• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 255- مباحث الأصول: بحث الحجج (حجية قول الراوي والمفتي والرجالي واللغوي) (2) .

255- مباحث الأصول: بحث الحجج (حجية قول الراوي والمفتي والرجالي واللغوي) (2)

مباحث الأصول: بحث الحجج (حجية قول الراوي والمفتي والرجالي واللغوي)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين*

الفائدة الثانية: تختلف حجية رأي المفتي عن حجية رأي أهل الخبرة ؛ حيث إن الظن بالخلاف من أهل الخبرة لرأي أهل خبرة آخر مخل بحجيته، في حين أن ظن  المقلد بالخلاف  لرأي مقلده لا يخل بحجيته؛ لكونه ظناً شخصياً لا دليل على حجيته، وكذا يشترط في حجية رأي المفتي الحياة والعدالة  والذكورة ولا يشترط ذلك في حجية أهل الخبرة ؛ لأن وجه حجية رأي أهل الخبرة إنما هو لكاشفيته النوعية عن الواقع.

هناك فروق واضحة بين المفتي وبين  أهل الخبرة ، منها:
أولاً: تشترط العدالة في المفتي ـ رغم عدم دخلها[1] في الأقربية للواقع ـ بينما لا تشترط  في من يُعتمد عليه في مقدمات الاستنباط من أهل الخبرة؛ لذا صاروا يعتمدون على بني فضال مع أنهم انحرفوا عن الإمامية[2]؛ وما ذلك إلا لأنهم من أهل الخبرة فقط.
ثانياً:  تشترط في المفتي الحياة، و لايشترط ذلك في أهل الخبرة.
ثالثاً:  تشترط في المفتي الذكورة، ولا يشترط ذلك في أهل الخبرة[3].
رابعاً: أن حجية رأي المفتي هي من باب التعبد في الجملة[4]، وأما حجية قول أهل الخبرة فهي ليست من باب التعبد، بل للكاشفية النوعية عن الواقع.
خامساً: أن رأي المفتي هو حجة على المقلد ولو حصل له ظن بالخلاف؛ لأنه سيكون ظناً شخصياً لا دليل على حجيته، كما لا دليل على اسقاطه الحجج عن حجيتها، وأما الظن بالخلاف الحاصل لدى أحد من أهل الخبرة تجاه رأي أهل خبرة آخر فإنه يخلّ بحجية رأي الآخر عليه حينئذ، هذا بحسب رأي المشهور، وأما بحسب ما نراه فإنه سوف لا يكون حجة تعيينية عليه بل حجة تخييرية كما فصلناه في محله، فتأمل[5].
 
الفائدة الثالثة: الإخبارات على ثلاثة أصناف ؛ حسية محضة؛ وحدسية قريبة من الحس؛ وحدسية محضة؛ الحجة منها إنما هو الأول والثاني؛ لذا فالمشهور أن توثيق الرجالي حجة لأن إخباره عن حس أو عن حدس قريب من الحس وليس حساً محضاً ؛ إذ أن تقييم الرجالي للراوي غالباً يكون من الحدس القريب للحس لا الحس؛ ونحن نقول بما أن الرجالي أعمل حدسه في التوثيق - كاستقرائه  الناقص لأحوال الراوي- فهو  يُعدّ مجتهداً ؛ ولكن مع ذلك فهذا الحدس  مقبول ولا يضر بحجيته؛ لأنه قريب من الحس وليس حدساً محضاً.
إن الإخبارات بصورة عامة هي على ثلاث أصناف:
الأول: الإخبارات الحسية المحضة.
الثاني: الإخبارات الحدسية المحضة.
الثالث: الإخبارات الحدسية القريبة من الحس، وهذه ملحقة بالحسيّات في بناء العقلاء.
ومن اللطيف أن بعض الاخباريين التزم بحجية الخبر الحدسي القريب من الحس مع شدة ما عرف عن الاخباريين من رفض للحدسيات في مسائل الشريعة.
ومما يقرب ما ذكرناه نظائر المسألة والتي تشترك معها في الجامع: فإن هناك إشكالاً معروفاً مفاده: كيف يأخذ المجتهد بقول اللغوي[6]ـ وكذلك النحوي والصرفي والبلاغي ـ ويعتبره حجة مع أنه حدسي لا حسي، فإن اللغوي والنحوي و... كان قد اطلع على لغة العرب سماعا أو قراءة، فوجدهم يكررون ألفاظا أو عبارات معينة بطرق معينة، فاستنبط منها قواعد نحوية أو صرفية أو بلاغية، أي انه اجتهد وأعمل نظره، وكذلك اللغوي فإنه لم يسمع إلا الاستعمال، أما كونه حقيقة أو مجازاً فهذا لا يكون إلا بالحدس[7].
وقد أجاب السيد الحكيم عن ذلك بقوله: إن قول اللغوي حجة، لان ما يقوم به هو حدس قريب للحس، قال في حقائق الاصول: ((والحدس القريب من الحس لا بأس بالاعتماد عليه ولذا بنوا على قبول الخبر المنقول بالمعني مع انه مما نحن فيه كما هو ظاهر))[8]
وأيضا لعدم قادحية الحدس المتوسط؛ لأن الحسي إنما يعتبر في المدلول المطابقي[9].
ونظيره أيضاً ما ذهب إليه بعض الرجاليين من أن قول الرجالي حجة من باب الحدس القريب للحس، وهو بذلك مشمول لآية النبأ، بناءً على ان حجية قول الرجالي هي من باب حجية خبر الواحد[10]، وعليه فإنه حجة حتى على المجتهد الآخر؛ وعلى هذا المبنى فإن قول الرجالي ليس حجة من باب الفتوى أو قول أهل الخبرة حتى يقال[11] أنه ليس بحجة على المجتهد الآخر.
بل أن المنسوب إلى المشهور هو أن كلمات الرجاليين حجة عندهم من باب كونها خبر الواحد، ومعناه أنهم ينظرون إلى توثيقات الرجالي والجرح والتعديل على أنها اخبارات عن حس أو عن حدس قريب من الحس.
ونضيف أيضا: أنه لا مناص للذين يذهبون إلى حجية قول الرجالي من باب كونه خبر ثقة، إلا أن يقولوا بأن كلمات الرجاليين هي حدس عن حس قريب وليست حساً محضا كما يدعون، وذلك لأن أهم الأدوات التي يستعملها الرجالي في تقييم الراوي هي الجرح والتعديل، وهما مطلقاً، أو غالباً من الحدس القريب للحس لا الحس، وذلك لاستنادهما إلى التعديل أو التوثيق أو عكسهما، وكلها حدسية أو حدسية قريبة من الحس بالبيان التالي:

