• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : دروس في التفسير والتدبر ( النجف الاشرف ) .
              • الموضوع : 176- ( المرابطه ) في ثغور شياطين التصور والتصديق .

176- ( المرابطه ) في ثغور شياطين التصور والتصديق

 بسم الله الرحمن الرحيم 

 
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين سيما خليفة الله في الأرضين واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم 
 
المرابطة في ثغر (التصور والتصديق) في زمن الغيبة 
 
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)([1]) 
 
ويقول جل اسمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([2]) 
 
الحديث في هذا اليوم سيدور بإذنه تعالى حول عنوانين: 
 
العنوان الأول: هو العنوان المنطقي الشهير وهو( التصور والتصديق) . 
 
العنوان الثاني: هو العنوان الذي ورد في هذه الآية القرآنية الكريمة بقوله تعالى {ورابطوا} أي: عنوان (المرابطة). 
 
العنوان الأول: التصور والتصديق ودورهما في بناء شخصية الانسان 
 
احدى بحوث المنطق الشهيرة هو مبحث التصور والتصديق، ونحن ندرس المنطق بشكل عام من زاوية علمية بحتة، حيث نريد أن نؤطر التفكير، ونحفظ الفكر عن الخطأ الناتج من العلة الصورية للاستدلال والبحث. 
 
لكن منطقة الفراغ ونقطة الضعف هي أننا لا ندرس علم المنطق من زاوية علم النفس الاجتماعي ولا ندرس المنطق من زاوية علم الأخلاق، وهذا ما نريد أن نشير له بإيجاز في هذه الفصل الأول من الكلام. 
 
وسنجد فيما يرتبط بإطار حديثنا الثاني وهو المرابطة، ذلك الترابط الجوهري بين مبحث التصور والتصديق وبين علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وبذلك سيظهر لنا أيضاً الرابط بين (التصور والتصديق المنطقي ) وبين (الـمرابطة) في الآية القرآنية الكريمة؟ 
 
أنواع التصور الأربعة 
 
وبكلمة واحدة: فاننا عندما ندرس التصور والتصديق من زاوية علم النفس، ومن زاوية نفسية، ومن زاوية علم النفس الاجتماعي، ومن زاوية علم الاخلاق، فستفتح لنا نافذة معرفية جديدة: 
 
ان التصور ـ بإيجاز ـ يتعلق بأحد أمور أربعة، كما هو معروف في علم المنطق: 
 
1- اذ ان متعلق التصور تارة يكون المفردات، كما لو تصورت جبلاً من ذهب او الأبيض أو الأسود أو العادل أو الفاسق أي: ما تعقّله الإنسان، وما حصل في ذهنه من المفردات فهو تصور. 
 
2- وتارة يتعلق بالمركبات الناقصة، مثل المضاف والمضاف إليه مثل: غلامُ زيدٍ، إذ لا تصديق فيه، كذلك الصفة والموصوف مثل: الرجل العادل.. كذلك الصلة والموصول مثل: الرجل الذي ... الرجل الذي ماذا؟. 
 
3- كما ان التصور ايضا يتعلق بالانشائيات مثل: اذهب، وهو فعل امر، ليس فيه تصديق بأمر موجود في الخارج يحكيه هذا لكي تصدق به، وإنما هو إنشاء وإيجاد. او هل ذهبتَ؟ ايضا ليس فيه تصديق، بل هو استفهام عن تحقق هذا الأمر. 
 
4- ويتعلق ايضا بالجملة الخبرية المشكوك فيها إذ لا تصديق، كما لو بلغك خبر فشككت في صدقه وكذبه فأنت متصور للموضوع والمحمول والنسبة الحكمية بينهما . 
 
أما التصديق: فان متعلقه هو النسبة الحكيمة مع الإذعان بها أي إذا اذعنت بها فهو تصديق 
 
وهذا هو البحث المنطقي الشهير وبإيجاز، وتوجد هناك بحوث أكثر تخصصا وعمقاً لكننا نكتفي هنا بهذا المقدار لموضع الحاجة . 
 
والذي نريد أن نقوله: أن التصور له دور اساسي في صناعة شخصية الإنسان، وهنا موطن من مواطن المرابطة في الآية القرآنية الكريمة، أي هو صغرى من صغرياتها. 
 
