• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 227- مباحث الاصول (الواجب النفسي والغيري) (2) .

227- مباحث الاصول (الواجب النفسي والغيري) (2)

مباحث الاصول
( الواجب النفسي والغيري )

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

شبكة النبأ المعلوماتية
الفائدة الثانية: بما أن الوجوب النفسي والغيري  غير نقيضين دل ذلك على أن القسمة فيهما غير حاصرة .
هل للوجوبين النفسي والغيري قسيم ، فإذا قلنا : بأن القسمة حاصرة  فلا معنى للتقسيم السداسي [1] بل الوجوب هو إما نفسي أو غيري ؛ وحينئذ تندرج الأقسام الستة كلها في الغيري؟
والجواب : بناءً على رأي المشهور في النفسي والغيري ، أن يقال : إن هناك احتمالان من قولهم :   ((ما وجب لواجب آخر))  ؛ فعلى أحد الاحتمالين  تكون القسمة حاصرة ،  وعلى الآخر  تكون القسمة غير حاصرة.
والظاهر أن الاحتمال الثاني هو مرادهم من ((ما وجب لواجب آخر))  ؛ فهوما وجب لكونه مقدمة وجود لواجب آخر  كالمشي للحج، وعلى هذا تكون القسمة غير حاصرة.
توضيحه : أنه عندما يقال : الإنسان واللا إنسان فهما نقيضان ،  لكن عندما يقال : الإنسان الأبيض واللا إنسان ؛ فهما غير نقيضين ؛ بل هما صنفُ نقيضٍ مع نقيض ؛ فهنا القسمة غير
حاصرة ؛ إذ يوجد شق ثالث وهو الإنسان الأسود مثلاً ، والمقام من هذا القبيل؛ إذ الواجب النفسي  ما وجب لا لواجب آخر ،  والغيري ما وجب لواجب آخر ؛  إذ أريد به ما وجب لكونه مقدمة وجود لواجب آخر، فهو قسم من الأقسام الستة ، أي أنه صنف من أصناف النقيض وليس بالنقيض ؛ فتكون القسمة غير حاصرة ؛ وتكون الأقسام الأخرى هي الأصناف الأخرى.
وأما لو فسرنا كلام المشهور بما هو مقتضى إطلاقه (( ما وجب لواجب آخر ))  أي المقدمية بقول مطلق لواجب آخر -  سواء كان بنحو مقدمة صحة ،أو مقدمة وجوب ، أو مقدمة وجود ، أو غيرها -  فالقسمة تكون حاصرة ، وتندرج الأقسام الستة المختلفة في ضمن الواجب الغيري، ولكن ظاهر كلمات عدد من أعلام القوم أن مرادهم ليس هذا  بل ذاك [2].

الفائدة الثالثة: تعدد الثواب والعقاب في الواجب النفسي والغيري يدل عليه تغايرهما  في الثواب والعقاب؛ حيث إن امتثال هذا ليس عين امتثال ذاك ، وكذا الحال في مخالفتهما؛  بل الآيات والروايات تدل على ذلك، لذا فملاك العقاب المخالفة ، والثواب القابلية لا الاستحقاق ، لأن العبد وعمله ملكاً لمولاه .
قال المحقق الخراساني قدس سره: لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسيّ وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلاً، وأمّا استحقاقهما على امتثال الغيريّ ومخالفته  ففيه إشكالٌ ، وإن كان التحقيق عدم الاستحقاق على موافقته ومخالفته بما هو موافقة ومخالفة ، ضرورة استقلال العقل بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد أو لثواب كذلك، فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدماته على كثرتها أو وافقه وأتاه بما له من المقدمات... وذلك لبداهة أن موافقة الأمر الغيري بما هو أمر ـ لا بما هو شروع في إطاعة الأمر النفسي ـ لا توجب قرباً ولا مخالفته بما هو كذلك، بعداً، والمثوبة والعقوبة إنما تكون من تبعات القرب والبعد) [3].
