• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 185- ( وأمضى لكل يوم عمله... ) حقيقة ( الزمن ) وتحديد الاولويات حسب العوائد .

185- ( وأمضى لكل يوم عمله... ) حقيقة ( الزمن ) وتحديد الاولويات حسب العوائد

بسم الله الرحمن الرحيم 
 
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولاحول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم 
 
ما هي حقيقة الزمن؟ 
 
وجدولة الأعمال وتحديد السقف الزمني لكل مهمة 
 
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ويقول تعالى: (...وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ...). 
 
ويقول أمير المؤمنين ومولى الموحدين (عليه صلوات المصلين ): ((وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيه))([1]) 
 
لقد ذكرنا في المبحث السابق معاني خمسة محتملة للمراد بهذه الاية الشريفة، كما تطرقنا الى الرواية الشريفة ((لَا تُعَادُوا الْأَيَّامَ فَتُعَادِيَكُم)) وذكرنا معاني ثلاثة لها. 
 
وسيدور البحث الآن حول هذه الرواية الشريفة على ضوء تينك الآيتين الكريمتين 
 
والحديث في هذا المبحث سوف يتمحور حول (الوقت ) و( اليوم) و(العمر) ومدى أهمية هذه القيمة الكبرى وهذه الحقيقة العظمى المودعة لدينا، وذلك وفق المحورين التاليين: 
 
أ - حقيقة الزمن علمياً على ضوء بعض كلمات الأمير (صلوات الله وسلامه عليه): 
 
ب - العِبَر في هذه النصيحة العلوية ((وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيه)) 
 
1- ما هو الزمن؟ 
 
قبل الاحتكام إلى كلمات الأمير (صلوات الله وسلامه عليه)، حول حقيقة الزمن، لا بد من الإشارة إلى الخلاف حول معنى الزمن وحقيقته فاننا جميعاً نعيش في الزمن لكن ما هي حقيقته؟ وما هي ماهيته؟ 
 
لقد حير ذلك العقلاء والعلماء على مر التاريخ، فعلى الرغم من اننا نتصور اننا نراه ونلمسه فنتصور الساعة الفائتة والساعة القادمة، واليوم الفائت والقادم، والأسبوع السابق والأسبوع اللاحق، والأشهر والسنين والعقود والقرون وغير ذلك، لكن ما هي حقيقة هذا الذي نعيشه لحظة بلحظة طوال أيام حياتنا وهو المسمى بالزمن؟ 
 
لقد اختلفت الأقوال بشدة في ذلك، لكننا نستبق ذكر الأقوال بالتنبيه إلى احدى الاستنتاجات الكلامية الهامة وهي ان الزمن رغم اننا نعايشه دوما إلا اننا لا نعرف حقيقته، فكيف نعرف حقيقة الله سبحانه وتعالى!! ان بعض الفلاسفة والعرفاء أوغلوا في محاولة معرفة كنه الباري تعالى ولو عبر التوغل – بزعمهم - في مبحث علم الله تعالى وحقيقته مع أننا نعتقد بالعينية ([2]) فكيف يعقل ان ينال الانسان المحدود حقيقة علم الله وسائر صفاته سبحانه وتعالى مع ان صفاته عين ذاته؟. 
 
لكن الحقيقة الصادمة هي اننا لا نعلم حقيقة الزمان والمكان مع اننا مؤطرون بهما ونعيش معهما دائماً وأبداً، ومع بداهتهما ظاهرا؟, ومن لا يعرف البديهيات التي تبدو بديهية في سطحها وظاهرها كيف يدعي انه يمكنه ان يدرك الغيبيات؟!! 
 
من الأقوال في الزمن: 
 
1) هو أمر موهوم مثله مثل العنقاء والغول وأمثالهما، فكما ان تلك الاشياء لاوجود لها، كذلك الزمن فهو حقيقة موهومة، وقد تبنى هذا الرأي مجموعة من الفلاسفة. 
 
2) هو أمر اعتباري كالملكية للدار مثلا، فهو ليس أمرا موهوما، الا انه ليس حقيقة عينية متشخصة، فهو أمر اعتباري بالتواضع ([3]). 
 