فان أول موطن للمرابطة هو المرابطة في مقابل شيطان التصور، في بعض أنواعه. 
 
التصور قد يصنع التصديق وقد ينتج العمل 
 
ثم ان التصور يصنع التصديق وينتجه في بعض الحالات، ومن المعروف أن التصور لا يستلزم التصديق لكن يستثنى من ذلك بعض العناوين الرئيسية التي قد نتحدث في المستقبل عنها، وسوف يتبين ان التصور يصنع التصديق في بعض الحالات كما سنشير الآن إلى بعض مصاديق موطن الشاهد من ذلك على ضوء آية المرابطة. 
 
بل اننا نذهب الى ابعد من ذلك فنقول: ان التصور قد ينتج العمل، أي ان التصور بنفسه قد يثمر السلوك والعمل الخارجي وذلك على عكس المعروف عادة وهو أن التصديق يستتبع العمل فانه وإن صح في أحيان كثيرة إلا اننا عندما ندرس القضية من زاوية علم النفس، سنكتشف أن التصور في أحيان كثيرة أخرى هو الذي يصنع السلوك، وإن كان التصديق على النقيض. 
 
شيطان التصور 
 
فمثلاً: قد يتصور الإنسان إمرأة أجنبية متبرجة، فان هذا التصور هو تصور شيطاني على الإنسان إن يرابط دون تسرُّبِهِ إلى منطقة النفس والخيال فان هذه أول محطات المرابطة. أي ان نفس التصور لامرأة أجنبية متبرجة هو شيطان بعينه ينبغي أن يُبعد عن صفحة سريرة الإنسان. 
 
وقد يتصور الإنسان المعصية، فيكون نفس تصوره هذا شيطاناً يغويه ويغريه على الاقتراب منها، فيكون عليه أن يطهر نفسه وقلبه منه. 
 
وقد ورد في الدعاء الذي يقرأ عند الاغتسال ان يقول الانسان عنده: اللهم طهر لي قلبي!! من ماذا؟ من وساوس الشيطان ومن التصورات الشيطانية أيضاً. 
 
فلو ان الإنسان نظر الى إمرأة أجنبية في التلفزيون، فحتى لو كانت هذه النظرة مجردة من الريبة وخوف الافتتان وحتى لو أن مرجع التقليد الذي قلده الإنسان لم يحرم النظر إلى هذه الصورة، فان ما ينبغي للمؤمن هو ان لا ينظر إليها لأن هذه الصورة هي شيطان؛ لأنها عندما تنعكس في داخل الإنسان تقرب الإنسان إلى المعصية عند المحطة الفارقة بين الحق والباطل، فتغريه بالمعصية حيث يقع في امتحان حقيقي وذلك لأن الصور تبدأ في اللاوعي تتراكم فتجره للمعصية. 
 
ولا يقولنّ أحدنا ان هذا أو ذاك مكروه! وذلك لأن المكروه مكروه ومبغوض، ونحن نتسلح بسلاح أنه مكروه فنفعله! ان من الصحيح ان الله أراد أن يسهل علينا فلم يحرم كثيراً من الأمور لكن لم لا يكون الانسان محتاطاً حكيما، لأنه عند ساعة الصفر فان هذه الصور المتراكمة ستؤثر قطعا. 
 
كذلك الإنسان قد يتصور بينه وبين نفسه: هل أدفع الخمس أم لا أدفع؟ أقوم لأصلي صلاة الليل ام لا؟ هنالك دين علي، هل أسدده في وقته ام لا؟ هذا هو شيطان التصور وهو من مقولة الإنشاء التي ذكرنا انها من أقسام التصور، وكان ينبغي عليه ان لا يتصور ويفكر ويتردد، بل عليه ان يقرر ان يدفع ما بذمته فوراً فيرضي ربه ويقضي فرضه. 
 
كذلك هل استرضي فلانا حيث اغتبته([3])؟ لماذا تفكر وتبقى في دائرة التصور؟ اذهب واسترضيه واكسر غرورك فما الاشكال في ذلك؟ بل انه هو عين السمو الروحي والعزة: ان تتعزز بطاعة الله بالفرار عن معصيته. 
 
