• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 172- مباحث الأصول : (مبحث الأمر والنهي) (1) .

172- مباحث الأصول : (مبحث الأمر والنهي) (1)

مباحث الاصول : ( مبحث الامر والنهي)*
جمع واعداد: الشيخ عطاء شاهين

الفائدة الأولى: أن صيغة الأمر إما أن تكون موضوعة لمطلق الطلب ، أو للوجوب بالوضع، أو للوجوب بحكم العقل ، أو للوجوب للإطلاق ومقدمات الحكمة ، أو للوجوب والندب ، أو حقيقة للندب، فهذه ستة أقوال فيها.
القول الأول: إن الصيغة حقيقة في الوجوب، وهي دالة عليه بالوضع ، وهذا ما ذهب إليه الآخوند [1].
القول الثاني: إنها دالة على الوجوب لكن بحكم العقل ، وهذا ماذهب إليه الميرزا النائيني [2].
القول الثالث: إنها دالة على الوجوب، لكن بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، وهذا ما  ذهب إليه المحقق العراقي[3].
القول الرابع: إنها حقيقة في الوجوب والندب، أو لمطلق الطلب ، بنحو الاشتراك اللفظي[4].
القول الخامس: إنها حقيقة في الجامع بينهما، وهو الطلب[5].
القول السادس: إنها حقيقة في الندب[6].
بحث تطبيقي:
يمكن الاستدلال بقوله تعالى :(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) على وجوب التعاون على البر الواجب حتى لو قلنا بشمول (البر) للمندوب، وذلك على مختلف الأقوال في الموضوع له في صيغة الأمر.
 فأما القول الأول: فإن شمول (البر) للمندوب وضعاً لا يتنافى مع ظهور (تعاونوا) في وجوب التعاون على مصاديقه من البر الواجب ،فلا يخل بظهوره وليس صارفاً عرفاً.
وبعبارة أخرى: إننا نرفع اليد عن ظهور (تعاونوا) في الوجوب بالنسبة إلى خصوص (البر المندوب) للقرينة وهي كون هذا الصنف من المتعلق مندوباً وعدم صحة زيادة الفرع على الأصل، فلا يمكن أن يكون البر مندوباً ويكون التعاون عليه أو الأمر به واجباً[7]، ولا وجه للتعدي إلى غيره[8] ؛ والسر في ذلك انحلال الأمر بـ (تعاونوا) إلى أوامر بعدد المتعلق فيكون لكل حكمه، فيختص رفع اليد عن الظاهر بذي القرينة فقط.
لا يقال: فقد استعمل (تعاونوا) في الحقيقة والمجاز؟
إذ يقال: قد سبق إمكان ذلك، ولا مانع منه إذا كان بالقرينة[9].
ونضيف: بل هو الظاهر في كل ما تعلق بالجامع بين الأفراد الواجبة والمندوبة، أو بكل ما تركب ـ اعتباراً ـ من الواجب والمستحب.
ومثال الأول: قوله تعالى: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ)، فإن (الخير) شامل دون شك للواجب كالزكاة والجهاد، وللمندوب كالصدقة وإقراء الضيف ،والظاهر من (وَافْعَلُوا) أنه حض وحث على الخير الواجب، وجوباً، وللمندوب، ندباً.
وبعبارة أخرى: للعبد إذا قام بخير واجب أن يستند إلى قول المولى: (وَافْعَلُوا)، كما أنه إذا قام بخير مستحب فله أن يستند إلى قوله أيضاً دون عناية وتعمل، وكذلك الظاهر في المتفاهم العرفي من: أكرم الضيف أو أحسن لجارك ، فتأمل.
ومثال الثاني: الصلاة؛ فإن قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاَةَ) أو (صل) ينبسط على الأجزاء الواجبة كالركوع، والمستحب كالقنوت، هذا وجوباً للظهور، وذاك ندباً للقرينة.