3) هو مقدار حركة الفلك، وهذا الرأي اقرب الآراء للفهم العرفي، فكلما دارت الارض حول نفسها مرة واحدة كلما تجدد يومٌ واضمحل اخر، فاليوم ماهو الا مقدار حركة الارض حول نفسها وحسب. في حين ان مقدار حركة الارض حول الشمس يصنع السنة، وهكذا القمر والشهر.. وهلم جرا([4]) 
 
فالزمن على هذا ماهو إلا مقدار حركة الأفلاك ولكل فلك زمانه، واذا توقف الفلك ينعدم الزمن. ..في بحث مفصل حير العلماء. 
 
4) وهو ما ذهبوا اليه مؤخرا وهو: أن الزمن هو البعد الرابع حسب نظرية انشتاين وهو المكمّل للابعاد الاخرى: الطول والعرض والعمق، وهي ابعاد مكانية يكملها الضلع الخامس الزماني. 
 
ويمكن توضيح ذلك بالمثال التصويري التالي: فان الطائرة التي تحلق في الأجواء لها خط طول وخط عرضا قهرا ويلتقي هذان الخطان في نقطة واحدة، هي موضع وجود الطائرة في الجو والمتغير في كل لحظة فاذا جاءت طائرة اخرى تسير في خط طول اخر او خط عرض اخر فانهما لا يصطدمان قطعاً، وهكذا لو كان الارتفاع (العمق) مختلفاً وإن مرّت الطائرة الأخرى في خط الطول والعرض نفسه. 
 
ثم انه حتى لو كانت الطائرتان في نفس خط الطول والعرض والارتفاع، فانهما لا يصطدمان قطعا ما دام (الزمن) مختلفاً كما لو كان الفاصل بين وصول الطائرتين للنقطة نفسها دقيقة واحدة او اقل اوكثر، وما ذلك إلا لان الزمن بعد رابع للاشياء تختلف باختلافه. 
 
وهنا نقول: لايعدو البعد الرابع الذي ذكروه أن يكون وصفا للزمن وان إحدى صفات الزمن كونه بعدا رابعا ليس أكثر، أما ماهي حقيقة الزمن الذي أسموه البعد الرابع فلا تكشف عنه هذه النظرية لا من بعيد ولا من قريب. 
 
5) الزمن هو عين الأشياء([5]) فالزمن هو حقيقة الأشياء وليس شيئا عارضا عليها، فهو كنهها وجوهرها وواقعها. 
 
هذه بعض الأقوال في حقيقة الزمن، أما أدلة كل قول ومناقشتها فليس هاهنا محلها. 
 
ومما يستوقفنا جميعاً ان أمراً واضحاً عند الجميع بظاهره لو دققنا النظر فيه نجده بحرا متراميا من الأسئلة التي لا اجابة عنها حول هذه الظاهرة المسماة في عرفهم: (الكم المتصل غير القار). 
 
علينا الرجوع الى اهل البيت ( عليه السلام ) في كل شئ وقبل كل شيء 
 
وههنا دعوة مهمة: 
 
وهي أن من الضروري ان نجعل من منهجنا – كفقهاء وأصوليين وأيضاً كأطباء ومهندسين واقتصاديين وسياسيين وعلماء في الكيمياء والفيزياء... الخ - ان نتصفح كلمات المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم) بحثاً عن مفاتيح في معاريض او بطون كلامهم حول مختلف المعضلات العلمية؟ وهل يوجد فيما وصل إلينا منها شيء أم لا يوجد؟([6]) 
 
فعلينا ان نبحث عند كل معضلة او مشكلة او حقيقة علمية في كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله ) والائمة المعصومين لاننا نعتقد انهم (صلوات الله عليهم ) مرتبطون بالسماء فكل علوم السماء والأرض بأيديهم. 
 
والخلاف في (الزمن) من هذا القبيل، وقد ذكر الائمة (صلوات الله عليهم) الكثير من الحقائق في عشرات الروايات الي وردت فيها مفردة (الزمن ) او (اليوم ) او (الساعة ) او (العمر ) وغير ذلك. 
 
وهذه الروايات وان وردت بنحو الموعظة والنصيحة إلا أن ذلك لايمنع من وجود دلالات ورموز مبثوثة في كلماتهم (صلوات الله عليهم ) فيها الحلول للكثير من المعاضل والمشاكل أو إشارات الى العلوم الكونية القديمة والحديثة 
 
وذلك لأن كل كلمة يقولها المعصوم (عليه السلام) مبنية على ادق المعادلات العلمية الصحيحة ؛ لارتباطه ( عليه السلام ) بعلم الغيب، وقد عبر الأعاظم عن ذلك في علم الاصول بـ(دلالة الايماء او التنبيه). 
 