ان المشكلة الكبرى هي اننا لا نرابط عند الثغر الأول الذي يدخل منه إبليس. وأول ثغر هو التصورات الشيطانية. وثاني ثغر هو التصديق الضالة والباطلة والمنحرفة وثالث ثغر هو العمل والسلوك الخارجي. 
 
التصورات الرحمانية 
 
ان التصور بكلمة واحدة يسهم في صناعة شخصية الإنسان، مثلا لو تصور الإنسان أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، بتلك الطلعة النورانية، وذلك السيماء الملائكي، لو انه تجسده في ذهنه وتصوره فقط, فان هذا بنفسه يوجد نورا في قلبه وجوانحه، ويصوغ شخصيته الإيمانية بنحو أفضل. 
 
ولو ان الإنسان تصور الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتذكره في الصباح والمساء، وحاول ان يتخيله، يتمثله، يتجسده، ولو بصورة نورانية أي بشكل هالة من النور، فان هذا بنفسه يسهم في صناعة شخصية الإنسان المعنوية وسوف يمنعه من المعصية إذا كاد أن يقترب منها. 
 
وكذلك لو عايش الإنسان صور ضريح الإمام الحسين عليه السلام، او الكعبة المنورة، او أيضاً: كتاب الكافي الشريف، او تحف العقول، او نهج البلاغة، او الاحتجاج، او بحار الأنوار، فان نفس هذا التصور يصنع شخصية الإنسان الروحية والمعنوية بل والفكرية أيضاً. 
 
خطة الغرب لصناعة التصورات الآئمة 
 
وبالعكس من ذلك: ان يتصور كتاب فسق والعياذ بالله، او حتى في متابعة نشرات الأخبار ومشاهدتها فيما تتضمن من لقطات غير نزيهة أو اخبار غير أخلاقية. فان لها تاثيرا عكسيا على روحية ومعنوية الانسان في الغالب. 
 
والمتتبع يلاحظ بوضوح ان الغرب له منهجية خطيرة فانهم يدرسون المنطق من زاوية علم النفس. وانتم تلاحظون الآن كيف ان وسائل الأعلام مشحونة بأخبار الجرائم وسفك الدماء والمشاهد المؤلمة والمروعة وبالمشاهد أو الأخبار غير الأخلاقية!! ان وراء ذلك تخطيطا ودراسات نفسية وتحليلات دقيقة عن مدى تاثير ذلك على ملايين المشاهدين من المسلمين وغيرهم. 
 
فان الإنسان عندما يقرأ في الجرائد او الإذاعات او الشبكة العنكبوتية او غير ذلك، عن حالات كثيرة من جرائم القتل، او جرائم الاغتصاب، فانه يتعود على سماع ذلك وقد يستمرؤه وتتشبع نفسه بهكذا اخبار وهكذا مشاهد، فلا يستعظم المنكر ولا يستقبح الظلم، وشيئا فشيئا ينسلخ عن ضميره وانسانيته، ثم يتقبل القوانين المتهتكة والاساليب الشاذة وهو لا يبالي([4])، ان نفس هذا التصور يصنع شخصية اؤلئك الشباب، لأن قبح العمل يرتفع بالتدريج عن أذهانهم ويصبح شيئاً عادياً روتينياً. 
 
اما إذا لم يتصور الإنسان إلا المسجد، إلا الحسينية، إلا الطهر، إلا العفاف، إلا الورع، إلا التقوى، إلا الأولياء، فان فهذا الإنسان يسمو ويحلّق في أفق النزاهة والمعنويات طبيعيا. 
 
إذن: الثغر الأول الذي ينبغي أن يرابط عنده هو شيطان التصور، في مقابل نزاهة التصور، ولذا تجدون ان أولياء الله لا يفكرون في المعصية... فان الإنسان احيانا تخطر بباله المعصية فيفكر أن يعمل بها او لا يعمل ثم انه بعد ذلك لا يعمل، لكن نفس هذا التفكير هو منقصة و رذيلة تؤثر في نفس الانسان وتنخر من إيمانه. 
 