أما العدالة فنقول إن في العدالة مسلكين رئيسين هما:
الأول: بأن العدالة هي ملكة تعصم الإنسان عن ارتكاب الكبيرة وعن الإصرار على الصغيرة ؛ وهذا يعني أن الرجالي يلاحظ احوال الراوي فاذا وجده قد التزم بتعاليم الشريعة يحكم بأنه عادل؛ وهذا في الحقيقة اجتهاد وحدس واضحان، لكنه حدس قريب من الحس، لأن الملكة كما هو واضح لا تُرى ولا تحسّ.
الثاني: بأن العدالة هي الاستقامة على جادة الشريعة[12].

وقد ذهب السيد الخوئي ـ وهو من القائلين بالتعريف الثاني للعدالة ـ إلى أن تعديلات الرجالي للرواة حجة لأنها من باب الحس لا الحدس، على اعتبار أن الرجالي يلاحظ بحواسه التزام الراوي المستمر بالشريعة.
وفيه: إن الرجالي يُعدّ مجتهدا ومُعملا لحدسه في توثيق الراوي حتى حسب هذا التعريف للعدالة، وذلك لأنه استند إلى استقراء ناقص، فانه لاحظ مثلا راويا فرآه صادقا طيلة الفترات السابقة[13]، فحكم بأنه صادق حتى في هذه الرواية، ولكن من أين نعلم أنه لم يكذب في هذه المرة، وأنه لم يزل صادقاً كما في المرات السابقة؟ فلا ريب أن ذلك مما يحدس به من ملاحظة إخباراته السابقة.
والحاصل: إن حكم الرجالي بأن الراوي عادل مستقيم على الجادة حتى في هذا الخبر، هو اجتهاد وحدس لكنه حدس مقبول؛ لأنه قريب من الحس، فهو حجة.
فإن قيل: هو استقراء معلل، فلا يضره أن يكون ناقصاً.
كان الجواب: يمكن أن يكون معللا لو قلنا بالملكة[14]، ولكن من دون القول بها فإنه سيبقى استقراءً ناقصاً ولا يمكن القول عن حسٍ أن الراوي لم يكذب هنا أيضا.
إذن سواء قلنا بأن العدالة هي ملكة أو قلنا هي استقامة، فلابد من القول بأن تعديلات الرجالي إنما هو من باب الحدس القريب للحس[15].
وأما بالنسبة للوثاقة، فان الرجالي عندما يقول: فلان ثقة فالكلام هو الكلام؛ إذ أن ذلك إنما هو لأنه رآه سابقا قد أخبر بأخبار وتثبَّت منها حساً فرضاً فوجدها صحيحة، ولكن من أين لي أن الخبر الجديد الذي لا أعلم بصحته عن حس أنه صحيح صادق؟
مناقشة مع بعض الاعلام حول توثيقات النجاشي[16].
ومما يرشد الى ما ذكرناه أن جمع من الأعلام ذهب إلى أن توثيقات النجاشي كلّها حسية، وذلك لاعتماده على السماع من كابر عن كابر، وبالتالي فهي حجة .

