• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 210- مباحث الاصول -الفوائد الأصولية (الدليل العقلي) (3) .

210- مباحث الاصول -الفوائد الأصولية (الدليل العقلي) (3)

الفوائد الأصولية

( الدليل العقلي)

جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة الرابعة: ما حكم به العقل حكم به الشرع سواء كان في سلسلة العلل أم المعاليل، وإنما لم  يذهب الشيخ إلى حرمة التجري لا لإنكاره تلك الملازمة ، بل لإنكاره الصغرى في ذلك.
بحث تطبيقي:
يمكن الاستدلال على وجوب التعاون على البر  عقلاً بوجه آخر ؛ وهو حكم العقل (بقبح ترك التعاون على البر والتقوى) وكلما حكم العقل بقبح شيء واستحقاق فاعله الذم حرم ، واستحق فاعله العقوبة؛ لأن كلما حكم به العقل حكم به الشرع سواء كان في سلسلة العلل أم المعاليل ، كما فصلناه في موضع آخر.
وكما في حكم العقل بقبح التجري، بل هو أولى ؛ وإنما لم يذهب مثل الشيخ الأعظم (قدس سره) إلى الحكم بحرمة التجري، لا لإنكار الملازمة بين القبح والحرمة، بل لإنكار الصغرى.
قال في الرسائل: ومن هنا يظهر الجواب عن قبح التجري فإنه لكشف ما تجرأ به، عن خبث الفاعل لكونه جريئاً وعازماً على العصيان والتمرد لا على كون الفعل مبغوضاً للمولى... لأن استحاق المذمة على ما كشف عنه الفعل لا يوجب استحقاقه على نفس الفعل،  ومن المعلوم أن الحكم العقلي باستحقاق الذم إنما يلازم  استحقاق العقاب شرعاً إذا تعلق بالفعل لا بالفاعل [1].
ثم إن منشأ حكم العقل بقبح ترك التعاون على البر والتقوى هو :
أولاً: إما لأن فعله مصداق شكر النعمة وتركه مصداق كفرانها فيقبح إذ لاريب في كون التعاون على ما أمر به المولى نوع شكر له وعدمه كفراناً للنعمة.
ثانياً : وإما لأن في تركه تفويتاً لأغراض المولى ـ كما فصلناه في فصل الغرض ـ فهو قبيح.
ثالثاً : وإما لأن في تركه الضرر البالغ ولو المحتمل  لكون كل ما احتمل فيه العقاب الأخروي، أمراً بالغ الخطورة ومنجزاً ؛ لأن الاحتمال وإن كان ضعيفاً [2] إلا أن المحتمل خطير ـ وقد فصلنا ذلك في مكان آخر.
رابعاً : وأما لاستقلال العقل بقبح ترك التعاون على البر والتقوى-  مع قطع النظر عن كل ما سبق- فهو كقبح الظلم ، وربما يقال بالتفريق ـ حرمة وكراهة ـ بين أنواع ما حكم العقل بقبحه  بلحاظ مناشئه [3].

الفائدة الخامسة: أحكام العقل تنقسم إلى قطعية وظنية، والأولى ما انكشف بها الواقع انكشافاً تاماً، والثانية خلاف ذلك؛ والحكم في الأولى إن ورد دليل من الشارع على خلافها طرحه العقل أو أوله بخلاف الثانية فإنه يمكن للعقل الأخذ به تعبداً.
إن العقل في أحكامه على حالتين: فقد يكون جازماً وقد يكون ظاناً ، أو فقل: إن أحكام العقل على قسمين: أحكام قطعية وأحكام ظنية، وهذا هو المنصور خلافاً للمشهور.
وذلك لأنه إن انكشف له الواقع انكشافاً تاماً بكل جهاته حكم حكماً قطعياً [4] ؛ وإن انكشف له المقتضي - وكونه في مرحلة المقتضي تام الاقتضاء، وغلب عنده انتفاء المانع وانتفاء وجود شرط خفي عليه - حكم حكماً ظنياً؛ ألا ترى أنه يحكم حكماً ظنياً بصحة وجواز العمل بقول أهل الخبرة الميت ابتداءً ما لم يدل دليل من الشرع على الخلاف؛  إذ يرى أن الحياة ليست مؤثرة في أقوائية احتمال الإصابة ؛ إذ لا تنقلب الأقوائية عما هي عليه بالموت.
نعم، يحتمل أن تكون لحياته مصلحة سلوكية، أو جهة موضوعية قد خفيت عليه ، كما كشف عنها الشارع في اشتراطه الحياة في تقليد المجتهد ابتداءً على القول المشهور به ، وحيث احتمل احتمالاً ضعيفاً حكم حكماً ظنياً دون القطعي [5].

