• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 293- الفوائد الأصولية (الحكومة (3)) .

293- الفوائد الأصولية (الحكومة (3))

الفوائد الأصولية (الحكومة (3))

جمع و اعداد الشيخ عطاء شاهين

الفائدة  الرابعة : وعرّفت الحكومة بأنها: (كل دليل كان تعقّله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه، سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره، ولم يكن تعقل الآخر مستلزماً لتعقل الأول، فهو حاكم عليه، من غير فرقٍ بين أن تكون المنافاة بينهما بالمباينة أو بالعموم المطلق أو من وجه ، قال: فإن تعقل عدم الضرر والحرج مستلزمٌ لتعقلِ دينٍ مشتمل على التكاليف، وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها وهكذا) .
هذا التعريف يواجه عدة  إشكالات ؛ منها : أنه لا يشترط في الحكومة أن يكون الدليل الحاكم يتوقف تعقله على تعقل الدليل الآخر ؛ ومنها:  لا يشترط في الحكومة  المنافاة بين الدليلين؛ ومنها : أن الدليل  الحاكم كما يكون ناظراً بمدلوله يكون ناظراً بسياقه أيضاً؛ ومنها : أنه لا يتوقف تعقّل الأدلة الاجتهادية على تعقّل الأصول العملية ؛ إذ لا  يتوقف تعقل (البينة حجة)  على تعقل ( رفع ما يعلمون) ؛ فإن غاية مفاد كل واحد وجوب العمل على مؤدَّاه ونفي العمل على خلافه؛ ومنها : أن نفي دليلٍ ما لغيره من الأدلة أعم من حكومته عليه، كذلك فإن توقف تعقل دليل على تعقّل غيره أعم من حكومته عليه؛ ومنها : أنه يلزم أن يكون كل دليل حاكماً على كل دليل ؛ فتكون كل الحجج حواكم وكونها جميعاً محكومات وهو بديهي البطلان ؛ ومنها: أن توقف تعقل أحدهما على تعقل الآخر إنما يكون في المتضايفين فقطً ؛ في حين لا شيء من الأدلة بمتضايف مع الدليل الآخر ؛ ومنها:  أن في هذا التعريف خلط بين حكومة الدليل وحكومة الحكم ؛ فإنه حكومة الأدلة بعضها على بعض لا مانع من وقوعها ؛ لأن الحكومة من عالم الإثبات والأدلة لا الثبوت؛ وأما حكومة للأحكام بعضها على بعض لا يمكن وقوعها ؛ لأن العلاقة بينها التضاد أو التخالف أو التشابه ؛ إذ الوجوب مضاد للحرمة في نفس الموضوع ، ومخالف له إذا كان في موضوع آخر، وهو مشابه لوجوب آخر في موضوع آخر ؛ ثم إن الفرق الجوهري بين هذا التعريف  وبين ما سبقه ؛ أن قوام الحكومة فيه بـ(توقف تعقل الدليل على الدليل الآخر) ؛ وأما قوام الحكومة فيما سبقه   بـ:الناظرية وتعرض أحد الدليلين لحال الدليل الآخر ، أوبـ :لغوية الدليل الحاكم لولا المحكوم.

تفصيل الفائدة:
إن بعض المحققين عرّف الحكومة بـ: (كل دليل كان تعقّله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه، سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره، ولم يكن تعقل الآخر مستلزماً لتعقل الأول، فهو حاكم عليه، من غير فرقٍ بين أن تكون المنافاة بينهما بالمباينة أو بالعموم المطلق أو من وجه، قال: فإن تعقل عدم الضرر والحرج مستلزمٌ لتعقلِ دينٍ مشتمل على التكاليف، وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها، وهكذا...) [1].
ولا بد أولاً من إيضاح بعض مقاصده ثم المناقشة، فنقول:
توقف تعقّل (الحاكم) على تعقّل المبادئ التصورية والتصديقية لـ(المحكوم)
أولاً:  أن مقصوده هو توقف تعقّل الدليل الحاكم على تعقّل الدليل المحكوم - فإن تعقل (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [2] مثلاً - متوقف على تعقل مبادئ تصورية وتصديقية في مرتبة سابقة ؛ إذ يتوقف على تعقل وتصور (الدِّين) والتصديق به وعلى تعقّل وتصور وجود أحكام فيه والتصديق بها وعلى تعقّل وتصور أن أحكامه على إطلاقها قد تكون ضررية والتصديق بذلك، وبعد ذلك كله يتعقل أنه تعالى ما جعل الحكم الحرجي في الدين؛ فنفي جعل الحكم الحرجي متوقف على ذلك كله.
نعم، المحكوم هو الدليل بلحاظ جهته التصديقية لا التصورية [3]، فتدبر.
فقوله: (مستلزم لتعقل دين مشتمل على التكاليف) يمكن تفصيله كما مضى.
ثم إن قوله (مستلزم لتعقل دليل آخر) يراد به أن الدليل الآخر هو ملزومه ذهناً لا لازمه، فلذا فسرنا الاستلزام في كلامه بالتوقف فإنه أوضح وأدق.
وذلك على عكس أكرم العلماء ولا تكرم زيداً العالم ؛ فإن الثاني مخصص للأول لكنه لا يتوقف تعقّله على تعقّله، وكذلك ما كان مثل (صل) و(لا تغصب) مما كان لهما مادة اجتماع، فإن تعقل أحدهما لا يتوقف على تعقّل الآخر، وأوضح منها مثل (صل) و(أقم الصلاة).