أقول: ربما يورد عليه:
أولاً:  مبنى ؛ بأن لا استحقاق حتى لثواب واحد حتى في النفسي؛ حيث إن مبنى كلامه على (الاستحقاق) للعقوبة والمثوبة عند الطاعة والمعصية، وهو وإن كان تاماً في المعصية إلا أنه غير تام في الطاعة ؛ لأن الثواب عندئذ بالتفضل لا بالاستحقاق ، وكيف يستحق العبد على الله ثواباً والحال أنه لو عبده دهره لما وفى بأبسط حق من حقوقه؟ فكيف بمثل الحياة والإيمان والعقل؟ فكل عمل يقوم به العبد فهو توفية لبعض حق المولى فكيف يستحق عليه الثواب؟
وهل ذلك إلا كمن أنقذ شخصاً فأمره [4] أن يسقيه الماء فسقاه ، بل حتى لو سقاه دون أمر فهل له أن يطالبه بالأجر لأنه أطاعه ؟ والحال أنه لو خدمه دهره لما أدى حقه.
بل إن العبد يتقلب في نعم مولاه ، بل هو ملك له ، وأفعاله وغيرها كلها ملك له حقيقة، والاستحقاق للثواب إنما هو لو أعطيته ما لم يكن ملكاً له ، فكيف لو كان المعطي والمعطى والإعطاء كلها ملكاً للمولى وبتوفيقه ولطفه؟
والتحقيق: أنه لا يوجد استحقاق بل الموجود (القابلية) ؛ فإن المطيع له قابلية للمثوبة دون غيره، وعلى حسب درجات الإطاعة تزداد القابلية وهو أمر يدركه العقل والعقلاء؛  فإن (المنعَم عليه الشاكر)  وإن لم يستحق بشكره شيئاً على المنعم إلا أنه لا شك أنه يكون بذلك (قابلاً) للمزيد من اللطف والإنعام ، قال تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى) [5] و وقال تعالى : (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ) [6]، والذي يقوم بأداء مقدمات الواجب لا شك أنه يكون بذلك قابلاً مزيد اللطف والرحمة والمثوبة الإلهية، حتى مع قطع النظر عن ذي المقدمة وتحققها من عدمه، وقد سبق أن (القابلية) تكفي لحسن (المثوبة) و(وقوعها) من الجواد القادر الذي كتب على نفسه الرحمة.
ثانياً: ومع قطع النظر عن ذلك نقول: إنه لا استقلال للعقل مطلقاً بعدم الاستحقاق إلا لعقاب واحد أو ثواب واحد، بل إننا نرى من أنفسنا صحة عقاب المولى عبده على عدم نصب السلم [7] وصحة ثوابه على نصبه بعنوانه ـ لأنه أمره فامتثل أو عصى ـ سواء ك.
ان [8] بلحاظ كونه طريقاً أو لا،  وهذا غير كون الثواب والعقاب على الكون على السطح وزيادته بأحمزيته نظراً لمقدماته.
لا يقال: إن ملاك استحقاق العقاب هتك المولى والتمرد عليه ولا يصدق في ترك واجب نفسي بجميع مقدماته إلا تمرد واحد وهتك  واحد [9].
إذ يقال: ملاك استحقاق العقاب هو مخالفة المولى ،  قال تعالى (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) [10] و(مَا مَنَعَكَ أَلاَ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [11] ؛ ولا ريب في صدق المخالفة بترك نصب السلم ؛ وليس الملاك فقط الهتك والتمرد بما هما ؛ والاتحاد بالحمل الشائع الصناعي لا ينفي تعدد الجهة. لذا لو انفكت المخالفة عن الهتك فرضاً [12] لما انتفى استحقاق العقاب ـ عقلاً أو شرعاً على الأقل بدلالة الآية .
سلمنا [13] ، ولكن لا ريب أن ترك نصب السلم ـ وقد أمره به ـ هتك للمولى وتمرد عليه حتى مع قطع النظر عن ذي المقدمة ، سواء قصد العبد مخالفة ذي المقدمة أيضاً بعدم نصب السلم أو قصد مخالفة هذا الأمر بالذات مع قطع النظر عن كونه طريقاً لمخالفة ذي المقدمة.
والظاهر أن كل مقدمة تُعد هتكاً وتمرداً وإن كان بلحاظ كونها طريقاً إلا أنها تتصف بكونها هتكاً حقيقةً.