والحاصل: ان هذه التصورات سواء أكانت في حقل الإنشاء أم في المركب الناقص، أم غير ذلك من التصورات فانها تؤثر سلبا او ايجابا على نفس الانسان. 
 
(رابطوا على ما تقتدون به) حتى في خطرات القلوب 
 
وقد ذكرنا سابقا الرواية الشريفة: ((رابطوا على ماتقتدون به... )). أي ان يرابط الإنسان على الاقتداء بالأئمة الأطهار، وبرسول الله صلى الله عليه وآله، حيث كانوا منزهين حتى عن خطرات القلوب وحتى عن وساوس النفوس، بالمقدار الذي نستطيع فاننا وان كنا لا نستطيع ان نحلّق إلى تلك العلياء كما هو واضح لكن يمكن ان نسعى لنصل إلى ما يمكن ان نصل إليه ((الا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)). 
 
فعلى الإنسان دوماً أن يملئ ذهنه ومحيط قوته المتخيلة والمتوهمة بالصور الإيجابية المشرقة، وبالمعاني السامية مثل الوفاء، الصفاء، الصدق، المحبة في الله وبالله ولله، التوسل، فان هذه المعاني عندما يستحضرها الإنسان في ذهنه دائماً فانه سوف تتغير نفسه وتسمو ويتحول إلى شخص آخر أكثر كمالاً وفضيلة وتقوى بإذن الله تعالى. 
 
فهذه – إذن - هي الحقيقة الأولى وهذا هو موطن المرابطة الأول. 
 
التصور كثيراً ما يستلزم التصديق 
 
الحقيقة الثانية: ان التصور يسهم في صناعة التصديق في احيان كثيرة، وتوضيح ذلك: ان التصور كثيراً ما لا ربط له بالتصديق: مثلاً جبل من ذهب، هل نصدق بوجوده أو لا نصدق به؟، ان هذا التصور هو لابشرط بالقياس إلى التصديق أي انه حياد فلا ينطق بانا موجود ولا يقول أنا لست موجوداً، لكن بعض التصورات تسهم في صناعة التصديق. 
 
وذلك مثل كافة الممتنعات وكافة الواجبات بالذات. ولذا يقال: تصوره مساوق لتصديقه. فمثلا: الدور ممتنع، فان إنسان إذا فهم معنى الدور حقيقة فحينها يقطع بأنه ممتنع ولا يحتاج إلى استدلال.
 
وان مشكلتنا مع بعض العلمانيين ومع غيرهم ممن ينكر بعض البديهات هو انهم لا يتصورون هذا المفهوم جيدا، ولذا يبدأ يناقش ويجادل وقد يرفض، لكنه لو خلى مع نفسه وتصور ما هو الدور لأذعن بامتناعه فوراً، والدور هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه. في مثال تقريبي: كيف يكون الشيء هو تحت في نفس الوقت الذي هو فيه فوق من جهة واحدة؟ ذلك ليس بمعقول، وبالدقة: كيف يكون الشيء علة لما هو علة له من جهة واحدة؟ هذا غير معقول. 
 
ان تصور الدور حقا مستلزم للتصديق بامتناعه صدقا، والمشكلة الأساسية أنه كثيراً ما لا يوجد تصور ونحن في مباحثاتنا الكلامية مع الآخرين، نجد ان شيطان التصور هو السبب في ضلال الكثيرين، فحيث تصور البعض أبا بكر على غير صورته، او تصور أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على غير صورته، فان ذلك هو الذي جرّه إلى ذلك الوادي السحيق، فلم يدرك الحقيقة الناصعة والمحجة الواضحة. 
 
فالمشكلة الأولى هي في التصور، كما سبق والمشكلة الثانية هي في ان التصور يصنع التصديق. 
 
وفي الواجبات الوجود الأمر ايضا كذلك، وفي مطلق الفطريات، والاوليات، والبديهيات فمثلاً (واجب الوجود)، فان تصور الله تعالى يغني عن كل شيء آخر، أي تصور الذات المستجمعة لجهات الكمال كلها فانه يستلزم التصديق بوجوده وبانه الخالق وبوحدانيته، ولذا يقول تعالى: ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) كأنه يريد ان يقول: انه لا شك فيه ولا مجال للشك فيه، فانه فطري وبمجرد الرجوع للفطرة يكشف لك الأمر وبمجرد تصور المراد بـ(الله) جيدا فانك ستصدق، وليس هناك شك، ولا يحتاج لاستدلال فان نفس تصوره مستلزم لتصديقه. 
 