بعض ملامح الزمن على ضوء روايتين 
 
وسوف نستعرض مثالين فقط ونوكل التفصيل والاستيعاب للأبحاث التخصصية: 
 
1) ظاهر كلام الامام علي عليه السلام عدم كون الزمن امرا موهوما بل ظاهره نفى ان يكون مجرد أمر اعتباري بل هو امر حقيقي فاعل مؤثر فيقول (صلوات الله عليه )([7]) كما ينفي قدم العالم والزمان: 
 
"وان الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لاشئ معه كما كان قبل ابتداءها كذلك يكون بعد فناءها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان " 
 
والمستفاد من ذلك: ان الوقت والزمان ليسا حقائق أبدية كما توهمه البعض من أن الزمان أزلي وابدي إذ توهموا ان الافلاك التسعة كالعقول العشرة، ابدية فكانت منذ ان كان الله فالزمان كان منذ ان كان تعالى 
 
ذلك ان الامام عليه السلام يصرح بان الوقت ينعدم في نهاية المطاف، على الرغم من كونه أمراً يصعب تصوره اذ كيف يمكن انعدام الزمان ؟!! لان الـ(القبل) و(البعد)([8]) يتوهم انهما قهراً موجودان وان لم تكن الكرة الارضية او الشمس وباقي الكواكب. 
 
2) ثم يقول سلام الله عليه: "... ولا يشغله شيء ولا يغيره زمان..." فالزمان – إذن - مما يغير الاشياء الا انه لايقوى على الله سبحانه وتعالى لأن الله تعالى لا يغيره الزمان، ولا يتطرق إليه الحدثان (التغير)، اما نحن فان الزمن هو من صنع بنا ما صنع!! ولو فرض ان عمر احدنا توقف وتجمد في سن العشرين مثلاً فانه سيبقى كما هو لا يتغير. 
 
وقد توصل العلم الحديث الى نتيجة هي عين ما ذكره علماؤنا المتكلمون من قبل وهي ان: التغير والزمان متلازمان، فكلما كان هناك زمن ماض فهناك تغير اما لو توقف الزمن فرضاً فلا يحصل تغير بالأشياء. قال المتكلمون (العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث...) 
 
وبالتالي فلا يمكن اعتبار الزمن أمراً موهوماً أو اعتبارياً؛ لان هذين الأمرين لايغيران الحقائق العينية. 
 
ثم يقول عليه السلام: ". ...ولايغيره زمان، ولايحويه مكان ولا يصفه لسان. .." 
 
ثم يقول في عبارة اصرح من ذلك: ". .. عُدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات، فلا شئ الا الواحد القهار. .." ومعنى ذلك انها كانت موجودة ثم بعد ذلك فنيت وعدمت. 
 
والبحث حول ذلك يستدعي مزيدا من الكلام لكننا نكتفي بهذا المقدار. 
 
وامض لكل يوم عمله 
 
2- ننتقل الى كلام الامير (صلوات الله تعالى عليه) والذي يتحدث فيه عن العمر والوقت مطبوعا بطابع التوجيه والتربية والموعظة فيقول (صلوات الله تعالى عليه) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه): "... وامض لكل وقت عمله..." 
 
وهذه الكلمة العلوية قيّمة الى ابعد الحدود فانه (صلوات الله تعالى عليه) يشير فيها إشارة دقيقة الى ما اصطلح العلماء الإداريون الجدد بـ(جدولة الأوقات وتحديد السقف الزمني لكل شئ ). 
 
لان الإنسان اذا لم يجدول برامجه في ضمن أوقات محددة كاليوم والأسبوع والشهر والسنة فانه سيمنى بالفشل؛ لان الناجح في الحياة هو من يمضي لكل يوم عمله بمعنى ان كل ساعة وكل يوم له عمله الخاص به. 
 