منافاة (الحاكم) بنفسه أو بدليل اعتباره للمحكوم
ثانياً : أن قوله: (سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره) يشير إلى ما سبق تفصيله [4] فراجع.
ونكتفي بالإشارة الآن:
فالحاكم بنفسه [5] بالنسبة لأدلة الأحكام الأولية والحاكم بدليل اعتباره - كحكومة الدليل الاجتهادي كقوله العصير العنبي إذا غلا ولم يذهب ثلثاه حرم أو الغراب حرام-  على الأصل العملي كقوله كل مشكوك الحلية والحرمة حلال [6]  ؛  هو أن حرمة العصير بما هو هو ليس شارحاً أو ناظراً إلى حكم صورة الشك ؛  أي أنه لا يتوقف على الناظرية له ولا على تعقله في رتبة سابقة [7] ، بل قد يقال إن الشك من التقسيمات اللاحقة للحكم فيستحيل -  حسب البعض- نظر الدليل المثبت للحكم له مع كونه متفرعاً عليه لاحقاً له وجوداً [8].
وأما دليل اعتبار خبر الثقة- أي دليل الدليل- فإنه الحاكم الناظر والشارح أو المنافي للمحكوم  بناءً على تفسير الشيخ له  : بـأن مفاده (ألغِ احتمال الخلاف) .
وقد سبق تفصيله مع ذكر المحتملات الخمسة الأخرى في مفاد حجية خبر الثقة وغيره والتي على بعضها يكون دليل الدليل حاكماً دون البعض الآخر فراجع.

الفرق بين كون ملاك الحكومة توقف التعقّل أو النظر أو اللغوية
ثالثاً: أن هذا التعريف يختلف جوهرياً عن تعريف الشيخ وغيره للحكومة؛ إذ قوام الحكومة لدى الشيخ بـ(الناظرية وتعرض أحد الدليلين لحال الدليل الآخر ، وقوام بعض التعريفات الأخرى - والتي بنى الشيخ عليها في بعض كلماته-  بـ(اللغوية)، أي لغوية الدليل الحاكم لولا المحكوم .
وأما قوام الحكومة حسب هذا التعريف فهو بـ(توقف تعقل الدليل [9] على الدليل الآخر) ، ومن الواضح أنه متقدم رتبة عليهما، إضافة إلى أنه أخص منهما ، إذ قد يكون الدليل الحاكم- حسب رأي الشيخ- لغواً لولا المحكوم ، أو يكون ناظراً إليه لكن لا يتوقف تعقّله عليه.
أما توقف التعقل عليه مع كونه ناظراً ولولاه لغواً فكقوله: (لا ربا بين الوالد وولده) [10] و(الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاة) [11] مما وسع الموضوع أو ضيّقه، فهذه مادة اجتماع التعاريف.
وأما عدم توقف التعقّل عليه مع كونه ناظراً أو لغواً لولاه وكونه حاكماً، فكما لو كان أحد الدليلين بسياقه أو قرينة مقامه ناظراً للدليل الآخر ؛ كما لو قال (أكرم العلماء) وقال: (لا تكرم الفساق) لكنه كان بسياقه أو بقرينة المقام أو بإيضاحٍ عامٍ منه بأن ما يتلو جملته الأولى من جملات هو موضح وشارح لها مثلاً، ناظراً له وشارحاً له فإنه حاكم، ولذا لا يلاحظ كون نسبته معه من وجه، لكن تعقّله لا يتوقف على تعقّله كما هو واضح.
بل وكذا الأدلة الاجتهادية بالنسبة للأصول العملية، فإن تعقّلها لا يتوقف على تعقّلها، بل ولا هي لغو لولاها على كلام لعله يأتي.

الإشكالات على هذا التعريف
ولكن هذا التعريف يواجه بإشكالات عديدة؛  فقد أشكل المحقق اليزدي عليه بوجوه، وسنضيف لها أخرى بإذن الله، قال:
الإشكال الأول: أنّه لا تعتبر المنافاة في الحكومة : حسبما عرفتَ سابقاً من حكومة الأصول الموضوعية والبيِّنة على الأدلة المثبتة لأحكام موضوعاتها الثابتة بها، مع عدم المنافاة بينهما [12] ؛ وذلك كاستصحاب الزوجية السابق رتبة على استصحاب وجوب النفقة لدى الشك بهما، وكاستصحاب الخمرية المتقدم رتبة على دليل حرمة الخمر مع موافقته له ، أو البينة على حرمتها مع دليل حرمتها [13].
الإشكال الثاني: ما ذكره بقوله: (إنَّه لا يتم فيما إذا كانت الحكومة من جهة كونه ناظراً بسياقه إلى الدليل الآخر، لا بمدلوله، إذ حينئذٍ لا يتوقف تعقل مدلوله على تعقل الدليل الآخر) [14] وقد مضى إيضاحه.

عدم توقف تعقّل الأدلة الاجتهادية على الأصول التعبدية
الإشكال الثالث: لا يتوقف تعقّل الأدلة الاجتهادية، ولا تعقّل دليل اعتبارها على تعقّل الأصول العملية التعبدية) [15] ؛  فإن قول الشارع مثلاً (خبر الثقة حجة) أو (البينة حجة) لا يتوقف تعقلها على تعقل (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ ... وَمَا لَا يَعْلَمُون)) [16] أو (لِأَنَّكَ كُنْتَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ طَهَارَتِكَ ثُمَّ شَكَكْتَ فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَنْقُضَ الْيَقِينَ بِالشَّكِّ أَبَدا) [17] وهذان هما مورد نظره (قدس سره)  ؛ بل نقول بعدم التوقف أيضاً على الاحتياط والتخيير التعبديين أي بعدم توقف تعقّل خبر الثقة حجة والبيّنة حجة، على (أَخُوكَ دِينُكَ فَاحْتَطْ لِدِينِكَ) [18] ولا على ( يَأْتِي عَنْكُمُ الْخَبَرَانِ أَوِ الْحَدِيثَانِ الْمُتَعَارِضَانِ فَبِأَيِّهِمَا آخُذُ فَقَالَ يَا زُرَارَةُ خُذْ بِمَا اشْتَهَرَ... فَقُلْتُ إِنَّهُمَا مَعاً مُوَافِقَانِ لِلِاحْتِيَاطِ أَوْ مُخَالِفَانِ لَهُ فَكَيْفَ أَصْنَعُ فَقَالَ (عليه السلام) إِذَنْ فَتَخَيَّرْ أَحَدَهُمَا فَتَأْخُذُ بِهِ وَتَدَعُ الْآخَر ) [19]بل قد لا تخطر بالبال أصلاً فكيف بالتوقف، بل لعل الأكثر لا يلتفت لها أبداً [20] حين قول المعصوم مثلاً: (إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْأَيْمَان)) [21] أو قوله: ((إِقْرَارُ الْعُقَلَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ جَائِز)) [22] أو ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [23].