التصور المجسم للمعاصي من أفضل طرق الردع عنها 
 
وعوداً إلى المعاصي – وكذلك الرذائل الأخلاقية - نجد ان مشكلة الكثير منّا أنه لا تصور حقيقي لنا عن فداحة هذه المعصية والجريمة، نتصورها كذبة بيضاء ولا يوجد لدينا تصور واضح عن واقع الكذبة: ان الكذب هو عقرب سوادء وليست كذبة بيضاء، لكن: عندما يكون التصور مشوهاً وناقصاً حينها يقول الإنسان أنها مجرد كذبة عادية لا ضرر فيها!. لو كان التصور حقيقياً لاستتبع التصديق والعمل ايضا. 
 
في تلك الآية القرآنية الكريمة حيث يقول تعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) لو تجسّد الإنسان هذا المعنى حقيقةً وتصوره جيدا، أي: تصور قطعاً وأجزاء مدميّة من لحم أخيه عنده وهو يأكل منها، فكم يتقزز الإنسان حينها إذا تصور ذلك حقيقة؟ كما انه سيصدق قطعا بأن هذا قبيح. 
 
كذلك لو تصور بأن شخصية اخيه الاعتبارية هي أهم من هذه الشخصية الجسدية وتصور نفسه هو ينهش من لحمه ومن سمعته، إذا تصور ذلك حقيقة فانه لا يحتاج إلى استدلال على انه قبيح وحرام بل سيكون واضحاً لديه وضوح الشمس بان ذلك قبيح أشد القبح وحرام أكيد وانتهى الحال. 
 
كذلك الذين (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً). 
 
ولكي يتصور الإنسان فداحة الأمر فعلى ذلك المبتلى بالربا ان يذهب إلى النار المشتعلة ويقرب يده إليها ليحس ببعض الحرارة ثم يقارنها بالنار التي أكلها في بطنه، ويتمثل هذا المعنى في ذهنه. 
 
وكذلك الإنسان المبتلى بالغيبة، عليه ان يذهب إلى المقبرة ويتصور الميت هناك في قبره ثم يتصور نفسه وهو ينهش من لحمه، فكم هو مقزز؟ كم هو منفر؟ فليجسد هذا المعنى في ذهنه. 
 
ان احدنا قد يكون جالساً في مجلس مطايبة ومجلس سمر ثم اغتاب ذاك المؤمن وتلك المؤمنة، قد لا يحس بقبح ذلك العمل وفداحته، لكن التجسيد الحسي والتصور المجسّد يعدّ نوعاً من الإيحاء القوي المؤثر في صناعة شخصية الإنسان. في التصديق بقبح الشيء وفي الأثر الخارجي الذي يمكن أن يترتب على ذلك ولذا فان من الأساليب النفسية المهمة لكي يرتدع الإنسان عن المعاصي ويكون مرابطاً في هذا الثغر، وهو أول ثغر، هو أن يقوم الإنسان بعملية تشبيه المعقول في ذهنه بالمحسوس بشكل افضل. 
 
المرابطة في ثغر الفضائل 
 
وهنا أنقل لكم قصة لطيفة – وهي قصتان في قصة- : 
 
القصة الأولى وهي تمهيد للقصة الثانية مع ان لها الموضوعية أيضاً: احد العلماء وهو من الخطباء ايضا، دُعي إلى مجلس في إحدى البلاد المعروفة بأنها تعطي اموالا جيدة للخطيب، إضافة إلى أن أهالي ذلك البلد الكرام لا يقتصرون على إعطاء الخطيب أجرة الخطابة إن صحة هذه التسمية فقط بل انهم أيضاً يهدونه الهدايا والنذورات وخاصة انه إنسان صالح – كما أعرفه - إنسان متقي، ورع، والناس يحبون بطبعهم المتقي الورع، فيعطوه هدايا ويعطوه أيضا نذورات, وما اشبه ومنهم من يدفع النذورات مسبقا، (وبين قوسين أقول: ان الناس عادة يعلقون الوفاء بالنذر على تحقق ما نذروا لأجله، ولكن الطريقة الثانية وهي إعطاء النذر – أي ما نذره - مسبقا هي أكثر فاعلية، وقد ذكرت ذلك لبعض المؤمنين ففعلوا وكانت الحاجة ناجعة حينئذ). 
 