تحديد جدول وسقوف لـ: 
 
زيارة الأرحام والمرضى والمقابر 
 
ولنمثل لذلك بأمثلة شديدة الابتلاء 
 
1) صلة الرحم: فإذا لم يحدد الإنسان وقتا وجدولا لذلك فانه قد يجد نفسه يوما وقد ضيع حقوق أرحامه عليه في حين انه لو حدد مثلا ان يتصل في كل ليلة بوالديه فانه سيلتزم بشكل عام بهذا التحديد وهذه الجدولة ولو بنسبة 70%، أما لو ترك الأمر على عواهنه فلعله تمضي عليه عشرة أيام ولم يتصل بأحد والديه !! وكذلك الاخوة والأخوات والأعمام والعمات وأبناء العمومة بل حتى الأرحام البعيدين ويمكن ان يحدد، لكل منهم حسب درجة قربه أو بعده اتصالاً أو رسالة أو غيرهما كل أسبوع أو كل شهر أو حتى كل سنة مرة للأرحام البعداء جداً. 
 
2) زيارة المقابر: وقد كان السيد الوالد (قدس سره) يوصي مكررا ومؤكدا بان يحدد الإنسان يوما في الأسبوع على الاقل للذهاب الى المقابر لان المصير اليها بلا شك ولا ريب، فعلى الإنسان أن يزور أهل القبور وان يتأمل في حال المقابر وياخذ العبرة ممن مضى من أسلافه وأرحامه وأصدقاء فان ذلك يحثه على العمل الصالح ويزهده عن الحرص على الدنيا. 
 
فلو حدد الانسان الزيارة في كل أسبوع مرة على الأقل، فانه سيلتزم بشكل عام ولو 50% اما لو لم يحدد بل ولم يفكر في ان يحدد ويجدول لذلك فان الشهر والشهرين والثلاثة ولعله السنة تمر، ولم يزر القبور مرة واحدة!! 
 
3) زيارة المرضى في المستشفيات: وكذلك كان يقول السيد الوالد (رحمة الله عليه ) ان من أفضل ما يعظ الإنسان زيارة المرضى في المستشفيات، وكان رحمه الله يزور المرضى يوميا ممن يعرفهم او حتى الغرباء تفقداً لهم ولما في ذلك من الأجر ولاخذ العبرة والعظة فيشكر الله على نعمة العافية وهو يرى ذلك المشلول وهذا المكسور والاخر المحروق والرابع الموبوء وهكذا، فان المرضى بالآلاف ولعلهم بالملايين فكيف لا اشكر الله تعالى ولم يجعلني منهم ؟!! 
 
تحديد جدول وسقوف للرعاية والتأسيس والهداية 
 
4) الأيتام: هنالك العديد ممن يهتم بأمور اليتامى قدر وسعه الا ان الكثير من الناس لا يهتمون بهم، بل وحتى لا يفكرون في ذلك بأي نحو من الأنحاء، في حين ان رعاية اليتيم تحضى بالأولوية في توصيات الشارع المقدس فكم أعدّ لها من الاجر والثواب، فلو أن الإنسان جدول وقته على ان يمر على يتيم واحد بالشهر مرة واحدة فقد يلتزم، اما لو لم يفعل ذلك فقد تمر عليه سنة كاملة ولم يمرر بيده على راس يتيم قط، فيحرم ذلك الثواب العظيم، وما أعظمها من خسارة.. 
 
5) بناء مشروع خيري: فقد كان من منهج السيد الوالد (قدس سره) ان يوصينا جميعا: اذا ذهبتم الى أية مدينة فضعوا في جدولكم في السنوات الخمس الاولى ان تؤسسوا خمس مؤسسات !! وكان (قدس سره ) ملتزما بذلك بل اكثر منه بل زاد على ذلك بكثير. 
 
ذلك ان خير الدنيا والآخرة في ان يبني الانسان مسجدا او حسينية او مدرسة او مؤسسة علمية او مكتبة او مستوصفا او مستشفى او صندوقا للإقراض الخيري وما اشبه، اما اذا لم يضع المبلِّغ او العامل في سبيل الله – وإن كان طبيباً أو محامياً أو حتى مزارعاً أو بقالاً - جدولا لذلك ولم يفكر فيه، فان السنون تمر عليه مرور الكرام ولم يؤسس مؤسسة واحدة. 
 
ولا نقول ان عليه ان يباشر ذلك العمل بنفسه ويموله من عنده، فانه نعم المطلوب لو أمكنه لكنه قد لا يتسنى له ذلك فعليه حينئذٍ ان يقوم بتشكيل لجان لذلك وان يحث الناس والميسورين من المؤمنين على ذلك حثاً أكيداً شديداً فان الله يبارك في دعوته وعمله هذا بلطفه وكرمه. 
 