وقد يقال بتوقفها على تعقّل الأصول العقلية
وقال: (نعم يمكن أن يقال إنَّها موقوفة على تعقل الأصول العقلية، إذ معنى صدِّق العادل أحكم بثبوت ما أخبر به للواقع، ولا تتوقف فيه [24] ولا تكن متحيراً [25]، ولا نظر فيه إلى الاستصحاب أو أصل البراءة التعبديين) [26].
أقول: وبعبارة أخرى: قد يقال بأن الأصول العقلية حيث يلتفت لها العقل ابتداءً فيراها عند حدوث أية واقعة لذا يتوقف تعقّل الأدلة الاجتهادية عليها، وذلك لأن العقل حين ملاحظته شيئاً أو فعلاً وشكه في حكمه - كأكل لحم الغراب، أو صلاة الجمعة زمن الغيبة، أو القصاص من المعتدي مباشرة دون رجوع للحاكم الشرعي [27] أو غير ذلك - فإنه ينقدح لديه لزوم الاحتياط عقلاً بناءً على مسلك حق الطاعة ونظيره ، أو ينقدح لديه لزوم التوقف.
بل نضيف إلى كلامه: أو ينقدح لديه البراءة بناءً على غيرهما [28]؛ إذ للبراءة العقلية وجه وليست منحصرة في النقلية التعبدية، بل وكذا الاستصحاب بناءً على كونه وظيفة عقلية للشاك فيما له حالة سابقة لا كاشفاً نوعياً عن الواقع، فتأمل.
وحينئذٍ فإذا كان ينقدح لديه قهراً الاحتياط أو التوقف فلا محالة يكون قوله ( خبر الثقة حجة على كل مشكوك في حكمه أو البينة حجة على كل موضوع مشكوك ) متوقفاً على تعقل حكم الاحتياط أو التوقف [29] لها.
لا يقال: لم يرد :خبر الثقة حجة على كل مشكوك في حكمه؛ بل ورد : خبر الثقة حجة.
إذ يقال: إنه يستبطنه عقلاً ويستلزمه [30].

الجواب: لا توقف من الطرفين
وقد أجاب المحقق اليزدي عن ذلك بقوله: (والإنصاف عدم التوقف في شيء من الطرفين، إذ غاية مفاد كل واحد وجوب العمل على مؤدَّاه ونفي العمل على خلافه، وأما أنَّ خلافه ماذا وهل هو مفاد الدليل الفلاني أو غيره، فلا نظر إليه أصلاً) [31].
إذ نفي العمل بالغيرِ إجماليٌ فلا يكون حاكماً على دليلٍ تفصيلي بعينه
وبعبارة أخرى [32]: أن مفاد الدليل الاجتهادي- وغيره من الأصول- ليس إلا أمرين: الأول: وجوب العمل بمؤداه ؛ فخبر الثقة حجة يفيد وجوب العمل على طبقه.
الثاني: نفي العمل بخلافه ولزوم ترك مخالفه، ودلالته على ذلك إجمالية لا تفصيلية ؛ فليس حاكماً على أي دليلٍ مخالفٍ تفصيليٍّ بعينه ولا متوقفاً ولا ناظراً ؛ وإن قيل بتوقفه – فرضاً- على مخالفه إجمالاً فهو متوقف وحاكم على جنس المخالف إجمالاً أو مبهمه لا على هذا النوع وذاك ؛ مع أن الحكومة علاقة بين دليلين نوعيين محددين ؛ بل أنه صريح كلامه؛ إذ قال (إن كل دليل كان تعقّله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه...).
سلمنا، لكنه حاكم على المبهم أو الجنس أو المخالف الإجمالي على إجماله ؛ لتوقف تعقله عليه لا على خصوص هذا الأصل أو ذاك ؛ لعدم توقف تعقّله عليه ، هذا توضيح كلامه بتصرف وإضافة.

