• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : الفوائد والبحوث .
              • الموضوع : 129- بحث اصولي: هل هناك تدافع بين النظرة العرفية في النصوص والنظرة الدقية، معاريض الكلام نموذجاً؟ .

129- بحث اصولي: هل هناك تدافع بين النظرة العرفية في النصوص والنظرة الدقية، معاريض الكلام نموذجاً؟

 بحث اصولي: هل هناك تدافع بين النظرة العرفية في النصوص والنظرة الدقية، معاريض الكلام نموذجاً.؟؟*
اعداد: الشيخ عبد الرسول الدجيلي**
قد يتوهم التدافع بين ملاحظة العرفية في النصوص الدينية وبين اعمال الدقة فيها ، بدعوى أن التدقيق والتشقيق والتطرق إلى المعاني العميقة، وطرح الاحتمالات المختلفة في النصوص الشريفة ليس بعرفي،  مع دعوى أن المعاريض والتورية هي من صغريات التدقيقات والتعرض للاحتمالات البعيدة، أو المعاني العميقة غير العرفية، فإذا كان الملاك (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِه)[1]، ولسان القوم عرفي، فالدقة لا وجه لها، وليست مما يحتج بها فهي لغو، إلا أن هذا يعارَض بما دل من الروايات على:
(أنتم أفقه الناس ما عرفتم معاني كلامنا)[2].
(وأنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج)[3].
(إنّا والله لا نعد الرجل من شيعتنا فقيهاً حتى يلحن له فيعرف اللحن) [4].
(ولا يكون الرجل منكم فقيهاً حتى يعرف معاريض كلامنا، وأنّ الكلمة من كلامنا لتنصرف على سبعين وجهاً لنا من جميعها المخرج)[5].
(إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول ، وعليكم أن تفرعوا)[6].
والرواية الأولى: تشير إلى المعاني الطولية ـ  ومنها العميقة ـ  والعرضية   ومنها المعاريض.
والثانية: تشير إلى الاحتمالات المختلفة أو الشقوق والفروض المختلفة[7].
والثالثة: تشير إلى مختلف المعاني المجازية والمعاريض والتورية.
والرابعة: تشير إلى المعاني الموازية المرادة بالانتقال لا الاستعمال.
والخامسة: صريحة في التفريع، وظاهره في التفريع على التفريع والتشقيق.
كما يشهد لذلك أيضاً ما ورد من: (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)[8]
‏فالمتوهم هو التعارض بين مثل: (بلسان قومه) ومثل (على سبعين وجهاً)، و(أنتم أفقه الناس) و(معاني كلامنا) لوضوح أن الأفقهية، بل الفقاهة لا تكون إلا بالدقة والتحقيق والتشقيق والجرح والتعديل للاحتمالات المختلفة، والأدلة المتنوعة، وكشف الحكومة والورود ونظائرها، مما لا يلتفت إليها العرف عادة.
 
وجوه الجواب عن شبهة التدافع بين العرفية والدقة:
والجواب من وجوه:
 
الوجه الأول: العرف هو المرجع في الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص
إن المرجع في الإطلاق والتقييد والعموم والخصوص... هو العرف دون ريب، وأما التشقيقات وطرح المحتملات والفروض والوجوه من تزاحم وتعارض... مما كان مصداق التفقه في الدين فإنها إذا اصطدمت بالفهم العرفي وعارضته لم تكن حجة (إلا إذا دلَّ نصٌ عليها بالخصوص)[9]، أما إذا لم تصطدم بالفهم العرفي فإن الإطلاقات تشملها ـ أي: التدقيقات التي نشأت منها فروض وصور وشقوق، كما في ما فصلناه في بحث النميمة عن نوع الإضافة في قوله(عليه السلام) (فإن النمام شاهد زور) من محتملاتها الأربعة ـ من غير معارض.
والمراد من الإطلاقات، إطلاق نفس أدلتها مادامت صادقة بالحمل الشائع، ومشمولة لقواعد البلاغة واللغة وشبهها، مع عدم دلالة (إلا بلسان قومه) على نفيها كما سيأتي، أو المراد منها إطلاقات مثل (عرفتم معاني كلامنا) و(سبعين وجهاً) و(معاريض كلامنا) شرط وجود القرينة الحالية أو المقالية المتصلة أو المنفصلة.
والحاصل: إن فهم العرف للخلاف مسقط للدقة عن الحجية لا عدم فهمه مع اندراج التدقيقات في الإطلاقات، التي هي في أصلها أيضاً عرفية، فتدبر جيداً.‏
 