وذلك هو الظاهر؛ ويشهد له العرف والوجدان، فإن المولى لو قال لابنه: صل، فإن الصلاة بأجزائها الواجبة والمندوبة تنقدح في ذهنه ويرى (صل) بعثاً لها بأجمعها، منتهى الأمر أنه يرى البعث بـ (صل) نحو الركوع مثلاً إلزامياً ونحو القنوت ـ بالقرينة ـ مثلاً ندبياً.
وأما القول الثاني[10]، فهذا أيضاً يمكن الاستدلال بـ (تعاونوا) على الوجوب، فإنه أمر صدر من العالي وقد اقترن بالترخيص في متعلقه من البر المندوب ـ لما سبق من قرينية المتعلق ـ ولم يقترن بالترخيص في متعلقه من البر الواجب، فينتزع العقل عنوان الوجوب من (تعاونوا) بلحاظ تعلقه بالبر الواجب، أو بأفراد البر الواجب، وينتزع العقل عنوان الاستحباب من (تعاونوا) بلحاظ تعلقه بالبر المندوب.
 وقد سبق الجواب عن شبهة استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، بل إنه لم يستعمل على هذا القول والقول اللاحق إلا في معنى واحد هو الطلب، واستفيد الوجوب والندب من حكم العقل فلاحظ.
وأما على القول الثالث[11]: فقد ذهب المحقق العراقي إلى أن الأمر يدل على طلب المولى وإرادته والإرادة حقيقة تشكيكية، فالشديد منها للواجبات، والضعيف، للمستحبات ؛ولأن شدة الإرادة من سنخها بخلاف الضعف الذي يعني عدم الشدة، فيكون مقتضى الإطلاق: الإرادة الشديدة؛ لأنها بحدها لا تزيد على الإرادة بشيء، فلا يحتاج حدها إلى بيان زائد على بيان المحدود عكس الإرادة الضعيفة، فلو أرادها لزم أن ينصب قرينة[12].
وأقول: على هذا أيضاً يدل على الوجوب ؛ إذ أن (تعاونوا) دل على إرادة المولى وطلبه و(البر المستحب) قرينة على أن إرادة المولى ضعيفة في طلبه التعاون عليه، فطلبه التعاون عليه طلب استحبابي، أما (البر الواجب) فلا قرينة على كون طلبه التعاون عليه، طلباً ضعيفاً، فيتعين بالإطلاق: الإرادة الشديدة ـ على حسب مسلكه ـ غاية الأمر أننا فصلنا وأضفنا أن الإطلاق تام بلحاظ بعض المتعلق دون البعض الآخر.
وأما القول الرابع[13]: فقد اتضح حاله مما سبق تفصيلاً من إمكان ووقوع استعمال اللفظ في معننيه الحقيقيين ؛ فيكون (تعاونوا) مستعملاً في الوجوب بلحاظ متعلقه من البر الواجب، ومستعملاً في الندب بلحاظ متعلقه من البر المندوب[14].
5. بناء على كونها مشتركاً معنوياً
وأما القول الخامس[15]: فنقول: إن (تعاونوا) دل على طلب المولى الأعم من الوجوب والندب، فيكون بلحاظ (البر المندوب) للندب؛ إذ هو القرينة عليه، لكنه بلحاظ متعلقه من (البر الواجب)، يمكن أن يصار إلى دلالته على الوجوب إما على ما ذهب إليه الميرزا النائيني وإما على ما ذهب إليه المحقق العراقي، كما سبق تفصيله، وإما بقرائن أخرى كتناسب الحكم والموضوع أو المتعلق[16]، فتأمل، وكقرينة السياق[17] وكقرينة قوله تعالى (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) إلى غيرها من القرائن.
وأما القول السادس[18]:فنقول: فإنه يصار إلى الوجوب بالقرينة ، وهي ما سبق في القول الخامس وغيره إضافة إلى قرينية كون التعاون مقدمة للواجب[19]، فيكون الأمر به للوجوب إما طريقياً أو نفسياً ـ كما فصلنا الحديث عن ذلك في مواضع أخر من هذا الكتاب[20] ـ فليراجع.