بل نفي العمل بالغير أعم من الحكومة عليه
بل نقول: إنه حتى لو سلمنا أن كل دليل اجتهادي –وغيره- له ذانك المفادان لكن دلالة الدليل على نفي العمل على خلافه هو أعم من الحكومة؛ فإن الدليل يقول-  فرضاً- أنني أنفي غيري ولكن هل أن غيره أضعف منه ظهوراً أو أقوى أو مساوٍ؟ فهذا ما لا يتكفل به الدليل النافي لغيره؛ فإن غيره قد يكون عاماً أو خاصاً أو حاكماً أو محكوماً أو وارداً أو موروداً عليه [33].
ألا ترى: أن العام لو كان مفاده أعمل بي ولا تعمل بغيري تقدم عليه الخاص رغم ذلك؛ لأن الخاص يقول أيضاً أعمل بي ولا تعمل بغيري ؛ وحيث إن الخاص أقوى يتقدم.
وبعبارة أخرى: ظهور العام في نفي مورد الخاص بدويٌّ غير مستقر ؛ عكس الخاص المستقر ظهوره في نفي حكم العام في مورده.
وكذلك قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ﴾ [34] فإنه يفيد أعمل بي ولا تعمل بغيري؛ لكن رغم ذلك فإن ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [35] يتقدم عليه للحكومة؛  والأمر في الدليل الوارد أوضح؛ إذ أنه ينفي موضوع المورود عليه فلا يجديه [36] قوله [37]: لا تعمل بغيري؛ إذ ذلك الغير ينفي موضوعه فيكون سالبة بانتفاء الموضوع، فلا وجود له حينئذٍ كي يكون له لسان ينطق بلزوم نفي غيره.
والحاصل: أنه لا يكون حاكماً إلا إذا كان شارحاً للدليل الآخر بخصوصه ، فحينئذٍ يكون نفيه للعمل بالغير مهيمناً عليه، وأيضاً: إلا إذا قرّر المتكلم قرينة عامة على أن كلامه هذا أو كل كلام له صدّره بـ(إنّ) مثلاً [38] فهو ناظر لكافة الأدلة الأخرى أو شارح ومفسر أو حاكم أو متقدم أو شبه ذلك، ولا يكون حاكماً فيما عدا ذلك لمجرد كونه نافياً للغير؟ كيف والظاهر أيضاً نافٍ للغير (الأظهر) ، لفرض ظهوره لكنه مغلوب به. هذا.

هل محكمات الكتاب حاكمة على المتشابهات؟
وقد يمثل للقرينة العامة على الحكومة بمحكمات القرآن الكريم ؛ إذ جعلها جل اسمه المرجع للمتشابهات؛ قال تعالى : ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [39]
وفيه: أن الخاص من المحكمات كالحاكم والوارد، فليس كون آية محكمة دليلاً على كونها حاكمة بالمعنى المراد من (الحكومة) ، ولتفصيل ذلك موضع آخر.

المحتملان في معنى المتشابه
ونضيف إتماماً للفائدة: أن المتشابه قد يفسر [40] بالمجمل وقد يفسر بما يشبه بعضه بعضاً [41]:
فعلى الأول، فالآية الشريفة وتعبيرها بالمحكمات أجنبي عن مصطلح الحكومة الأصولي؛ فإن المجمل لا ظهور له بالمرة والمحكوم عليه ظاهر في معناه إلا أن الحاكم شارح له، سلمنا [42]، لكن الحاكم أعم من شارح الظاهر ومفسر المجمل فلا يساوي (المحكمُ) الحاكمَ بل هو [43] أخص منه مطلقاً.
وعلى الثاني، فإن المحكمات تكون أعم من الحكومة لشمولها للخاص في مقابل العام، فإن العام متشابه أي يشبه بعض أفراده بعضها الآخر في كون كل منها مشمولاً لعموم العام، لكن الخاص محكم بالنسبة لها فيتقدم عليها لكن بالاظهرية لا بالحكومة، وكذلك الوارد محكم بالنسبة للمورود عليه وليس بحاكم.
والحاصل: أن هيمنة دليل على دليل ومرجعيته لمعرفة المراد به - ورفع إجماله أو دفع ظهوره أو الغلبة عليه أو إيضاحه - أعم من كونه حاكماً أصولياً بما للحكومة من خصائص ، وسيأتي ذكرها بإذن الله تعالى.
وبذلك كله اتضح بطلان الضابط الخامس - وهو (الهيمنة) [44]-  الذي قد يتوهمه البعض للحكومه استناداً في استفادة هذا المعنى كضابط عام، إلى مادة الحكومة بنفسها.
إذ يرد عليه: وضوح أن الحكومة اللُّغَوية أعم من الحكومة المصطلحة؛ إذ الخاص أيضاً مهيمن على العام وكذا المقيد على المطلق والوارد على المورود عليه، وهكذا،  لكنها ليست بحاكمة بالمعنى الأصولي القسيم للوارد وللمتقدم بالأظهرية.

قد يتوقف تعقّل المحكوم على تعقل الحاكم، فيكون حاكماً!
الإشكال الرابع [45]: كما أن نفي دليلٍ ما لغيره من الأدلة أعم من حكومته عليه، كذلك فإن توقف تعقل دليل على تعقّل غيره أعم من حكومته عليه؛ إذ قد يكون محكوماً به لا حاكماً عليه ومع ذلك يتوقف تعقّله على تعقّله؛ فيلزم من الالتزام بالضابط الرابع كون المحكوم المسلّمة محكوميته حاكماً!.

وقد يتوقف تعقّل المورود عليه على الحاكم، فيكون حاكماً!
الإشكال الخامس: أن توقف تعقّل أحدهما على الآخر أعم من حكومته عليه من جهة أخرى أيضاً؛ إذ قد يكون موروداً عليه فيلزم من الالتزام بالضابط والتعريف الرابع كون المورود عليه هو الحاكم وهو بديهي البطلان.