الوجه الثاني[10]: الظهور العرفي المستقر هو المرجع لا  البدوي
إن العرف إن بدا له أمر ـ كاشتراط نقل ما هو نقص في صدق النميمة مثلاً ـ فليس بحجة مطلقاً، بل إنما هو حجة فيما لو أُلفت إلى منشأ استظهاره، وإنه كذا وكذا، وإنه يرد عليه كذا وكذا، فلم يتزحزح وبقي مستظهراً، وإلا فلا.
لكن هذا خاص بما كان فيه نوع خفاء كأنواع الاستدلال، بعكس النقيض أو دلالات الاقتضاء والتنبيه والإيماء، وكذا الإشارة وكالموضوعات المستنبطة العرفية واللغوية، دون ما لم يكن فيه خفاء،  كالموضوعات الصرفة والظهورات المعروفة (كظهور العام في الشمول أو الأمر في الوجوب).
ومنه يظهر: إن أصل الظهور في معنى قد يكون مما لا خفاء فيه، بينما تكون حدوده مما بها الخفاء، فيكون المرجع في الأول العرف دون توقفٍ على التدقيق والتشقيق أو استدلال مركب، بينما يكون المرجع في الثاني الأصول وقواعد التفقه، ومآل هذا لُبّاً إلى مرجعيته بعد التثبت من كون استظهاره مستقراً لا بدوياً[11] يرتفع بالفاته، فلو أُلفت إلى أن اشتراطه ـ  فرضاً ـ نقل ما هو نقص في صدق النميمة إنما هو للغلبة، وإنها هي الموهمة وإن تمام المدار في النميمة هو النقل لإيقاع فتنة أو فساد فصدّق ذلك كان المرجع استظهاره المستقر لا البدوي الأولي.
لا يقال: (بلسان قومه) ظاهر في الاستظهار البدوي.
إذ يقال: بل نصه هو (لسان القوم) وهو أعم من البدوي والمستقر إن لم نقل بانصرافه للمستقر، ولدى التعارض فإن المستقر هو ما يرونه لسانهم.
ويشهد لذلك فنون البلاغة وأنواع الكناية المستخدمة في كلمات العرب، فإن العرف كثيراً ما لا يلتفت إليها وإلى فوارقها ونتائجها، فيحكم بوحدة المعنى في التعبير بمثل (إياك نعبد) و(نعبدك) مثلاً، إلا أنه لو ألفت لأذعن وأقر بأن ذلك هو المرتكز واقعاً، أو أنه هو القاعدة في اللغة العربية،  فإليه إذاً المرجع، فتدبر.
ويؤكد ذلك: مختلف تحقيقات الأصوليين والفقهاء في تشخيص الظهورات، كالقول بالفرق بين المخصِّص المتصل والمنفصل، وإخلال محتمل القرينية المتصل بالظهور دون محتمل القرينية المنفصل، وظهور الأمر بعد الحظر وظهور العام في الباقي.. وهكذا، لكن بقيد عدم اصطدامها بالعرف، فيخرج بذلك المحتملات البعيدة والاستدلالات المناقضة للوجدان أو الفطرة.
 