وعلى أية حال: ففي ذلك البلد المعروف، الخطيب يحصل على مبلغ جيد من النقود إجمالا، فدعوه إلى مجلس تليفونيا – في شهر محرم لعله – لكنه اعتذر. لماذا اعتذر؟ (لاحظوا الوفاء. رغم عدم وجوب ذلك عليه على حسب رأي المشهور)، قال لهم أني التزمت قبل أن تتصلوا بي مع مجلس اخر في إحدى القرى النائية، لذلك اعتذر منكم. وكان هذا البلد الثاني يعطي للخطيب نقودا قليلة جدا. 
 
فقالوا له أن يمكن أن تبعث نائبا أو تتصل بهم لتعتذر منهم وترضيهم بنحو ما فقال: كلا، لأني اعطيب كلمة وانا عند كلمتي!. مع أنه كان إذا ذهب إلى ذلك البلد سيحصل على مبالغ كبيرة غير ما يحصل عليه لمشاريعه.. 
 
فكم لهذا الإنسان من قيمة؟ كم له من القيمة عند نفسه؟ عند الناس؟، وقبل ذلك كم له من القيمة عند الله سبحانه وتعالى؟ وهذا نموذج واحد من الإنسان المرابط عند هذا الثغر، اعني ثغر هذه الفضيلة: الوفاء. 
 
ولو ان كل إنسان متدين من طبيب او مهندس أو رجل دين أو غيره عُرف بالوفاء، فكم سيكون ذلك عزة للدين؟ وكم سيشكل ذلك دعوة للدين. فهنا إذن موطن مرابطة: المرابطة على فضائل الأخلاق. 
 
ثم ان هذا العالم الخطيب ينقل قضية هامة، يقول اعرف فلانا من العلماء الأولياء، منذ اربعين سنة أعرفه، كان يجاهد نفسه بشكل غريب، ولذا فانه بعد طول جهاد للنفس حصل على كرامات لكنه كان يتكتم عليها بشكل شديد فلم يعرفه إلا الأوحدي، وهو منهم. 
 
يقول بين فترة وأخرى كنت أزوره، وفي إحدى المرات طلبت منه موعداً فرفض، وكررت الطلب مرة ثانية، وثالثة، ورابعة، لكنه كان يرفض. ثم بعد إصرار سمح باللقاء، فدخلت عليه فرأيته حزينا كئيبا فقلت له: مولانا ما الذي حصل؟ قال لي: انت لا تدري ما الذي حدث! ان جهود أربعين سنة من جهاد النفس تحطمت كلها في ثانية واحدة!! 
 
وقبل أن نكمل هذه القضية فلنقرأ هذه الرواية: ((وَاللَّهِ لَتُكْسَرُنَّ كَسْرَ الزُّجَاجِ وَإِنَّ الزُّجَاجَ يُعَادُ فَيَعُودُ كَمَا كَانَ وَاللَّهِ لَتُكْسَرُنَّ كَسْرَ الْفَخَّارِ وَإِنَّ الْفَخَّارَ لَا يَعُودُ كَمَا كَانَ وَاللَّهِ لَتُمَحَّصُنَّ وَاللَّهِ لَتُغَرْبَلُنَّ كَمَا يُغَرْبَلُ الزُّؤَانُ مِنَ الْقَمْحِ))([5]). 
 