وبعبارة أخرى: كونها طريقاً حيثية تعليلية لكونها هتكاً وتمرداً لا تقييدية، وهي واسطة في الثبوت لا في العروض.
لا يقال: (لا معنى للبحث عن استحقاق الثواب على امتثال الواجب الغيري لأن امتثاله إنما يكون بعين امتثال ذي المقدمة الذي تولد أمره منها وليس له أمر بحيال ذاته حتى يبحث عن استحقاق الثواب عند امتثاله) [14].
إذ يقال: قوله (لأن امتثاله إنما يكون بعين امتثال ذي المقدمة) غير تام، فإن إطاعة الأمر بنصب السلم، أمر، وإطاعة الأمر بالكون على السطح، أمر آخر عقلاً وعرفاً واختلاف المتعلق بالفتح دليل اختلاف المتعلق بالكسر.
وبعبارة أخرى: إذا اختلف الأمران المأمور بهما ذاتاً وإذا اختلف نحو الباعثية إليهما ونحو وجوبهما جوهراً وحقيقةً (لكون أحدهما نفسياً [15] والآخر غيرياً [16] فكيف يعقل أن يكون امتثال هذا عين امتثال ذاك؟ وربما كان هذا أقرب للخطابة منه للبرهان،  ويعرف ذلك من الآثار أيضاً؛ ولذا تجد أنه لا شك في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي [17]،  وأما امتثال الأمر الغيري فقد وقع الكلام والنقض والإبرام في الاستحقاق وعدمه ، بل مفاد كلمات بعضهم استحالته، فكيف يكون هذا عين ذاك؟ ويشهد الارتكاز والفطرة  على الاثنينية.
الجواب الثالث :الإشكال على صغرى استدلاله ( بأنا لا نسلم أن موافقة الأمر الغيري لا توجب قرباً وإن مخالفته لا توجب بعداً )  بل العكس هو الصحيح، فإن مطلق إطاعة أمر المولى توجب القرب ومطلق مخالفة أمره توجب البعد وهذا أمر وجداني وفطري، كما لا دليل على انحصار المقرب للمولى بالمحبوب له بالذات، بل العقل يستقل بكون المحبوب بالعرض أيضاً مقرباً للمولى.
الجواب الرابع: الإشكال على كبرى دليله بأن ( المثوبة والعقوبة إنما هما من ثمرات الإطاعة والعصيان ) [18] فهما المدار لاستحقاق الثواب والعقاب بحكم العقل وليسا من تبعات القرب والبعد فقط أو مطلقاً.
وبعبارة أخرى:  إن القرب والبعد  إن كانا غير اختياريين لم يكن معنى لاستحقاق المثوبة
والعقوبة عليهما [19] ، وكونهما اختياريين باختيارية السبب، فيه:
أولاً: إن الإطاعة ليست سبباً بل هي مقتضي فقط بل قلنا أن الإطاعة ليست حتى مقتضية لاستحقاق المثوبة.
وثانياً: سلمنا، لكن الظاهر مع ذلك أن العقل يحكم بأن المثوبة هي على الإطاعة وليست على القرب الناتج عنها وسيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
وإن كانا اختياريين فنقول:
أولاً: ليس كل قرب موجباً لاستحقاق الثواب ولا كل بعد موجباً لاستحقاق العقاب، وقد ذكرنا مثاله بما إذا كان ذلك القرب وفاء لحق سابق للمولى فإنه لا يستحق به عليه الثواب ولو فرض حصول القرب قهراً، بل لا كلية لكونه موجباً للثواب حتى لو لم يكن قهراً، فتأمل.
وثانياً: لو فرض كذلك فليس الثواب والعقاب منحصرين في القرب والبعد بل الإطاعة والعصيان ـ حتى لو فرض انفكاكهما عن القرب والبعد ـ فإنهما تمام الملاك.
بل نقول: إن القرب والبعد ليسا الملاك في حكم العقل للمثوبة والعقوبة بل المقرب والمبعد هما الملاك للمثوبة والعقوبة، فتأمل [20].