 بحث تطبيقي آخر:
هل أن ﴿كلوا واشربوا﴾ هو للإباحة؟
 فقد ذكروا أن صيغة أفعل تستعمل في خمسة عشر معنى منها الإباحة ولكنه غير تام ؛ إذ التحقيق أن الصيغة لم تستعمل إلا في إنشاء الطلب، والدواعي خارجة عن الموضوع له وعن المستعمل فيه.
 نعم، وضعت لإنشائه إذا كان الداعي البعث والتحريك لا إذا كان الداعي التهديد والتمني وإضرابهما،  حيث لو كان الداعي غير البعث كان الاستعمال مجازياً كما صار إليه الآخوند، وتبعه جمع منهم الوالد قدس سره مع إضافة (أو الإظهار) وحذف (الضميمة)[21].
بل أقول: حتى لو ذهبنا إلى أن الإنشاء هو إبراز الاعتبار النفساني وليس (إيجاد المعنى باللفظ[22]؛ فلا ضرورة للإلتزام بأن الصيغة على هذا المبنى ـ قد استعملت في معاني كثيرة[23]؛ إذ الاعتبارات النفسانية مركبة ومختلفة غير متحدة، فيمكن القول بأن المبرز هو الطلب مع ضميمة التهديد أو التعجيز، فقد استعملت في الطلب فقط ، ولكن لو انضم إليه التهديد مثلاً كان مجازاً، للاشتراط فتدبر جيداً.
  وتحقيق الحال في الآية على كل الأقوال : بأن الصيغة موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فإنه لا يرفع إليه عن الحقيقة إلا لدى تعذرها، و (الأكل والشرب) بين واجب وهو ما توقف عليه حفظ النفس والقوى  ،ومستحب  وهو ما أعان على الطاعة ،ومباح  وهو ما عداهما ، وحيث أمكن المعنى الحقيقي، لا يصار للمجاز.
وبعبارة أخرى: الآية تدل على أصل وجوب أو استحباب أو مطلوبية حسب المباني في  طبيعة الأكل والشرب، والمتحقق بقدر منه، أو ظاهرها ـ بقرينة فهم العرف ـ كلوا شيئاً واشربوا شيئاً، فلا عموم لها للإفراد على نحو الاستغراق، ليتوهم أنه بين واجب ومندوب ومباح، ولا يمكن استعمال اللفظ في أكثر من معنى[24] ، فلابد من حملها على الإباحة، لأنها الجامع والقدر المشترك، مع أنه يرد عليه[25]إشكالات عديدة مبنى وبناء حتى لو قلنا بالعموم.
وبعبارة أخرى: هي ليست في مقام البيان من هذه الجهة،وأما على القول بالاشتراك اللفظي بين تلك المعاني الخمسة عشرة، فقد يقال: إن (كلوا واشربوا) مردد بين الوجوب والندب والإباحة، والإباحة هي المسلّم، لأنها الجامع لذا صار إليه المولى.
لكن فيه: أنها قسيم وليست مقسماً، ولذا جعلها أحد المعاني الخمسة عشرة.
أو يقال: إن الأمر بـ(كلوا واشربوا) في مقام توهم الحظر فهو للإباحة  حتى لو كان للوجوب وضعاً فكيف على غيره .
وفيه: إنه في بعض الآيات قيل بذلك أو لعله لذلك، لا مطلقاً.
وأما على القول بأن المعاني الخمسة عشرة مستعمل فيها فقط وليست مشتركاً لفظياً بل موضوعة للوجوب أو الندب أو مطلق الطلب، فالأمر أوضح.
سلمنا لكن نقول: كونه للإباحة ليس دليلاً على كونه إرشادياً، فإن الإباحة ـ بناء على كونها حكماً وهي كذلك ـ تقع في دائرة (المولوية)، أي ما قرره الشارع وجعله ـ أو مطلق المولى ـ  بما هو مولى مُعمِلاً مقام مولويته[26].

