• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 270- مباحث الأصول: (الدليل العقلي) (القدرة من شرائط التكليف) (4) .

270- مباحث الأصول: (الدليل العقلي) (القدرة من شرائط التكليف) (4)

مباحث الأصول: (الدليل العقلي) (القدرة من شرائط التكليف)
جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*

الفائدة التاسعة : أن التكليف بغير الوسع  ممكن لولا اللطف والحكمة، بل قد يكون ذلك التكليف لطفاً وموافقاً للحكمة.
إن التكليف بغير الوسع ممكن قطعاً[1]، إلا بلحاظ اللطف والحكمة، وهو خارج عن محل الكلام؛ فإنه في الإمكان الذاتي لا الوقوعي، إضافة إلى التكليف بما يوجب الضيق قد يكون لطفاً موافقاً  للحكمة، فتأمل[2].
 
الفائدة العاشرة : للقدرة مدخلية في الحكم ؛ إذ ما لم يعطي الله القدرة على الحكم فلا حكم ؛ لذا فالقدرة وإن كانت قائمة بالمكلف ولكن  المولى يلاحظها في تشريعه.
هناك أطرافاً ثلاثة ذات مدخلية في الحكم الشرعي:
أولها : ملاكات تشريع الأحكام ، وهي أمر ثبوتي قائم بالمتعلَّقات.
وثانيها: تشريع الأحكام، وهي أمر إثباتي قائم بالمولى، أي إنها من شؤونه.
ثالثها: القدرة ، وهي قائمة بالمكلف وإن وجب على المولى ملاحظتها حين التشريع.
وعلى هذا يتضح أن الأولى والثانية ليس من شأننا؛ إذ لا يحيط بملاكات الشارع غيره، والقياس والاستحسان مردوع عنهما، وأما الثالثة فهي بين ما هو من شأن المولى[3] وما هو من شأننا[4][5].

بحث تطبيقي:
قد يقال: إن (ما) الموصولة في قوله تعالى : ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا﴾ [6] يشمل الذات والفعل والتكليف ، وأن المراد بها (شيئاً )، وهو الجامع:
فأما أولاً: وهو شموله للذات ، فهو كالمال، وهو مورد الآية الشريفة ؛ إذ قال تعالى :﴿لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً﴾[7] فـ(لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها).
فعلى هذا يعني إلا (مالاً)[8] آتاها، أي كلفها مالاً آتاها، وحيث إن التكليف لا يتعلق بالذات حقيقة، أريد به أقرب المجازات وهو الفعل المناسب له، وهو الإنفاق.
فيوجد ههنا مجاز في الحذف أو الإسناد؛ إذ المعنى: إذا كان (لا يكلف الله نفساً شيئاً ـ وهو المفعول الثاني المقدر ـ إلا شيئاً - أي مالاً-  آتاها، فيكلفه إنفاق ذلك المال)، فالمجاز في الحذف، وبعبارة أخرى: أي (إلا إنفاق ما آتاها)، وإلا فالمجاز في الإسناد إذ أسند التكليف للمال أو الشيء، وهو مسند في حقيقته للإنفاق.
نعم يحتمل كون المفعول الثاني المقدر هو (فعلاً) أي لا يكلف الله نفساً فعلاً أي بفعل، إلا ما آتاها، أي إلا فعلاً آتاها، فلا مجاز في تعلق (يكلف) بـ(ما).
نعم ،المراد من (آتاها) عندئذٍ هو آتاها قدرته ، فالمجاز في الحذف في (آتاها) لا (يكلف)، فتأمل.
ومن قبيل الذات الأحكام الوضعية  كالقضاوة والولاية وكالملكية والزوجية[9]، فـ( لا يكلف الله نفساً إلا ما ـ أي ملكية أو قضاوة مثلاً ـ آتاها) والمعنى أنه لو آتاك الله ملكية فقد كلفّك رعايتها والقيام بشؤونها، دون ما لو لم يؤتك، وكذا القضاوة: يكلفك أداء حقها ، وهكذا، ويمكن إدراجها في القسم الثالث، بإرجاعه لأسبابها.
وأما ثانياً : وهو شموله للفعل ؛ فهوكالصلاة ، والتكليف وإن تعلق بالفعل – أولاً وبالذات- إلا أن ﴿ما آتاها﴾ لا يراد به الفعل نفسه، بل المراد القدرة عليه؛ إذ لا معنى كي يقال (لا يكلف الله نفساً بفعل إلا فعلاً أعطاه الله عبده )، إلا بعوده إلى : إلا فعلاً أعطاه الله القدرة عليه.
وأما ثالثا: وهو شموله للتكلف ؛ وهو فعل الله ؛ أي لا يكلف الله نفساً تكليفاً إلا تكليفاً آتاه الله، وهو بمعنى قدرته أيضاً، أي: إلا تكليفاً ـ كالتكليف بالصلاة ـ آتاه الله القدرة عليه[10].
فعلى الأخيرين لابد من تقدير (القدرة) في ﴿آتاها﴾[11].