الاحتمالان في المراد بـ(ما لا يعلمون)
توضيح الإشكالين: أن قوله: (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي تِسْعَةُ أَشْيَاءَ ... وَمَا لَا يَعْلَمُون) [46] إن أريد بـ(ما لا يعلمون): ما لا حجة عليه-  أي كونه كناية عنه، لوضوح أن ما لا حجة عليه مرفوع لا خصوص ما لم يعلم به وإن قام عليه الحجة كخبر الثقة والبيّنة - فهو كناية عنه ؛ وعليه فقد توقف تعقّل حديث الرفع – وهو أصل – على تعقّل الحجة المخالفة  وهو دليل ؛ فلزم كون الأصل العملي [47]  حاكماً على الأدلة والحجج ؛ لتوقف تعقّله على تعقّلها مع بداهة كونه موروداً عليه حينئذٍ وكون الأدلة واردة عليه على هذا.
وإن كان المراد بـ(ما لا يعلمون) ظاهره أصبحت الأدلة حاكمة عليه ؛ إذ أن الحجج - كخبر الثقة والبيّنة - عادة لا ترفع اللاعلم حقيقة تكويناً ؛ إذ لا تفيد عادة [48] إلا الظن النوعي ؛ فهي حاكمة إذن على (رفع ما لا يعلمون)؛ إذ أفادت تنزيل الظن اللاعلمي منزلة العلم، مع كون تعقّل (ما لا يعلمون) حينئذٍ موقوفاً على تعقّل الحجج والأدلة ؛ إذ يراد بـ(ما لا يعلمون): ما لا يعلمون دليله حجته، أو يراد به الأعم مما لا يعلمون حكمه وما لا يعلمون دليله وحجته، فإنّ توقّفَ تعقلِ حديثِ الرفع على تعقّل الحجة والدليل نظراً لأخذها في موضوعه كاف- بحسب تعريفه- ليكون حديث الرفع حاكماً على الحجج! فتأمل [49].

يلزم أن يكون كل دليل حاكماً على كل دليل!
الإشكال السادس: وكذلك يلزم أن يكون كل دليل حاكماً على كل دليل ؛ وذلك لانطباق ضابط التعريف الرابع على كل الأصول والأدلة، فإن كل دليل كما يثبت نفسه ينفي غيره [50] ، بل كل أصل أيضاً كذلك؛ فيلزم منه أن تكون البينة حاكمة على الإقرار وبالعكس ، وكلاهما حاكماً على اليد وبالعكس ،  وكذا الشياع وسوق المسلمين إلى غير ذلك من الأمارات على الموضوعات، وكذا الحال في الأدلة كلها من ظواهر قرآنية وخبر ثقة وإجماع على القول بحجيته وغيرها ؛ إذ كل دليل كما يثبت مؤداه ومفاده فإنه ينفي غيره؛ إذ معنى البينة حجة: أعمل على طبقها ولا تعمل بما يخالفها أو الغِ خلافها [51]، وهكذا سائر الحجج ، فلزم كون كل الحجج حواكم وكونها جميعاً محكومات! وهو بديهي البطلان.

بل وكذا كل أصل حاكماً على كل دليل وأصل!
بل وكذا الأصول ؛ فإنه يلزم حكومتها على بعضها ، بل وحكومتها على الحجج أيضاً لجريان نفس ما ذكر؛ فلاحظ جريان نظير قوله: (وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها) [52].
فإنه يعم الأدلة أيضاً بأدنى تغيير لمكان الإطلاق فيكون الاستصحاب حاكماً على الأدلة أيضاً؛ إذ يقال فيه هكذا [53]: (وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة مستلزم لتعقل انه لولاه لكان له حكم آخر بخلافه وهو ما دلت عليه البينة أو اليد أو خبر الثقة أو شبه ذلك) وذلك كلما لم ترفع الشك اللاحق حقيقة.
بل لا يستثني حتى المورود عليه بالنسبة للوارد ؛ لأن لسانه النفي فيتوقف تعقّله على تعقّله وإن كان موروداً عليه، فيكون - على هذا-  موروداً عليه وحاكماً لانطباق ضابط الحاكم عليه أيضاً كما سبق! فتأمل.

التقييد بـ(ولم يكن تعقّل الآخر...) غير معقول [54]
الإشكال السابع : كما يمكن الإشكال عليه بأن القيد الذي ذكره في كلامه (ولم يكن تعقّل الآخر مستلزماً لتعقّل الأول) لغو ، بل لا وجه معقول له ؛ لعدم وجود دليل- بل لعدم وجهٍ وحتى احتماله- يتوقف تعقّله على تعقّل دليل آخر متوقف تعقّله على تعقله حتى يطرد به [55].
بعبارة أخرى: أن قيد (ولم يكن تعقل الآخر...) مستدرك أو هو حاصل قهراً ، فاشتراطه اشتراط للحاصل قهراً.

إذ التوقف في المتضايفين فقط
برهانه: أن توقف التعقّل من الطرفين إنما يكون في المتضايفين ؛ إذ المتضايفان متكافئان قوةً وفعلاً، خارجاً وذهناً، ولا شيء من الأدلة بمتضايف مع الدليل الآخر، بل لو كان بعض الأدلة مضايفاً للبعض الآخر لما كان هناك وجه للتقييد بذاك القيد لإخراجه، إذ لو كان مضايفاً لتوقف التعقل من الطرفين ولو لم يكن مضايفاً لما كان توقف من أي طرف فلا يمكن التفكيك.

التوقف من أحد الطرفين أو كليهما في عالم الإثبات
نعم ، يمكن تصحيحه بالتوقف من أحد أو كلا الطرفين في عالم الإثبات ؛ وذلك [56] فيما أخذ كلّاً منهما في لسان الدليل الآخر كما ظهر مما سبق مثاله، ونضيف مثالين: ما لو قال: (لا حرج في التكاليف أو في أحكام الشريعة) [57] وقال فرضاً: (أتموا الصيام إلى الليل لو لم يكن حرجياً) أو قال فرضاً: (البينة التي لم يعارضها الإقرار حجة)، وقال فرضاً: (الإقرار الذي لم تعارضه البينة حجة)! والذي مآله إلى تساقطهما لدى التعارض أو إلى رفع الحجية التعيينية لكل منهما لنشوء التعارض من إطلاق الحجية لا من أصلها [58]. أو شبه ذلك.
فإنه في مثل هذه الحالات يتوقف تعقّل كل منها على تعقل الآخر لأخذه في حدّه وقيداً لموضوعه أو شبهه ؛ فيكون تقييده لطرد مثل هذه الصورة ليبقى ما أخذ أحدهما في لسان الآخر فقط.