6) هداية الآخرين: سواء من الكفر الى الضلال او من الفسق الى الإيمان، فلو صمم احدنا على ان يهدي شخصا واحدا في كل يوم كمعدّل فانه خلال عشرة سنوات سيهدي مجموعة كبيرة من الناس، وذلك من خلال تأليف أو تأسيس أو تربية أو موعظة او بغير ذلك، في حين أن البعض منا قد تمر عليه عشرات السنين ولم يهدِ (يشيِّع) أحدا، وما ذلك إلا لأنه لم يجعل لذلك جدولا وسقفا زمنيا معينا. 
 
يؤسس 300 مؤسسة في 50 سنة رغم انه سجن 58 مرة! 
 
وكان السيد الوالد ينقل لنا قصة فيها عبرة وموعظة قال: إن الشيخ عباس علي الاسلامي طوال (50) سنة وضع لنفسه جدولا وهو ان يؤسس مدارس دينية حديثة في ايران، ليصد الغزو الشاهنشاهي المعروف, وقد نجح خلال هذه المدة في تأسيس (300) مدرسة دينية!! وهو رقم كبير جدا إذ يعني انه كان يؤسس – كمعدل - في كل سنة (6) مدارس أي كل شهرين مدرسة واحدة !! وهو عمل جبار حقاً رغم الموانع الكثيرة ورغم ملاحقته من قبل السلطات الظالمة حتى انه سجن (58) مرة، وكان كلما خرج من السجن واصل مسيرته وعمله حتى أسس مجموعة مؤسسات كاملة في قبال ما تقوم به السلطة من إفساد وتجهيل. 
 
كما انه كان قد حُكم عليه بالاعدام (9) مرات !! لكن الله تعالى كان ينقذه، مع ان العادة جرت ان الانسان اذا سجن او حكم عليه بالإعدام واقترب من حبل المشنقة إنه إذا تخلص من اسر السجن ومضاعفاته فانه يترك العمل الذي ادى به الى ذلك ويستسلم للامر الواقع. 
 
لكن الشيخ عباس كان يعلم ان معاملته مع الله، وان العمر سينقضي يوما ماء، فلينقض إذن في طاعة الله وفيما يرضيه. 
 
في حين ان أحدنا قد تمر عليه سنة ولم يؤسس مدرسة، أو سنتان ولم يحصل شيء، أو ثلاث سنين والحال على ماهو عليه، ولعلي تمر عليّ الـ(50) سنة التي مرت على الشيخ عباس الإسلامي ولم أنتج شيئاً قط، من تأسيس او غيره من الباقيات الصالحات !! 
 
ولايفوتنا ان نبين ان السيد البروجردي هو من تعهد بالرعاية لهذه المشاريع لكن الشيخ عباس كان هو من كان يذهب الى مختلف المناطق ويستثير همم الناس ويبني معهم المدرسة بكل جهد ومشقة حتى اذا ما اكتملت كان يتصل بالسيد البروجردي لإرسال المعلم او المبلغ فيرسل السيد البروجردي من جهته رجل دين او مديراً فيتكفل بالتعليم او بادارة تلك المدرسة. 
 
يقول الامير ( عليه السلام ): " وامض لكل يوم عمله " فيوم الجمعة مثلاً له أعمال خاصة به([9]): فهو يوم صلة الرحم او التهجد والتضرع والإنابة والارتباط بالله تعالى وبوليه (عجل الله فرجه ) لكن البعض يقضي ذلك اليوم في الاستراحة أو النزهة او في مشاهدة المسلسلات او غير ذلك. 
 
فكل يوم له عمله بل وكل ساعة لها عملها ففي ساعة الفجر عليك ان تؤدي صلاة الصبح في اول وقتها وليس بعد نصف ساعة !! 
 
تحديد الأولويات على حسب العوائد والفوائد 
 
ثم يقول الامير ( عليه السلام ): " واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقيت واجزل تلك الاقسام وان كانت كلها لله اذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية " 
 
وهناك قاعدة يذكرها علماء إدارة الوقت وهي: انه يجب ان تحدد الأولويات على حسب العائد والمردود. فعلى الإنسان عندما يستيقظ صباحا ان يفكر ويحدد: ما هي أولوياتي في هذا اليوم؟ وفي هذا الشهر؟ وفي هذه السنة؟ فهناك خيارات متعددة وكثيرة من زيارة شخص او كتابة كتاب او مشاهدة شئ وغير ذلك. 
 