والقرب والبعد هما مثوبة وعقوبة في حد ذاتهما على الإطاعة والعصيان وليسا سبباً لهما وإن أمكن كونهما سبباً في الجملة ولعل ذلك هو منشأ الخلط، فتدبر جيداً.
ثم إن ظواهر الآيات والروايات هو تعدد الثواب والعقاب على ذي المقدمة ومقدماتها، وظاهرها بل نصها هو كون الثواب على المقدمة بنفسها لا على ذي المقدمة من حيث صيرورتها أشق وأحمز كما أن ظاهرها هو كون وزانها هو نفس وزان المثوبة والعقوبة على ذي المقدمة فلا يصح التفكيك بكونهما على ذي المقدمة بالاستحقاق وعلى المقدمات بالتفضل كما صنع الآخوند، قال: (نعم، لا بأس باستحقاق العقوبة على المخالفة عند ترك المقدمة وبزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدمات بما هي مقدمات له من باب أنه يصير حينئذ من أفضل الأعمال حيث صار أشقها، وعليه ينزل ما ورد في الأخبار من الثواب على المقدمات أو على التفضل، فتأمل جيداً [21].
ولنحتكم الآن إلى بعض الآيات والروايات:
قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [22].
ونلاحظ أن ﴿ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ نص في أن ذلك هو (العمل الصالح) وظاهر في أن الأجر هو على تلك الواجبات الغيرية كما أن ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ نص أو ظاهر في أن كلاً منها إحسان وأن الأجر عليها هي بأنفسها.
وقال تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [23] مع أن الهجرة مقدمة، ووجوبها غيري، وظاهر (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) هو أنه على نفس الهجرة .
وقال جل اسمه ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [24] مع أن الجدل بالباطل محرم طريقياً لا نفسياً، والظاهر أن ﴿فَأَخَذْتُهُمْ) عقوبة على نفس الجدل بالباطل، فتأمل.
وأما الروايات فكثيرة :
منها: من زار أمير المؤمنين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجة وعمرة فإن رجع ماشياً كتب الله له بكل خطوة حجة وعمرة)[25]، و في رواية الإمام الصادق عليه السلام للمفضل في زيارة وارث (ثم تسعى فلك في كل قدم رفعتها أو وضعتها كثواب المتشحط بدمه في سبيل الله) ، ويؤكده وحدة اللسان والسياق في الأجر؛ حيث أن تتمة الرواية (فإذا سلمت على القبر فامسحه بيدك وقل السلام عليك يا حجة الله في أرضه وسمائه وأرضه، ثم تمضي إلى صلواتك ولك بكل ركعة ركعتها عنده كثواب من حج ألف حجة وأعتمر ألف عمرة وأعتق في سبيل الله ألف رقبة وكأنما وقف في سبيل الله ألف مرة مع نبي مرسل) [26] وكذلك العشرات بل المئات من الروايات المشابهة لذلك حول زيارة الإمام الحسين عليه السلام أو حول المشي للحج أو المشي لطلب العلم أو للمسجد وغيرها مما يغنينا تواترها الاجمالي وصحة أسناد عدد منها وشهرتها الروائية الكبيرة عن البحث عن أسنادها. وقال السيد الوالد قدس سره في الأصول:
«والذي أظن في المقام التفصيل بين ما ورد في الآيات والأخبار ثواب أو عقاب على المقدمات. مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [27] وقوله تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَل صَالِحٌ﴾ [28] إلخ وكذلك الروايات الواردة من هذا القبيل.
وفي طرف العقاب ما ورد من لعن غارس شجر الخمر إلخ ونحوه، فاللازم القول يكون الثواب والعقاب فيها كالثواب والعقاب على سائر الواجبات والمحرمات النفسية طابق الفعل بالفعل لعدم الداعي للتنزيل ولا فارق بين المقامين أصلاً وبين ما لم يرد فيه من الشرع شيء ففيه توقف وتردد، والله تعالى هو العالم» [29].