استلزامه ان يكون الدليل حاكماً بلحاظ وغير حاكم بلحاظ!
ولكنه وإن صحَّح التوقف الطرفيني إلا أنه يواجه بإشكال آخر ؛ وهو لزوم أن يكون الدليل الواحد تارة حاكماً وأخرى لا ،  أو بلحاظٍ حاكماً وبلحاظ لا؛ وذلك فيما لو دلّ على اعتباره دليلان في عالم الإثبات وقد أخذ الدليل المخالف في لسان أحدهما ولم يؤخذ في لسان الآخر فيكون حاكماً غيرَ حاكم لاجتماع الدليلين عليه [59]!
فمثلاً: حديث الرفع يلزم أن يكون تارة حاكماً على غيره ؛ لأخذ الغير في لسانه في مثل ( مَا حَجَبَ اللَّهُ عِلْمَهُ عَنِ الْعِبَادِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُم )  [60] ؛ إذ يراد بما حجب الدليل الذي حجب الله علمه عن العباد أو الأعم من الدليل والحُكم الذي حجب الله علمه عن العباد ، أو الحكم المحجوب بلحاظ حجب دليله.
وتارة أخرى غير حاكم ؛ لعدم أخذ الغير في دليل آخر على الرفع نفسه (كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فَهُوَ لَكَ حَلَالٌ حَتَّى تَعْرِفَ الْحَرَامَ فَتَدَعَهُ بِعَيْنِه ) [61] بناءً على شموله للشبهة البدوية وعلى عدم توقف تعقّله على تعقّل الحجة والدليل عليه، أو يمثل (بما لا يعلمون) على الوجهين ؛ فإن أريد [62] به (ما لا يعلمون حجته) كان مما أخذ غيره فيه ؛ وإن أريد (ما لا يعلمون حكمه) مجرداً عن لحاظ الحجة عليه كان مما لم يؤخذ فيه، فتأمل.
وقد يمثل بـ (لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَام ) [63] و﴿ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ [64] إذ أخذ في الأول سائر الحجج لمكان في الإسلام الظاهر في إرادة أحكام الإسلام ولم يؤخذ في الثاني [65].
ولا يخفى أن الكلام كله مجاراتي، وقد سبق التفصيل بين التوقف على تعقّل الطرف الآخر إجمالاً وبين التوقف على تعقّله تفصيلاً.

الخلط بين حكومة الدليل وحكومة الحكم
الإشكال الثامن: هناك خلط بين حكومة الدليل وحكومة الحكم؛ لأنه تارة يقال بحكومة الأدلة على سائر الأدلة وأخرى يقال بحكومة الأحكام بعضها على بعض، وقد خلط التعريف بينهما؛ والفرق بينهما كبير.

حكومة الأدلة بعضها على بعض
والظاهر حكومة الأدلة – لا الأحكام - بعضها على بعض؛ فإن الحكومة من عالم الإثبات والأدلة - كالتخصيص والتقييد والورود - لا الثبوت؛ ألا ترى أنّ الورود يعني أن يزيل الدليل الوارد موضوع الدليل المورود عليه حقيقة لكن بعناية التعبد؟ وأنّ التقييد تقييد للمطلق الذي يتوقف انعقاد إطلاقه على المقدمات الثلاث وكلها من عالم الاثبات [66].
وكذا الخاص؛ فإنه مخصص لما وضع للدلالة على العموم، والدلالة إثبات، فكذا الحكومة فإنها علاقة بين الدليلين لا الحكمين.

ولا حكومة للأحكام بعضها على بعض
وأما الاحكام فالعلاقة بينها التضاد أو التخالف أو التشابه: فالوجوب مضاد للحرمة [67] في نفس الموضوع ، ومخالف له إذا كان في موضوع آخر، وهو مشابه لوجوب آخر في موضوع آخر ، كما يمتنع اجتماعهما في الموضوع الواحد للزوم اجتماع المثلين ، وهكذا، وقد خلط التعريف بينهما ؛ فلاحظ قوله: (كل دليل كان تعقّله في الذهن مستلزماً لتعقل دليل آخر ينافيه، سواء كانت المنافاة بلحاظ نفسه أو بلحاظ دليل اعتباره، ولم يكن تعقل الآخر مستلزماً لتعقل الأول، فهو حاكم عليه، من غير فرقٍ بين أن تكون المنافاة بينهما بالمباينة أو بالعموم المطلق أو من وجه) [68] فإنه جرى على حسب ما جرى عليه المشهور ثم استدل عليه بغيره ؛ إذ نَقَل الكلام للحُكمين نفسهما فقال (فإن تعقل عدم الضرر والحرج مستلزمٌ لتعقلِ دينٍ مشتمل على التكاليف، وكذا تعقل وجوب البناء على الحالة السابقة، مستلزم لتعقل أنه لولاه لكان له حكمٌ آخر بخلافه وهو البراءة الثابتة بأدلّتها، وهكذا).
وبعبارة أخرى: الحكمان الثبوتيان لا إطلاق فيهما ولا شارحية ولا شبه ذلك [69] ، لذا لا يعقل تعارضهما أو الناظرية والشارحية أو الورود بهذا اللحاظ.
نعم، يمكن كونهما عامين بمعنى [70] شمولهما لكافة أفراد الطبيعي تبعاً لما هو في صقع النفس في مرحلة الإرادة والطلب ؛ فهما حينئذٍ على امتناع اجتماع الأمر والنهي متدافعان [71] وليس متعارضين ، وإلا فمتزاحمان ولكن ههنا كلام سيأتي بإذن الله.
والحاصل: أنه لا حكومة ، بل إما تدافع أو تزاحم.
تنبيه: يمكن التمثيل للمباينة في كلامه [72] بـ(يرمي) بالنسبة لـ(الأسد) ؛ فإن مدلولهما متباين لكن القرينة حسب مبنى النائيني-  إذ يظهر من كلامه انه عدّ القرينة المتصلة - من أظهر مصاديق الحكومة [73] خلافاً لما سيأتي منّا, حاكمة عليه.
ومثال العموم المطلق: (لا ربا بين الوالد وولده) [74] و(لا شك لكثير الشك) ونظائرها ، ومثال من وجه: (لا ضرر) بالنسبة للأدلة الأولية.