كيف نحدد الاولوية وما هو المقياس؟؟ 
 
الجواب: المقياس لذلك: (حسب العائد) بمعنى: أن ندرس العائد والمردود من كل عمل؟ وعلى ضوء ذلك نقدم العمل الذي يكون عائده افضل وانفع دنيويا واخرويا. 
 
ان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يشخِّص لنا المصداق ويحدد (العائد الأفضل والأكبر)، فيذكر ان الأولوية الأولى والتي لا ينبغي ان نقدم علها غيرها هي: رضا الله سبحانه وتعالى، وثانيا: منفعة الخلق، وثالثا إن كان ثالثاً!: منفعة النفس . 
 
لكن الذي يحصل عندنا هو: اننا نفكر أولا في أنفسنا وراحتنا وأرباحنا ومدخولاتنا، ثم نفكر في الآخرين او في الله على حسب درجات كل منا!! 
 
القاعدة الذهبية: لا تغضب إلا لله 
 
كان من قواعد السيد الوالد ان لا يغضب لنفسه ابدا، بل كان يغضب لله او لخلق الله تعالى لو ظلموا أو أضيعت حقوقهم، وكان يوصينا بذلك دائماً (وهي قاعدة صعبة جدا وتحتاج الى جهاد طويل حقاً فلو دخلتم الى مجلس ما، فأهانكم البعض فكم يغضب بعضنا وقد يشن حربا بلا هوادة؟!! ولعل الامر يتطور الى ان يمتد النزاع إلى عشيرتين او حزبين او دولتين) 
 
ولأجل جهاده قدس سره نفسه للالتزام بهذه القاعدة الذهبية رفعه الله تعالى حتى انه ألّف ما يقرب من (1400) من الكتب وأسس المئات من المؤسسات والمبرات وغيرها، وهو توفيق لا يعطى عبثا ذلك ان الانسان اذا كان تفكيره في نفسه فان الله يَكِلُه اليها اما اذا محّض نفسه لله وفي الله وبالله فان الامور ستختلف وستكون يد الله معه وبركة الله ستكون معه.. وأين الثريا من الثرى؟ 
 
ومن نماذج ذلك: انه في إحدى الدول كانت بعض الجماعات تثير ضده قدس سره اشاعات مغرضة باستمرار وفي يوم من الايام خرج من الدار الى المسجد لصلاة الصبح جماعة ([10]) وكان معه شخص من المؤمنين، واذا جدران البيوت على جانبي الشارع مغطاة بشعارات وملصقات ضده (رحمة الله عليه)، وفيها من التهم والكلام البذيء الشيء الكثير، فاكمل مسيره الى المسجد، وصلى بالناس ثم طلب عدداً من مقلديه وأصدقائه وقال لهم: لا تتكلموا بأية كلمة ضدهم بل ولا تمزقوا هذه الملصقات والمنشورات وان كانت التهم كلها باطلة وتتعلق بمرجع تقليد، لأنه قدس سره كان يرى أنها تتعلق بشخص على اية حال. 
 
وقال: لا تتصرفوا بأي تصرف سلبي ضد تلك الجماعة، ولتبقى الامور على ماهي عليه من تزاور في مناسباتهم ومساجدهم ومؤسساتهم بل وصلوا خلفهم أيضاً. 
 
فقيل له: اليس المتورط بنشر وإشاعة هذه التهم الباطلة فاسقا فكيف نصلي خلفه ؟ 
 
فقال: كلا فان فسقه غير محرز وانا احمل عمله على محمل حسن اذ لعله - اجتهادا او تقليدا - يرى صحة هذه التهم وان كنا نعلم ببطلانها فقد يكون جاهلا قاصرا ويتصور ان وظيفته الشرعية هي في ان يسبني ويتهمني!! ألم يرد (احمل فعل أخيك على سبعين محملاً) وهذا محمل واحد!. 
 
أين نحن من هذا التفكير الحسن المبني على حسن الظن المدعوّ إليه في الروايات؟ وأين نحن من المحافظة على الوشائج الاجتماعية والروح الاسلامية الطيبة، في حين أننا نشاهد هذه النزاعات والتوترات والمشاكل تتزايد في مجتمعاتنا يوماً بعد يوم أكثر فأكثر. 
 
وما نريد ان نقوله: ان من اللازم علينا ان نجعل الأولوية هي رضا الله سبحانه وتعالى ثم منفعة الخلق ثم ان بقي فائض وقت وعمر فلنفكر في أنفسنا!. 
 