ومما سبق  ظهر عدم صحة القول: (بأن كل حركات العبد بدءً من المقدمة الأولى ووصولاً للنتيجة، تعد انقياداً واحداً ممتداً وتعظيماً واحداً طويلاً وقد يكون شاقاً وذلك نظير الواجب الارتباطي ذي الأجزاء المتعددة الحاصلة تدريجاً) ؛ إذ بملاحظة الأدلة السابقة يتضح أن العقلاء والشارع لم يعتبروها انقياداً واحداً ممتداً وطويلاً ،  بل يعتبرونها انقيادات متعددة ويرتبون عليها ثوابات متعددة ؛ فلاحظ الآيات السابقة والروايات فإنها كالصريحة في ذلك ، ولعل منشأ الخلط هو تصور انقياد اعتباري واحد شامل.
وفيه: أن تلون الكل بلون انقياد جامع اعتباراً لا ينفي كون كل مفردة انقياداً بحد ذاتها؛ ألا ترى أن تلون الطواف والسعي والوقوف بلون جامع اعتباري واحد هو (الحج) لا ينفي كون كل منها انقياداً في حد ذاته يستحق عليه الثواب بذاته وهو ما يراه العقلاء بل يُعد أمراً فطرياً لدى الناس كما هو أمر ارتكازي لدى المتشرعة، كما يدل عليه بالبرهان الإني: الثواب المذكور لكل منها بذاتها.
وبعبارة أخرى: إن الاستشهاد بالواجب الارتباطي كالواجب ذي الأجزاء الكثيرة كالصلاة أدل على خلاف المقصود؛ إذ لا ريب في وجود الثواب [30] على الركوع وهو غير الثواب على القنوت، بل مقتضى القاعدة أن يكون من سنخ آخر، ولكل ركن وجزء ثوابه وأجره وإن كان مشروطاً بانضمام سائر الأجزاء بحيث لو لم يتحقق الشرط انتفت الثوابات كلها فلا تلازم بين الارتباطية ووحدة الثواب ، بل التلازم بينها وبين عدم استحقاق الثواب على كل جزء وركن بلحاظ كونه بشرط لا ؛ نظراً للاشتراط والارتباط، أو الاستحقاق على كل جزء لكن شرط أن ينضم غيره إليه، فالاستحقاق على (الجزء) حقيقة وإن كان (الانضمام) شرطاً، وبعبارة أخرى:  الانضمام واسطة في الثبوت لا في العروض.
ثم إنه لا ينفي ذلك أن يرتب الشارع أيضاً ثواباً واحداً على هذا المركب الارتباطي بما هو مركب ارتباطي.
بل إننا نرى ذلك واقعاً وواضحاً في العرف، فإن المهندس الذي يبني الدار فإنه يستحق بكل غرفة وجزء بناه أجراً وإن كان ارتباطياً  ، كما لو شرط على استحقاقه شيئاً لو لم يكمل البناء فإن ذلك لا ينفي أن هذا الجزء من الأجر بإزاء هذا الجزء من العمل ـ ثم بعد أن يكمل البناء كله بإتقان يستحق المهندس تكريماً خاصاً أيضاً.
وكذلك حال العقوبة ؛  إذ أي محذور في الالتزام بأن ترك تكبيرة الإحرام له عقوبة [31]، وترك السجود له عقوبة أخرى[32] وترك الصلاة ـ الناتج عن ترك الركوع ـ أو مطلقاً له عقوبة أخرى عقوبة أخرى [33]، فأي محذور عقلي ينشأ من ذلك؟ فإن الكل وإن كان عين أجزائه إلا أنه غيرها اعتباراً ، بل للهيئة الحاصلة آثار ونتائج واقعية كما نرى ذلك في عالمي التشريع والتكوين ، هذا كله ثبوتاً.
ثم إنه لا وجه لدعوى عدم وجود عقوبتين فكيف بدعوى الضرورة [34] بعدم وجود عقوبتين أو أكثر في مخالفة أمر المولى - المنبسط على مركب ذي أجزاء وأركان وذي المقدمات-  وكذلك دعوى ذلك في جانب إطاعة أمر المولى؟ فمن أين دعوى أن من مشى إلى الحرام ـ كالزنى ـ فإنه لا يعاقب على كل خطوة بعقاب؟، وقد سبق القول بأن مدار الاستحقاق هو الطاعة والمعصية ولا دخل للنفسية والغيرية في ذلك، وإن العقل يرى في إطاعة أمر المولى بنصب السلم، انقياداً وتعظيماً، دون ريب، وإن في مخالفته بعدم نصب السلم، مخالفة وهتكاً وتمرداً .