وهنا إشكالان:

الأول: الظاهر أن توثيقاته -أو كثير منها على الأقل-  حدسية، حيث يقول الشيخ النجاشي: (إن فلانا ثقة وكان حسن المنزلة عند آل محمد عليهم السلام) فإن هذا حدس عن حس قريب؛ فإنّ المشاهد المرئي مثلاً هو أن الامام عليه السلام قد قرب هذا الشخص وأحترمه وأدنى مجلسه منه مثلاً، لكن لِمَ كان ذلك؟ هنا موطن الحدس؛ إذ قد يكون ذلك لعدالته هذا احتمال، وقد يكون لشجاعته أو كرمه، وقد يكون تقية منه أو من غيره، أو غير ذلك من المحتملات الأخرى؛ فلا يثبت باحترامه المرئي حسنُ حاله الاعتباري إلا بالحدس وأنه لأجل صلاحه.
والحاصل: أنه أليس مثل هذا التوثيق لشخص هو عن حدس واجتهاد.
ثم من المؤكد أن النجاشي عندما قال: ((فلان ثقة)) أنه اعتمد على استقراء ناقص، إذ لاحظ أن الراوي لم يكذب سابقا فحكم أنه ثقة، ولكن ما الذي أدراه أنه لم يكذب في روايته هذه؟
وأيضا قول الشيخ الطوسي في العدة: (فلان متهم في حديثه ) فإنه من الحدس لا الحس؛ لأن التهمة التي نسبها لحديث الراوي أمر غير محسوس اعتمد فيها على القرائن.
من هنا نستطيع القول أن الحدس واضح في تقييم الرجاليين.

الثاني: أن توثيقات وتجريحات النجاشي هي عادة مراسيل، وليست بالمسانيد ، وهذا ما سنوضحه في العنوان القادم.
والخلاصة في مناقشة المشهور: أن قولهم إن توثيقات الرجالي هي من باب النبأ وخبر الواحد الحسي غير صحيح، ولابد أن يكون قول الرجالي مبنياً على حدس قريب من الحس، فاذا صح ذلك انطبق هذا المبنى على المقام ايضا[17][18].


----------------

* * هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد الاستاذ في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها مشكوراً فضيلة الشيخ عطاء شاهين وفقه الله تعالى
[1] مطلقا أو في الجملة.
[2] وقد روى  الشيخ في كتاب الغيبة : ص390: عن عبد الله الكوفي خادم الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه ، قال : سئل الشيخ - يعني أبا القاسم رضي الله عنه - عن كتب ابن أبي العزاقر بعدما ذم وخرجت فيه اللعنة ، فقيل له : فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء ؟ فقال : أقول فيها ما قاله أبو محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهما وقد سئل عن كتب بني فضال ، فقالوا : كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء ؟ .فقال صلوات الله عليه :  خذوا بما رووا وذروا ما رأوا  .
[3] وكذا الحرية، وغيرها على المشهور او الأحوط في بعضها.
[4] اذ اعتبر الشارع في حجية رأيه ما لا مدخلية له في الأقربية للواقع والاصابة.
[5] حجية مراسيل الثقات : ص40.
[6] هذا على مبنى المشهور الذي حُكي اجماع المتقدمين عليه، من كون قول اللغوي حجة من باب الظن الخاص، قال الميرزا النائيني في فوائد الأصول ج3ص142: ((وان كان قد حكي الاجماع على اعتبار الظن الحاصل من قول اللغوي بالخصوص لا من باب الظن المطلق )) وهذا الاجماع المحكي يكشف لا اقل عن الشهرة، وقال السيد الحكيم في حقائق الاصول ج2ص94: (( نعم نسب الى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع.
[7] فصلنا الكلام عن أن اللغوي هل هو أهل خبرة بالوضع أو أهل خبرة في الاستعمال فقط، في ملحقات كتاب الرشوة، فليراجع.
[8] حقائق الاصول: ج2 ص 99.
[9] راجع مستمسك العروة الوثقى: ج1 ص38 مضمون كلامه.
[10] سيأتي ذكر ثمانية مباني لحجية قول الرجالى، فلاحظ.
[11] أي على المبنى المشهور، اما المنصور فخلاف ذلك كما سيأتي بعد ثلاث صفحات تقريبا.
[12] سيأتي لاحقاً تفصيل الأقوال الستة في العدالة.
[13] بل هي ليست مستغرقة وتامة عادة.
[14] ولو قلنا بالاستقراء المعلل فانه حدسي ايضا اذ التعليل حدسي كما لا يخفى.
[15] وسيأتي تفصيل وتحقيق ذلك.
[16] وذلك مما يوضح ويؤكد ما ذكرناه من حجية التوثيقات والأخبار، الحدسية.
[17] حجية توثيق الثقات لمراسيلهم متنا ومضمونا اي حجية توثيقهم، اي حجية توثيقهم للرواية بنفسها لا خصوص توثيق الراوي.
[18] حجية مراسيل الثقات: ص200.

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=3052
  • تاريخ إضافة الموضوع : 12 جمادى الآخرة 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28