وفي كتاب العوالم ينقل هذه الرواية عن غيبة الطوسي، يقول الراوي: قال لي أبا عبد الله: (والله لتكسرن كسر الزجاج وإن الزجاج يُعاد فيكون كما كان...) وذلك يعني ان الإيمان فجأة يتفتت ويتحطم وقد يكون ذلك في امتحان رياسة، أو امتحان شهرة، أو امتحان غيبة مؤمنين أو تيارات من المؤمنين، إذ قد يكون لهم عذرهم، قد يكون لهم اجتهادهم الشرعي، فناقشهم نقاشا اجتهادياً اما الغيبة والتهمة والنميمة والتي اصبحت سوقاً رائجة، فان ذلك مما يكسر الايمان ويفتته كما يكسر الزجاج ويتفتت. والملاحظ هو ان الإمام ( عليه السلام )يقسم على ذلك أفلا يجب على الإنسان أن يحتاط؟ وألا يجب أن تكون مرابطته بأشد أنواع المرابطة عند ثغر المعاصي؟. 
 
ثم ان هذه الرواية تفيد التشجيع على الاحتياط، لا للتحريض على الاستسلام وذلك كما لو قال الخبير: والله ان اللصوص محيطين بالدار وسيقتحمونها غداً مثلاً، فان ذلك دعوة لاتخاذ الحائطة والحذر والإعداد والاستعداد قدر المستطاع أو المحاولة للتخفيف من الخسائر، لا للاستسلام لهم وفتح الطريق أمامهم! 
 
ثم ان من الممكن أن يتوب الإنسان ويستغفر الله سبحانه وتعالى من غيبة أو تهمة أو نظرة، أو حسد، حقد مُظهَر فيعود كما كان، إلا ان الإمام يزيد من حدة الوتيرة: والله لتكسرن كسر الفخار([6]) وإن الفخار لا يعود كما كان.. فان الفخار إذا كسر فانه لا يعود كما كان، أفلا يستدعي ذلك أعظم المرابطة؟ 
 
فعلينا أن نحتاط أشد الاحتياط وأن ندقق، أن نتأمل، كي لا تصدر منا معصية واحدة، لأن هذه المعصية قد تجر إلى معاصي اخرى وقد تحطم كل إيمان الإنسان، وذلك هو المطلوب منا لسبعين سنة – أو أقل أو أكثر – فقط ثم لننعم لملايين السنين بل إلى ما لا يتناهى من السنين بإذن الله تعالى. 
 
فلنتصور هذا حقا: نتصور الزجاج ونتصور تفتته، فان هذا التصور إذا كان واضحا قويا فإنه يقود للعمل، يقود للاحتياط، يقود للنزاهة حقا. 
 
ثم يكمل الامام ( عليه السلام ): ... والله لتميزن. فان سنة الله سبحانه وتعالى ان يميز الخبيث من الطيب "...والله لتمحصن..." وهذا ابتلاء إلهي بأعلى درجاته، ولا يستثني الله من ذلك عالما، ولا جاهلا، ولا مرجعا، ولا مقلدا، ولا مهندسا ولا طبيبا ولا غير ذلك. "...والله لتغربلن .." فكما ان المصفاة تغربل الحبوب كذلك الناس يغربلون، وبعضهم يسقطون كما تسقط حبات الرمل الناعمة من الغربال !!! . 
 
الوالد الله يرحمه الله تعالى كان ينقل، يقول: احد الأولياء رأى في المنام مصفاةً كأنها في السماء معلقة في الفضاء ثقوبها كبيرة وكان عدد من العظماء يقعون منها، أي كان عدد من كبار الشخصيات يسقطون من ثقوبها. ذلك ان الامتحان الإلهي حتى بلعم بن باعورا يسقط فيه رغم انه كان الذي آتاه الله الاسم الأعظم، فليست لاحد ضمانة إلا الدعاء والتوسل والمرابطة الدائمة والاحتياط. 
 
"...والله لتغربن كما يغربل الزؤان من القمح..." 
 
فهذه إذن هي نقطة مرابطة جوهرية، نقطة مرابطة حقيقية، وهي أن يرابط الإنسان عند كل تلك الثغور: ثغر الشيطان، ثغر النفس، ثغر الأهواء، ثغر الشهوات، ثغر التصور الذي يجر إلى التصديق وعلى الإنسان دائماً ان يتصور بتصور واضح أن شخصيته مهددة في كل لحظة من اربعة اعداء أقوياء جداً!! 
 
في ثانية واحدة ضاعت جهود سنوات طويلة! 
 
