لم يخلص الشيخ الى صحة ما ذهب إليه بل تأمل فيه بل لعله ترجح لديه ما ذهب اليه تلاميذه، فتقرر – كما يبدو - ان يشطب على الكلمة الاولى بدون محوها وتكتب الثانية فوقها جمعاً بين النظرين والاحتمالين ولكي يكون للباحثين بعدها مجال المقارنة والمناقشة([16])!! 
 
ان ذلك – كنظائره وما أكثرها - يكشف عن مدى دقة الشيخ الأنصاري وإتمامه لكتابيه بحيث ان كلمة واحدة أخذت كل هذا الحيِّز من النقاش والاهتمام ثم الاحتياط، فكم كان ملتزما (باتمام) العبارات والأفكار التي طرحت فيهما؟ ومن هنا لا نجد لهذين الكتابين بديلا في العمق والدقة وسلاسة التعبير وفي التوفر على مواصفات وشرائط ومقومات تنمية ملكة الطالب وصناعة كبار الفقهاء والمحققين. 
 
نموذج من اتقان بعض علماء الغرب لعمله 
 
ولنستعرض مثالاً اخر من الغرب كي نعرف السبب وراء ما توصلوا اليه من تطور في العديد من العلوم والصناعات والتكنلوجيا الحديثة وتقدمهم في ذلك فأصبحوا بذلك هم من بيدهم أزمّة الأمور: 
 
هناك كتاب يسمى (الاقتصاد) للكاتبين (سامويلسون ونورد هاوس) وكان يدرس في الجامعات الامريكية لمدة (40) عاماً, وقد طالعت شطراً منه فوجدته بالفعل كتابا متقناً في مجاله على حسب ما أرتآه من نظريات وأفكار، وما ذلك الا للجهد الذي بذله مؤلفه([17]) في كتابته فانه كان يعيد مراجعته وتدقيقه وتوثيق مطالبه وتحديثها وتعديلها وتطويرها كل سنتين أو أقل بتغيير قد يصل الى 30 % ثم اخذ يغير فيه ايضا حتى غير فيه اكثر من 17 مرة خلال أربعين سنة ليطبع كل سنتين معدلاً من جديد ليدرس في الجامعات بنسخته المحدّثة المتضمنة لكل نظرية جديدة او نقض جديد على نظرية ما او إحصاء جديد او ابتكار جديد وهكذا([18])
 
ومن هنا وغيره أصبح الغرب من الناحية الظاهرية حاكما؛ وذلك لان فيهم الكثيرين ممن يتقنون عملهم ويتفانون فيه خلافا لبلداننا الشرقية التي لا تتقن([19]) شيئا إلا انتاج الحكام المستبدين أو صناعة الحقد والكراهية والعداوة والبغضاء وغير ذلك([20]) 
 
نسال الله تعالى ان يجعلنا واياكم ممن يتم عمله وقوله وسيرته وفكره وسيره وسلوكه. 
 
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين 
 
=============================================
 
 
([3]) ولذا نحن المسلمون مقصرون في الحقيقة لان الصين مثلاً يبلغ سكانها أكثر من مليار وثلاثمائة مليون ولعل أغلبهم بوذي، وأمريكا يصل تعداد سكانها الى أكثر من (315) مليوناً اغلبهم مسيحيون وغير مسلمين في حين كان المفترض ان يكونوا مسلمين شيعة ومن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) .. وذلك لوجود جندي لنا في داخل كل منهم يهتف لصالحنا وهو المسمى بالفطرة لكن لو بشرط ان نوصل إليهم الإسلام الصافي من نبع أهل البيت (عليهم السلام) .... وهكذا الهند وغيرهما ... لكن الذي يصل إليهم هو الإسلام المشوه عبر أفعال الارهابين وحواضنهم وعبر قوانين وممارسات الحكومات الجائرة في البلاد الإسلامية. 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=931
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 21 ذو القعدة 1435هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28