الفائدة الحادية عشر[12]: التكليف يجري  على وفق القدرة العرفية العقلائية الشرعية التي يكون بها المكلف  قادراً ذلك العمل وإن خرجت بعض الشروط أو الموانع عن سلطته ؛ ولا يجري وفق القدرة العقلية الدقية الحقيقية التي تكون كل جهات الفعل تحت سلطته من وجود المقتضي ورفع المانع؛ إذ التكليف بهذا المعنى لا يصح ؛ لأنه تكليف  بغير المقدور ؛والقدرة من شرائط التكليف.
إن القدرة العقلية على فعل أو أمر تعني كونه تحت سلطة القادر من كل الجهات التي يكون بها وقوعه أي كون العلة التامة بيده من إيجاد المقتضي والشروط ورفع الموانع والدوافع والروافع، فإن المقتضي لو لم يكن تحت قدرة الشخص أو لم يكن شرط الوجود بيده أو كانا لكن كان المانع قاهراً لا سلطة له على رفعه، فانه لا قدرة حينئذٍ.
والحاصل: أنه يجب أن يكون سدّ باب عدم المعلول من جهات الجهات بيده وتحت سلطته كي يصح وصفه بالقادر حقيقة ؛ ولنمثل بمثال واضح: فإن زيداً إنما يكون قادراً على فتح النافذة – مثلاً – لو كانت له القدرة البدنية على تحريكها – وهذا هو المقتضي – ولو لم يكن هناك مانع عن التحريك كما لو أمسك بالنافذة شخص أقوى منه فمنعه من فتحها، فلا يكون قادراً – بالقدرة الدقية العقلية – إلا لو كان المقتضي بيده، وكان رفع المانع بيده أيضاً ،وإلا كان غير قادر حقيقة بل القادر القاهر هو ذلك الأقوى[13].