ولنرجع إلى تتمة القصة: 
 
يقول: في جزء من ثانية فقدت حصيلة سنوات طوال من الجهد، والآن مهما بكيت وتوسلت وتضرعت كي تعود حالتي السابقة إلا انها لم تعد! 
 
يقول هذا العالم: القضية كانت هي انني لسنين طوال كنت اجاهد نفسي حتى وصلت إلى بعض المراتب، ثم في احدى الأيام زرت ابني في بيته ولم يكن لدينا في البيت تلفاز([7]) فأراد الله امتحاني والله محيط بأعمق أعماق النفس، فيقول: دخلت في البيت وإذا التلفاز مفتوح وفي نفس اللحظة كان يبث مشهدا لنساء متبرجات ينزلن من سلم الطائرة وبعض اجزاء جسدهن مكشف، فيقول: 
 
لجزء من الثانية نظرت إليهن أكثر من النظرة الاولى – فان النظرة الأولى التي هي غير اختيارية ليس فيها إشكال، يقول: فجأة رأيت الظلام خيم على قلبي وسلبت كل ما أعطيته وتحطم في ثانية واحدة جهاد سنين طويلة تكسر وتحطم وزال، هكذا يمتحن الله عبيده أفلا يجب ان نكون جميعاً على حذر؟ 
 
يقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ): ((يَا حُمَيْرَاءُ أَكْرِمِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَيْكِ فَإِنَّهَا لَمْ تَنْفِرْ مِنْ قَوْمٍ فَكَادَتْ تَعُودُ إِلَيْهِمْ))([8]) ان النعمة إذا ذهبت... فمن النادر أو الصعب جداً ان تعود وترجع 
 
فقد يكون للانسان ماء وجه في المجتمع، فلماذا يبيع ماء وجهه لأجل مال مهما كثر فانه قليل، أو لأجل رياسة، او لأجل اي شيء آخر، فان النعمة إذا ذهبت فقد لا تعود، كذلك الصحة، والمال والعلم والفضائل... 
 
يجب علينا أن نرابط في الثغر الذي يلي إبليس ليل نهار وفي ثغر النفس الأمارة بالسوء وثغر الهوى والدنيا، وللحديث صلة إن شاء الله. 
 
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين 
 
 
([1]) الزمر:69 
 
([2]) آل عمران:200. 
 
([3]) إن لم تترتب مفسدة أكبر على حسب رأي السيد الوالد H في المسألة، لأن المسألة خلافية، اذ لو اغتاب شخص شخصا أو اتهمه أو نمّ عليه أو غير ذلك، فهل يجب عليه أن يسترضيه؟ المسألة خلافية لكن البعض يفصل: أنه لو كان الاسترضاء مما لا تترتب عليه مفسدة أعظم فيجب وإلا فلا، وذلك لأنه احيانا يفتح الاسترضاء باباً للفساد أعظم إذ قد لا يرضى الطرف الاخر فيثير ذلك فتنة كبرى وتبدأ مشكلة جديدة. (السيد الاستاذ حفظه الله تعالى) 
 
([4]) اعلنت وسائل الاعلام هذا اليوم ( الاربعاء 5/2/2014م): "وافق برلمان اسكتلندا أمس الثلاثاء بغالبية ساحقة على مشروع قانون يسمح بزواج المثليين، ليصبح البلد السابع عشر الذي يعطي الضوء الأخضر لهذا الزواج، رغم معارضة المنظمات الكنسية الرئيسية." المصدر: موقع قناة BBC العربي ـ المقرر ـ 
 
([5]) بحار الأنوار ج 52 ص101 وغيبة الطوسي ص340. 
 
([6]) وهو الطين المطبوخ الذي تصنع منه الكيزان (جمع كوز) 
 
([7]) لا نعهد في التاريخ أن البشرية منيت بالشيطان وبتخطيطات الشياطين كما منيت بها الآن؛ حيث انتشار وسائل الافساد والفساد في الشوارع والأزمة والبيوت والمدارس والأسواق وغيرها وعبر الشاشات التلفازية والشبكة العنكبوتية وغير ذلك. 
 
([8]) الكافي ج6 ص300.

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=915
  • تاريخ إضافة الموضوع : الأربعاء 5 ربيع الآخر 1435هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28