بحث تطبيقي :
قيل: بتعين تقليد الأعلم  بدعوى أن  حكمه أقرب  للواقع؛ و ما كان كذلك لزم اتباعه.
ونقول : إن هذا حكم عقلي ظني؛ وحيث إن الظن لا يغني من الحق شيئاً ؛ فلا بد من الرجوع إلى الشرع، فإن أمضى فبها ، وإلا فلا.
ومثل ذلك حكمه في القياس في غير دائرة الشرع؛ لورود النص الخاص فيه، فإنه به ظان غير قاطع ، وكذلك حكمه بالاستصحاب لدى الشك في الرافع، فكيف بالشك بالمقتضي؟ فتأمل [6].
بحث تطبيقي آخر:
قد أشكل بعض الأعلام على الاستدلال على تعين تقليد الأعلم بأقربيته إلى الواقع، بقوله: بأنّ ادّعاء تعيّن الرجوع إلى الأقرب يتوقّف على إدراك العقل لزوم الأخذ به وتعيّنه إدراكاً جزمياً قطعياً لا يحتمل خلافه، بحيث لو ورد دليل على خلافه من الشرع لأوّله أو طرحه، وأنّى للعقل هذا الإدراك؟ إذ للشارع ترخيص الرجوع إلى المفضول إذا رأى مفسدة في تعيّن الرجوع إلى الأفضل، أو رأى مصلحة في توسعة الأمر على المكلّفين ـ كما هو الواقع في جواز العمل بقول الثقة وترك الاحتياط ـ من دون أن يستلزم ذاك الترخيص والرجوع إلى المفضول موضوعيته كما ادّعاه المستدل.
نعم، لو وقف العقل على لزوم إحراز الواقعيات، وإدرك عدم رضا المولى بتركها، لحكم بلزوم العمل بالاحتياط، وعدم جواز العمل بقول الفاضل والأفضل، من غير فرق بين لزوم العسر والحرج، واختلال النظام وعدمه.
والحاصل: إنّه لا يتسنّى للعقل الحكم الباتّ بتعين الرجوع إلى الأقرب  مع احتمال ورود تعبّد من الشارع بالترخيص في الرجوع إلى الفاضل والمفضول، ومع هذا الاحتمال ـ ولو كان ضعيفاً ـ لا مساغ لادّعاء القطع بتعيّن الأخذ به، وتوهّم عدم وجود ذاك الاحتمال لا يخلو عن مكابرة [7].
أقول: وتوضيح كلامه مع إعادة صياغة وإضافات هو: إن العقل تارة يحيط بكل الجهات، أي: بكل ما له مدخلية في حسن فعلٍ، أو ثبوت حكمٍ لموضوعٍ من وجود المقتضي وتحقق كافة الشرائط، وانتفاء كافة المواقع، وعدم وجود مزاحم مساوٍ أو راجح، وتارة لا يحيط، فإن أحاط حكم، وإلا سكت.
لكن صُوَر إحاطته بكل الجهات قليلة إن لم تكن نادرة، ولذا كانت المستقلات العقلية معدودة، وقد لا تتجاوز الثلاثين، كقبح الظلم وحسن العدل مثلاً [8].
وأما أحكام الشارع فحيث لا يعرف العقل ملاكاتها لذلك فإنه ساكت فيها إلا بالتبع، بمعنى أنه يدرك أن الشارع حيث أوجب أو حرّم فهو كذلك، لا أنه يدرك حرمتها أو وجوبها بالاستقلال، إلا فيما ندر [9].
ولذا نجد أنه لو عرضت على العقل حلية أو حرمة الزواج بالخامسة، أو حرمة أو حلية النوم بين الطلوعين، أو حلية وحرمة أمثال الزرافة واللقلق والقبرة والجراد وغيرها [10] لما وسعه إلا السكوت، حيث لا يدرك ملاكات حكم الشارع، وليست له إحاطة بجهات المصالح والمفاسد الواقعية ومزاحماتها ليحكم بالاستقلال، هذا كبرى.
وأما صغرى المقام فإن العقل لا يحيط بكافة جهات حسن تعيّن تقليد الأعلم ومزاحماتها؛ لذا لا بد له أن يسكت، وآية عدم إحاطته بالجهات هو البرهان الإنّي؛ إذ يُسأل [11]: هل للشارع ـ أو لأي مولى حكيم محيط بالجهات فرضاً  ـ أن يمنع عن تقليد الأعلم لكونه فاسقاً أو عبداً أو طفلاً، وإن كان قوله أقرب للواقع وللإصابة ـ نوعاًـ ؟ ولا ريب أن الجواب بنعم؛ إذ يمكن كون هذه الجهات مزاحِمة ثبوتاً لجهة الطريقية ـ وقول الشارع دليل الوقوع، ويكفي الإمكان في عدم حكم العقل بالإلزام ـ كما يُسأل: هل للشارع أن يجوّز تقليد المفضول لمصلحة التسهيل أو غيرها؟ والجواب كسابقه دون شك.
والحاصل: إنه حيث احتمل العقل وجود جهات مزاحمة تمنع تقليد الأعلم أصلاً، ككونه فاسقاً ضالا، أو مصالح موجودة في قسيم الأعلم توجب التخيير بينه وبين الأعلم، بل وتعيينه، لذلك فإنه لا يحكم، وليس له أن يحكم، بل عليه إيكال الأمر للمحيط بكل الجهات وهو الشارع [12].