التوقف قد يكون على مجرد احتمال الحكم بل على مجرد عدم العلم
الإشكال التاسع: أنه لا توقف- في الفروض التي ذكرها كأمثلة وشواهد [75]- على تعقل حكم آخر لولاه كما ادعاه، بل الأمر أعم ؛ إذ قد يكون التوقف عليه، وقد يكون على مجرد تصور احتمال وجود حكم آخر، وقد لا يكون إلا في صورة الجهل المطلق وعدم العلم بما يصنع كما يحدث لكثير من الناس، وكثير من الرواة منهم، إذ العلماء أو الملتفتون فقط هم من يخطر ببالهم تصور عن الحكم الآخر المضاد أو المخالف ، وأما غيرهم فكثيراً ما تكون حالته مجرد أنه لا يعرف ما يصنع، فتأمل.

المحتملات الخمس في (لا شك لكثير الشك)
ولنمثّل لذلك بمثال لطيف مفيد في حد ذاته: فإن )لاشك في النافلة) أو (لا شك لكثير الشك) [76] مثلا يحتمل فيه خمس احتمالات:
الاحتمال الأول: أن يكون ناظراً لحكم الشكّيات المذكور في سائر الروايات ، وعليه فلا يجب البناء على الأكثر والإتيان بركعة من قيام احتياطا.
الاحتمال الثاني: ناظريته للاستصحاب المقتضي للبناء على الأقل.
الاحتمال الثالث: ناظريته لاحتمال البناء على الأكثر فقط.
الاحتمال الرابع: ناظريته للتخيير بين البناء على الأقل أو الأكثر.
الاحتمال الخامس: أو أنه يفيد بطلان النافلة رأساً.
وعلى الخامس فإنه لا ناظرية [77] ؛ اذ يفيد بطلانها ؛ فيكون من السالبة بانتفاء الموضوع ، فتأمل.
وعلى غير الأول فإن الأمر ليس كما هو المعروف من الحكومة عليه للناظرية إليه [78]  ، خاصة فإن ذلك مما يفهم من دليل خارج [79] لا من الحاكم نفسه؛ لتردّد الأمر كما ذكر بين احتمالات خمس.
نعم ، بعض الأحاديث ظاهر في نفي الاحتمال الأول والخامس، فتأمل.
والحاصل: أنه لا حكومة ، بل إما تدافع أو تزاحم [80].

هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى


------------
[1]  كتاب التعارض :ص60-61 لليزدي.
[2]  الحج: 77.
[3]  لذا قال:  مستلزما لتعقّل دليل آخر...
[4]  في الدرس  116 .
[5]  -كدليل لا ضرر ولا حرج.
[6]  هذا في غير اللحوم والشحوم والجلود، إذ الأصل فيها لدى الشك الحرمة.
[7]  كما أكدّه المحقق اليزدي في كتاب التعارض آخر ص 61 وناقش فيه في ص 86 ويأتي بإذن الله تعالى تفصيل الكلام عن ذلك.
[8]  وقد أجبنا عن ذلك في بعض المباحث السابقة فلاحظ.
[9]  وهو الحاكم.
[10]  ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: ج10 ص488.
[11]  عوالي اللئالي العزيزية: ج2 ص167.
[12]  كتاب التعارض  لليزدي  ص61.
[13]  هذا بناءً على كون ذلك من مصاديق الحكومة كما هو مبناه  (قدس سره) وظاهر كثير غيره، وسيأتي بحثه بإذن الله تعالى.
[14]  كتاب التعارض  لليزدي  ص61.
[15]  كتاب التعارض  لليزدي : ص 61.
[16]  وسائل الشيعة: ج15 ص369.
[17]  تهذيب الأحكام: ج1 ص422.
[18]  الآمالي  للمفيد : 283.
[19]  غوالي اللئالي: ج4 ص133.
[20]  جميعها أو بعضها.
[21]  الكافي : ج7 ص414.
[22]  غوالي اللئالي: ج3 ص442.
[23]  سورة التوبة: آية 121.
[24]  وكذا: لا تحتط.
[25]  والتحير موضوع التخيير العقلي إذا دار الأمر بين المتباينين.
[26]  كتاب التعارض  لليزدي : ص61.
[27]  إذ الآراء مختلفة وقد احتاط بعض العلماء وجوباً باستئذان ولي الميت من الحاكم الشرعي.
[28]  واستناداً إلى مثل كرم الخالق وانه خلقنا وملّكنا ما خلق حولنا مما يمكن تملكه أو أجاز لنا تملكه.
[29]  أو البراءة.
[30]  وسيأتي ما فيه.
[31]  كتاب التعارض  لليزدي : ص61.
[32]  تتضمن إضافات وتغييراً.
[33]  تنبيه: ثم إن   نفي العمل بالغير أعم من الحكومة عليه  لم يرد ذلك في كلام المحقق الذي نقلنا عنه التعريف الرابع ، فليس الإشكال وارداً عليه في ظاهر كلامه، بل إنما يرد على من أدعى ذلك وهو الذي افترضه المحقق اليزدي في آخر إشكاله على التعريف الرابع ؛ فهو إشكال على مبنى - أو محتمل آخر-  جرى دمجه في ضمن مناقشة التعريف الرابع استطراداً ولمزيد الفائدة.
نعم ، يمكن تصحيح وروده على التعريف الرابع بأن نفي الدليل للدليل الآخر المخالف له لا يمكن إلا مع توقف تعقّل الدليل النافي على تعقل خلافه قهراً ، فإن مرحلة التصديق متوقفة على التصور  ([33]) ، فتدبر ([33]) .