ثم هل قوله : (إن كل حركات العبد... تعد انقياداً واحداً ممتداً وتعظيماً واحداً طويلاً...) إلا كمن يلتزم بثواب واحد على الإتيان بكل الواجبات طوال العمر مستدلاً بعين هذا الدليل حرفاً بحرف، فإن كل حياته تعد انقياداً واحداً ممتداً وتعظيماً واحداً طويلاً... الخ والجواب الجواب،  فتأمل.
وبذلك ظهر عدم تمامية : (أما المقدمات الشرعية فواضح لأن أمرها إنما هو بعين الأمر المنبسط على الواجب بما له من الأجزاء والشرائط والموانع ويكون حال المقدمات الخارجية حال المقدمات الداخلية) [35]؛ فإنه يرد عليه-  إضافة إلى ما سبق - أن في الشرط القيد خارج والتقيد داخل، وهذا هو فرقه عن الجزء فليس أمره عينه كما ذكره، ولا انبساط.
ومن ذلك كله ظهر عدم تمامية التفصيل : بما إذا كان الوجوب الغيري مستفاداً من خطاب أصلي فيترتب الثواب أو من خطاب تبعي فلا يترتب [36].
كالتفصيل باستحقاق الثواب وعدم استحقاق العقاب [37] فراجع ما سبق [38].
وأما التفصيل :بأنه لو أتى بالواجب الغيري [39] بقصد التوصل فيترتب عليه الثواب دون ما إذا أتى به دون هذا القصد كما ذهب إليه المحقق النائيني رحمة الله عليه ووافقه المحاضرات، ففيه ما سبق من أن ملاك استحقاق المثوبة والعقوبة هو (الإطاعة والعصيان) فلو نصب السلم امتثالاً لأمر مولاه، وإن لم يقصد الكون على السطح غفلة أو اختياراً ـ بأن قطع النظر عن ذلك ـ بل وإن قصد عدمه، فإنه مطيع لهذا الأمر عرفاً ومستحق للثواب وإن استحق العقوبة لو خالف الأمر النفسي اللاحق، فتأمل[40].
وبذلك ظهر أنه لا وجه تام للتفصيل الآخر الذي اشترط في الثواب على الغيري أن لا ينصرف عن الإتيان بالواجب النفسي بعد ذلك ، ولهذا المبحث مجال واسع نتركه لمظانه بإذن الله تعالى.
بحث تطبيقي:
إذا (تعاون على البر) كهداية ضال أو إرشاد غافل، أو إقامة صلاة، أو تأسيس مسجد أو حسينية أو مدرسة، أو ترويج شعائر سيد شباب أهل الجنة عليه الصلاة والسلام، أو إقامة شعائر العشرة المهدوية المباركة عجل الله تعالى فرجه الشريف أو غير ذلك، فإن له ـ استحقاقاً على رأي، وتفضلاً على رأي آخر، ومن باب القابلية [41] على ما ذهبنا إليه ـ أجران وثوابان: أجر على (التعاون) وتحمل صعوباته ومشاقه نظراً لكثرة دواعي الفرقة والاختلاف والتنازع، وأجر على تأسيس المسجد والحسينية أو هداية الضال أو ما أشبه.
بل أنه لو كان يمكنه فعل كل ذلك، بدون تعاون، ففعله مع التعاون استحق الأجرين والمثوبتين أيضاً ؛ وذلك كمن كان يمكنه المشي لزيارة الإمام الحسين عليه السلام أو أمير المؤمنين عليه السلام أو الحج، من الطريق الأقصر فانتخب الطريق الأطول فإنه يستحق بكل خطوة زائدة أجراً آخر، أعاننا الله على ذلك كله أنه سميع مجيب [42].

-------------
[1] وهي المقدمة والوجودية ، والمقدمة الوجوبية ، ومقدمة الصحة ،والمقدمة العلمية ،و مقدمة الكشف، ومقدمة التنجز.