--------------------
[1] فرائد الأصول :ج1ص66 .
[2]  وليس بضعيف في المقام من ترك التعاون على البر الواجب
[3] فقه التعاون: ص 151.
[4] كما في حكمه بحسن الإحسان ورد الوديعة وبحرمة الظلم.
[5]  تقليد الأعلم : ص145.
[6] تقليد الأعلم : ص145.
[7] بيان الفقه: ج 2ص 25.
[8] وقد ذكرنا أكثر من ذلك في كتاب (الأوامر المولوية والإرشادية) مع تأمل في بعضها.
[9] مما طابق المستقلات العقلية.
[10] فائدة: إن الضابط العام في حرمة حيوانات البر ويشمل غيرها أيضاً إلا ما خرج على ما أفاده صاحب الجواهر ـ مع توضيح ـ هو انطباق أحد أربعة عناوين عليه:
1 -كونه من الحشرات كالخنفساء والديدان والقمل والبرغوث مثلاً.
2 -كونه من المسوخ كالفيل والدب والطاووس والقرد والزنبور والخنزير والأرنب، والفأرة والضب والعقرب والوزغ.
3 -كونه من السباع أو مطلق ذي الناب ـ بناء على كونه أعم ـ كالذئب والنمر والأسد والضبع والسنّور.
4 -كونه من الخبائث.  هذا إضافة إلى ما ورد النص على تحريمه بخصوصه.
أقول: وأضاف بعض العلماء: كلما يسكن باطن الأرض من صغار الحيوانات، كالحية وابن عرس والقنفذ واليربوع.

[11] أي: العقل.
[12] تقليد الأعلم : ص 137.


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2851
  • تاريخ إضافة الموضوع : 8 صفر 1439هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 04 / 18