الوجه الثالث: الدخول الموضوعي
بل نقول: إن المعاريض هي من (لسان قومه) وكذا التورية والمجاز والاستعارة ـ وهي منه ـ والكناية ـ وهي من المعاريض ـ بأقسامها من تلميح وتلويح ورمزٍ وإشارة وغيرها، فلئن ورد الإشكال على التدقيقات الفلسفية وشبهها فإنه لا يرد على المعاريض والتورية وأنواع المجاز.
وتحقيق ما ذكرناه في الجواب الأول والثاني: إن إرادة المعاني الأخرى، إضافة إلى المعنى الظاهر، لا يتنافى مع (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[12] فإنه مثبت لا نافٍ، بمعنى أنه مثبت لكون اللسان لسان القوم وإرادة ظواهر الألفاظ، وليس نافياً لإرادة معانٍ أخرى طولية أو عرضية من نفس الكلام الذي أريد ظاهره، بقرائن المجاز أو الكناية والمعاريض أو التورية وشبهها، وبذلك يجمع أيضاً بين (قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)[13]، وبين كونه (تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ)[14]، فإن كونه تبياناً لكل شيء بحسب ما احتوى من دلالات وبطون، وحسب ما أودع لدى أهله، وهم المعصومون(عليهم السلام)، لا ينفي بوجهٍ كونه (قُرْآناً عَرَبِيّاً...)[15]، فإنه مثبت غير نافٍ، على أن ظهور هذا أقوى من ذاك لو فرض كونه ـ تنزلاً ـ نافياً.
ويدل عليه قوله تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ)[16] .
كما يدل عليه قوله (عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله: (ما جعل عليكم في الدين من حرج)[17]، في من وضع على أصبعه مرارة[18].
ويدل عليه أيضاً قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً،  وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً)[19]
وبذلك يظهر أيضاً الجواب عن شبهة أن كلامهم (عليهم السلام) كان ملقى للسمّان والبزاز والخياط وشبههم؛ إذ:
أولاً: لا إطلاق لذلك فإن العديد منهم كان من العلماء، بل من أكابرهم.
ثانياً: رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ومن الحكمة النقل عبره إليه.
ثالثاً: إن المخاطب وإن كان السمّان ونحوه إلا أن الخطاب عام للكل على مدى العصور.
رابعاً: إن الروايات السابقة صريحة في دفع هذا التوهم.
وبعبارة أخرى ـ وعوداً إلى أصل البحث ـ : إن (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) لا يعلم أنها في مقام البيان من هذه الجهة لتفيد الحجية المنحصرة، فلا ينعقد الإطلاق مع عدم الإحراز على مبنى الآخوند ومن تبعه من توقف انعقاد الإطلاق على أولى مقدمات الحكمة أيضاً[20]. نعم، استظهرنا خلافه كما أشرنا إليه في عدد من المباحث، ومنها في بحث الأعلم[21].
لكننا نرى في المقام إحراز عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، خاصة وأن اللسان فسر باللغة ـ أي بلغة قومه ـ فهي أجنبية عن المدعى، قال في تفسير الصافي سورة يوسف: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ) إلا بلغة قومه الذين هو منهم، وبعث فيهم ليبين لهم ما أمروا به فيفقهوه بيسر وسرعة. وفي الخصال عن النبي(صلى الله عليه وآله) في حديث: ومن عليّ ربي وقال: يا محمد، قد أرسلت كل رسول إلى أمته بلسانها، وأرسلتك إلى كل أحمر وأسود من خلقي، فيضل الله من يشاء بالخذلان، ويهدى من يشاء بالتوفيق، وهو العزيز فلا يغالب على مشيته، الحكيم الذي لا يفعل ما يفعل إلا لحكمته)[22].
وقال: ((أأعجمي وعربي): أكلام أعجمي ومخاطب عربي . القمي: لو كان هذا القرآن أعجمياً لقالوا: كيف نتعلمه، ولساننا عربي، وأتانا بقرآن أعجمي، فأحب أن ينزل بلسانهم، وفيه قال الله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ))[23].
إضافة إلى إمكان القول: إن تتمة الآية شاهد على عكس ما استدل عليه بها،  فإن الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) فلم يكتفِ ـ على هذا ـ بكون الرسالة بلسان القوم، بل احتاجت إلى البيان أيضاً[24]، ولعل الوجه في (ليبين لهم) أن القرآن وإن كان بلسان القوم إلا أنه حيث كان بناؤه على التفكيك بين الإرادة الجدية والحقيقية، وعلى دلالة الاقتضاء التي تخفى على عامة الناس، وعلى دلالة الإيماء والتنبيه التي قد تخفى أيضاً، وعلى المعاريض والتورية التي تخفى في الجملة، وعلى البطون، احتاج إلى البيان، وبذلك يجمع بين حجة ظواهر الكتاب وبين الحاجة للمبين والمفسر والشارح، فإنها بعد الفحص في كلماتهم في غير ما كان من المستقلات العقلية أو الفطريات أو النصوص البيّنة، وهذا هو مسلك الأصوليين العام الذي يختلف ـ بهذا التفصيل ـ عن المسلك الأخباري، فتأمل جيداً.
 -----------------------------------------------
 

 

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=2503
  • تاريخ إضافة الموضوع : 3 جمادى الآخرى 1438هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28