بحث تطبيقي:
قال الميرزا النائيني قدس سره : إن البيع بغير معنى الإيجاب المطلق غير مقدور للبايع ؛ فإنه بمعنى المسبب فواضح؛ حيث إنه يحصل بفعل البائع والمشتري، والأمر الحاصل بما هو خارج عن اختيار البايع - أعني قبول المشتري-  خارج عن اختياره لا محالة.
وأما بمعنى الإيجاب المتعقب بالقبول أو الإيجاب في ظرف القبول؛ فهو أيضاً خارج عن قدرة البايع؛ لتوقف تحققه على قبول المشتري الخارج عن قدرة البايع[14].
ولكن نقول :إن القدرة إن أُريد بها العقلية الدقية الحقيقية: فإنه لا قدرة للمكلف- على هذا المعنى - حتى على الإيجاب المطلق[15]؛ كما لا قدرة له على أي فعل من الأفعال أبداً؛ لذا لا يصح التكليف مطلقاً؛ إذ كيف يُكلف بغير المقدور والقدرة من شرائط التكليف العقلية العامة؟
وإن أريد بها القدرة العرفية العقلائية أو الشرعية: فإن المكلف قادر عرفاً وعقلائياً على النقل الخاص ؛وهو المسبب، أو إيجاد الفرقة والبينونة بالطلاق؛ وعلى مجموع الإيجاب والقبول وإن كان القبول فعل الغير.
وحينئذٍ نقول: إن العبد ليس قادراً بالقدرة العقلية، بمعنى كون العلة التامة بكافة أركانها بيده[16]؛ إذ أن  الإيجاب وإنشاء البيع ليس متوقفاً إلا على القصد والإرادة بتحريك عضلات اللسان للنطق بـ(بعت)[17] فقط ؛ولكنه لدى الدقة عليل؛ إذ أن قوله (بعت) موقوف تحققه - إضافة على تحقق المقتضي- على انتفاء المانع من قصده له، وعلى عدم المانع من إرادته ومن تحريك عضلات حلقه ولسانه ثم نطقه بـ(بعت).
ومن الواضح :أن لله تعالى – بل مطلق من هو أقوى من هذا المكلف – أن يمنعه[18] ؛فإذا لم يكن قادراً على دفع منع المانع لم تكن العلة التامة لوجود (الإيجاب) بيده؛ إذ منها عدم المانع؛ وعدمه مرتهن بغيره لا بيده؛ فلم يكن قادراً – بالقدرة الحقيقية – حتى على الإيجاب، هذا.
كله لو فسرت القدرة العقلية بما ذكر[19]، وأما لو أريد بالقدرة العقلية ما كان أمر الشيء بيده وإن كان بإذن الغير الأقوى منه [20]؛ فإنها تندرج فيما تقدم[21] فتلزمه أحكامها، فتدبر جيداً[22].
وأما لو أريد بالقدرة القدرة العرفية والعقلائية – وهو الحق[23] – فان المكلف قادر عرفاً وعقلائياً على المسبب بقدرته على السبب وإن خرجت بعض الشروط أو الموانع عن سلطته[24][25].

----------------

* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] وإن لم يمكن التكليف بغير (ما آتاها قدرته).
[2] المبادئ ل التصورية والتصديقية للفقه والأصول :ص 153.
[3] ملاحظتها في مرحلة التشريع.
[4] القدرة في مرحلة الامتثال.
[5] تقليد الأعلم : ص350.
[6] سورة الطلاق: 7.
[7] سورة الطلاق: 7.
[8] أو أي رزق آخر، فيشمل (الأعيان) و(العلم) و(ماء الوجه) وغيرها.
[9] بناء على كونها تكاليف، كما أشرنا إليه سابقاً.
[10] وقد تقدم في الفائدة ... فهو كضرب قانون....  ما يجيب على ذلك بوجوه ، فلاحظ.
[11] المبادئ التصورية والتصديقية للفقه والأصول : ص147 وللبحث صلة في المصدر نفسه .
[12] وهذه الفائدة مفسرة وموضحة للفائدة الأولى .
[13] بحث البيع : الدرس 17.
[14] المكاسب والبيع :ج1ص101.
[15] الذي اعتبره المقدور الوحيد من بين المعاني.
[16] أي : على أي فعل من الأفعال أبداً، ومنها الإيجاب نفسه الذي رأى الميرزا النائيني أنه المقدور الوحيد.
[17] موجداً به الاعتبار في عالمه ؛ ففعله يتضمن أمران: قوله بعت، وإيجاد الاعتبار في عالمه الموقوف على قصده ثم إيجاده بـ(بعت) ،فهما طوليان.
[18] أي من القصد، بتسليط أشعةٍ – مثلاً - على مخه تمنعه التفكير، وهذا في البشر، أو من تحريك العضلات والنطق بالكلمات و بإمساك فمه مثلاً.
[19] والظاهر عدم اشتراط ما ذكر فيها، بل يكفي التفسير الآتي في صدقها.
[20] وهذا هو الأظهر.
[21] في فائدة هذا البحث التطبيقي.
[22] بحث البيع :الدرس 17.
[23] وهي منطبقة على القدرة العقلية بالتفسير الثاني (ما كان بيده وإن كان باذن الغير الأقوى أي وإن كان فوقه قاهر قد خلّي بينه وبين فعله).
[24] بان كانت تحت سلطة الغير القاهرة.
[25] بحث البيع :الدرس 17.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3119
  • تاريخ إضافة الموضوع : 24 رجب 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18