صمود السيد الخونساري طلبا لرضا الله تعالى رغم الضغوط الهائلة 
 
كان السيد احمد الخونساري من كبار المراجع الزهاد الورعين وكان يعيش في طهران وله كتاب مدارك الأحكام، ويشهد بورعه وزهده القاصي والداني، وقد كان من صفاته انه يغضب لله فقط ويبحث عما يرضي الله تعالى فقط. 
 
وكان يصلي جماعة في مسجد من أهم مساجد طهران وكان المسجد يمتلئ بالحضور من المقلدين والمحبين وقد تعرض الى امتحان عسير في موقف سياسي صعب ليس هاهنا محل ذكره، وكان يرى شرعا ان لا يدخل في ذلك المعترك السياسي المعين فلم يؤيد .. ورأى أن يسكت ويحجم عن التأييد ليس اكثر، ولكن تلك الجهات لم تكن ترضى بذلك بل كانوا يريدون منه ومن غيره من المراجع والشخصيات التأييد فبدأوا باثارة الإشاعات والأقاويل ضده، ووصل بهم الأمر إلى ان اخرجوا مظاهرة نسوية ضده في وقت خروجه من مسجده. وهي اهانة كبيرة لمرجع تقليد: ان تحيط به عشرات من النساء وهن يهتفن ضده بشعارات مسيئة، وكان من تلك التهم والهتافات: 
 
" حتى النساء ألتحقن بهذا المسلك السياسي المعين الا ان الرجال الذين لا غيرة لهم جلسوا في مساجدهم وبيوتهم"!!.. ثم واصلوا مضايقاتهم له وتهديد الثابتي القدم معه، وإلصاق التهم به الى ان اخذ الحضور بالتناقص حتى فرغ المسجد شيئا فشيئا، الا صفا واحدا من المصلين أو صفين، ومع ذلك كله بقي السيد الخونساري كالج بل الشامخ صامداً غير مداهن لا يطلب الا رضا الله. 
 
لكن الناس بعد ذلك وبمرور الزمن عرفوا الحقيقة، فرجع المسجد الى سابق عهده وألتف الناس حوله أكثر فأكثر لكن بعد ان مر هذا المرجع الكبير بامتحان عسير استمر سنيناً وقل من يصمد في مثله. 
 
يقول الأمير ( عليه السلام ): " واجعل لنفسك فيما بينك وبين الله افضل تلك المواقيت وأجزل تلك الأقسام وان كانت كلها لله اذا صلحت فيها النية وسلمت منها الرعية " 
 
نسال الله سبحانه وتعالى ان نكون وإياكم ممن يرضي الخالق وان كان ذلك بسخط المخلوق. 
 
وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين 
 
 
([1]) نهج البلاغة ص439. 
 
([2]) ذهبت الامامية الى القول بالعينية في صفات الله تعالى أي ان صفات الله عين ذاته تعالى، خلافا للاشاعرة القائلين بالزيادة وخلافا للمعتزلة القائلين بالنيابة وبحث ذلك مفصلا في الكتب الكلامية فراجع ( المقرر) . 
 
([3]) من الوضع والجعل 
 
([4]) فمثلاً للدورة الدموية في بدن الإنسان زمن خاص بها. 
 
([5]) وهذا الرأي في اقصى اليمين ابتعادا عن الرأي الاول الذي كان في اقصى اليسار 
 
([6]) وقد ورد في كلماتهم (عليهم السلام ) الكثير مما توصل اليه العلم حديثا كما في كلمات الامام زين العابدين (عليه السلام ) حيث ذكر ان انتقال الاوبئة يتم عبر الماء قال ( عليه السلام ) في دعاء الثغور: (اللَّهُمَّ وَامْزُجْ مِيَاهَهُمْ بِالْوَبَاءِ) وراجع مثلاً (الإمام جعفر الصادق كما عرفه علماء الغرب). 
 
([7]) وينبغي ان تدرس هذه الكلمات من قبل علماء الفلك والفيزياء والكيمياء وغيرهم . 
 
([8]) أي ما مضى وما سوف ياتي. 
 
([9]) أو تتأكد فيه. 
 
([10]) كان يصلي (قدس سره) الصلاة جماعة في الثلاث اوقات المعهودة

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=924
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 7 رجب 1435هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28