[2] الاجتهاد والتقليد: ص 124.
[3] كفاية الأصول: ص138.
[4] أي المنقِذ بالكسر .
[5] سورة مريم : 76.
[6] سورة الأنعام :36.
[7] الطريقي للصعود للسطح.
[8] أي من جهة المولى، توضيحه: أننا نرى (صحة) عقاب المولى عبده على عدم التزامه أمره وعدم نصبه السلم، سواء لاحظ المولى كون النصب وعدمه طريقاً للكون على السطح المطلوب ذاتاً له أم لا، بل بما هو مأمور به صريحاً أو عقلاً.
[9] مصباح الأصول: ج1، ص491.
[10] سورة النور: 63.
[11] سورة الأعراف :12.
[12] بل هو فرض واقع وذلك كما لو خالف حباً له، فإنه مخالفة وليس تمرداً منه، ولا هتكاً عرفاً، فتأمل.
[13]  بأن ترك المقدمة هتك.
[14] فوائد الأصول للمحقق النائيني، الواجب النفسي والغيري، بقي في المقام، ج1، ص225.
[15] له أمر بحيال ذاته.
[16] لا أمر له بحيال ذاته .
[17] على مبنى الاستحقاق.
[18] وهو قوله بأن : المثوبة والعقوبة إنما تكون من ثمرات القرب والبعد.
[19] واللزوم الذاتي غير الاستحقاق، ثم إنه لا يطلق على اللازم القسري مثوبة ولا عقوبة.
[20] قد يندفع هذا الإشكال: بملاحظة تعبير الآخوند بـ (من تبعات) إذ يقال المقرب هو سبب القرب والقرب سبب المثوبة فالمثوبة من تبعات القرب وإن كان سببه المقرب.
[21] الكفاية، الواجب النفسي والغيري، تذنيبان.
[22]  سورة التوبة:120.
[23] سورة النساء: 100.
[24] سورة غافر: 5.
[25] الوسائل، ب 24، من أبواب المزار. وراجع أيضاً الباب 41.
[26] الدعاء والزيارة ص714.
[27] سورة النساء: 100.
[28] التوبة: 120.
[29] الأصول: ج2 ص114.
[30] واستحقاقه على مبنى الاستحقاق.
[31] كاستحقاقه لدغة العقرب مثلاً.
[32] كاستحقاقه لدغة الحية مثلاً .
[33] كاستحقاقه جلدة من نار مثلاً.
[34] هذا بلحاظ كلام المحقق الآخوند الخراساني رحمة الله عليه الآنف الذكر، فلاحظ.
[35] فوائد الأصول، ص 225.
[36] المصدر.
[37] مصباح الأصول، ج1، ص491، المقام الثاني.
[38] في ثانياً وثالثاً ورابعاً وكذا وأما حال العقوبة....
[39] كالتعاون على البر والتقوى مثلاً على فرض كونه غيرياً مقدمياً.
[40] التأمل هو فيما لو قصد العدم، دون ما إذا لم يقصد الإتيان بالواجب النفسي اللاحق غفلة فإنه لا شك أنه يستحق الثواب على نصب السلم لو قام به امتثالاً لأمر مولاه وإن كان غافلاً عن كونه طريقاً وعن وجود أمر نفسي بالكون على السطح بل حتى لو قام به امتثالاً مع قطعه النظر عن ذي المقدمة ـ فتأمل إذ قد يقال بأنه حتى لو قصد عدم الإتيان بذي المقدمة، فإن له بلحاظها حكم، وبلحاظ امتثاله الأمر بالمقدمة ـ لأن مولاه أمره ـ حكم آخر ولا فرق لدى العقل بين ذلك وبين من يقصد إطاعة أمر نفسي، وعصيان آخر ـ فتأمل.
[41] وبعبارة أخرى: هو محل قابل لمثوبتين، فإنه وإن لم يكن استحقاق، إلا أن القابلية أمر آخر، وهذا مبحث وعنوان هام في حد ذاته.
[42] فقه التعاون: ص395.

 

 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2924
  • تاريخ إضافة الموضوع : 30 ربيع الأول 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28