----------------------------------------------


* هذه المباحث الاصولية تجميع لما طرحه سماحة السيد في مختلف كتبه وبحوثه، قام باعدادها وجمعها و ترتيبها فضيلة الشيخ عطاء شاهين.
[1] بالتبادر قال في الكفاية : ص70: في أن الصيغة حقيقة في الوجوب ، أو في الندب ،أو فيهما ، أو في المشترك بينهما ، وجوه بل أقوال ، لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ، ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب .
[2] قال في أجود التقريرات : ج1ص95: أعلم أن الصيغة متى صدرت من المولى فالعقل يحكم بلزوم امتثاله باقتضاء العبودية والمولوية ولا يصح الاعتذار عن الترك بمجرد احتمال كون المصلحة غير لزومية الا إذا كانت هناك قرينة متصلة أو منفصلة على كونها غير لزومية .
[3] قال في نهاية الأفكار : ج1ص178 :إن صيغة أضرب مثلا لما كانت مشتملة على مادة وهيئة خاصة فمادتها تدل حسب الوضع النوعي على نفس الحدث واما هيئتها الخاصة فهي أيضا لا تدل الا على النسبة الارسالية والمحركية بين المبدء والفاعل ، لكن لا مفهوم هذه النسبة لأنه معنى اسمي ، بل مصداقه وصورة ذلك الربط الخاص الحاصل من تحريك المأمور نحو العمل على طبق الارسال الخارجي ، وحينئذ فلا يكون المستعمل فيه في الصيغة الا النسبة الارسالية لا مفهوم الطلب كما عليه الكفاية (قدس سره) وعليه فلابد وأن يكون دلالتها على الطلب من جهة الملازمة خاصة الناشئ هذا التلازم من جهة كون المتكلم في مقام الجد بالإرسال ، إذ حينئذ ينتقل الذهن من تلك النسبة الارسالية إلى مفهوم الطلب بانتقال تصوري .
[4] انظر المنخول : ص170 .
[5] نسبه في المستصفى: ص 205 إلى جماعة.
[6] نسبه الآمدي  في الأحكام: ج2ص145 إلى جماعة ، فقال : ومنهم من قال: إنه حقيقة من الندب ، وهو مذهب أبي هاشم وكثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم ، وجماعة من الفقهاء.
[7]على تأمل لنا في ذلك سنذكره لاحقاً.
[8] أي لا وجه للتعدي ورفع اليد عن ظهور التعاون في الوجوب في غير البر المندوب، وهو البر الواجب.
[9] وهي هنا خصوص المتعلق وشموله للنوعين.
[10] بناءً على كون الصيغة حقيقة في الوجوب بحكم العقل، وهو ما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره.
[11] بناء على كونها دالة على الوجوب بمقدمات الحكمة
[12] مقالات الأصول، ج1، ص65.
[13] وهو كون الأمر حقيقة في الوجوب والندب بالاشتراك اللفظي.
[14] وقد تطرقنا لما يمكن أن يورد عليه وجوابه، فانظر كتاب فقه التعاون.
[15] وهو كون الأمر حقيقة فيهما بالاشتراك المعنوي، أي الجامع وهو الطلب.
[16] أي أن المناسب ل ـ (البر الواجب) أن يكون التعاون عليه واجباً أيضاً بدعوى أنه المتفاهم عرفاً.
[17] إذ ظاهر ( وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) عرفاً، التحريم.
[18] وهو كون الأمر حقيقة في الندب.
[19] في البر الواجب الذي هو مفروض البحث.
[20] فقه التعاون.
[21] الأصول: ج1، ص189 - 190.
[22] كما ذهب إليه في مصباح الأصول: ج1، ق1، ص286.
[23] من التهديد والتعجيز وغيرهما.
[24] حقيقي ومجاز.
[25] أي على هذا التوهم.
[26] الأوامر المولوية: ص197.
 


  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2716
  • تاريخ إضافة الموضوع : 18 رمضان 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29