[34]  سورة البقرة: آية 182.
[35]  سورة الحج: آية 77.
[36]  أي المورود عليه.
[37]  أي كون لسانه هكذا.
[38]  كـ:  إن الضرر غير مجعول في الدين .
[39]  سورة آل عمران: آية 6.
[40]  وهناك تفسيرات أخرى، وليس المقام مقام التفصيل والاستيعاب.
[41]  والأول بناء على كونه من  اشتبه  والثاني بناء على كونه من  اشبه .
[42]  أي سلمنا شمول الحاكم للشارح للمجمل. وسيأتي لدى تحقيق معنى الحكومة ما ينفع المقام.
[43]  أي المحكم.
[44]  وسيأتي بإذن الله تعالى ذكر بعض ضوابط الحكومة.
[45]  وهذا الإشكال  مع لاحقه هو ما نضيفه على إشكالات المحقق اليزدي، معتمدين فيه على تطويرنا السابق لإشكاله الثالث.
[46]  وسائل الشيعة: ج15 ص369.
[47]  حسب التعريف الرابع.
[48]  ويكفي غالباً بل يكفي أحياناً ، فتدبر.
[49]  إذ ذلك مجاراة له – لصاحب التعريف الرابع – في طريقته ونحوٍ بيانه للحكومة، وإلا فهو غير تام.
[50]  على ما  سبق.
[51]  كما قاله الشيخ (قدس سره).
[52]  كتاب التعارض  لليزدي  ص60-61.
[53]  نظير ما قاله عين الاستصحاب بالنسبة للبراءة.
[54]  وشقه الآخر آتٍ في  استلزامه...  فالإشكال بلحاظه، سابعٌ.
[55]  أي بهذا القيد.
[56]  هذا مثال للصورة الثانية.
[57]  أو قال: لا حرج في الصوم وغيره من الواجبات.
[58]  فيكون المفاد الحجية التخييرية.
[59]  أي الدليلين على اعتبار الدليل وحجيته.
[60]  وسائل الشيعة: ج27 ص163.
[61]  وسائل الشيعة: ج25 ص119.
[62]  وكذا لو أريد ما لا يعلمون حجته وحكمه، بل و: ما لا يعلمون حكمه بلحاظ حجته.
[63]  غوالي اللئالي: ج1 ص220.
[64]  سورة النساء: آية 11.
[65]  وفيه انه أخذت الوصية والدين في الآية فلاحظها وتأمل وسيأتي بإذن الله تعالى ما يتنقح به البحث أكثر.
[66]  ككون المتكلم في مقام البيان، والبيان اثبات، وكذا عدم القرينة على الخلاف، والقرينة اثبات، والقدر المتيقن لا مجال له في عالم الثبوت.
[67]  بناء على كونهما وجوديين.
[68]  كتاب التعارض  لليزدي : ص60-61.
[69]  لما سبق من كونها من عالم الإثبات.
[70]  التفسير لطرد العموم اللفظي.
[71]  فلا يعقل تعلق الطلب الفعلي إلا بأحدهما إلا على القول بالترتب.
[72]  أي قوله:  من غير فرق بين ان تكون المنافاة بينهما بالمباينة...
[73]  فوائد الأصول ج4 ص711 وأيضاً ص720 عند قوله:  كما لا ينبغي الشك في حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذي القرينة... .
[74]  ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار: ج10 ص488.
[75]  بل في كل أنواع الحكومة غير ما أخذ فيه أحد الدليلين في حد الآخر، كما سبق.
[76]  عَنْ زُرَارَةَ وَأَبِي بَصِيرٍ قَالا:   قُلْنَا لَهُ الرَّجُلُ يَشُكُّ كَثِيراً فِي صَلَاتِهِ حَتَّى لَا يَدْرِيَ كَمْ صَلَّى وَ لَا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ قَالَ يُعِيدُ قُلْنَا لَهُ فَإِنَّهُ يَكْثُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّمَا عَادَ شَكَّ قَالَ يَمْضِي فِي شَكِّهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُعَوِّدُوا الْخَبِيثَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ بِنَقْضِ الصَّلَاةِ فَتُطْمِعُوهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ خَبِيثٌ يَعْتَادُ لِمَا عُوِّدَ فَلْيَمْضِ أَحَدُكُمْ فِي الْوَهْمِ وَ لَا يُكْثِرَنَّ نَقْضَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ مَرَّاتٍ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ الشَّكُّ قَالَ زُرَارَةُ ثُمَّ قَالَ إِنَّمَا يُرِيدُ الْخَبِيثُ أَنْ يُطَاعَ فَإِذَا عُصِيَ لَمْ يَعُدْ إِلَى أَحَدِكُمْ  الكافي: ج13 ص358 .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليه السلام) قَالَ:  سَأَلْتُهُ عَنِ السَّهْوِ فِي النَّافِلَةِ؟ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ  الكافي : ج3 ص359 ،  ولعل ظاهر هذا الحديث وسابقه ينفي الاحتمال الأول والخامس.

[77]  أي لا ناظرية له إلى أدلة الشكوك وأحكامها من البناء على الأكثر وشبهه، لا إلى مطلق الأدلة حتى إلى دليل النافلة نفسه.
[78]  أي إلى الاحتمال الأول.
[79]  أو من بعض الروايات.
[80]  مباحث التعارض: الدرس :  121، 122، 123، 124، 125.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3247
  • تاريخ إضافة الموضوع : 3 صفر 1440هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29