• الموقع : مؤسسة التقى الثقافية .
        • القسم : المكاسب المحرمة (1434-1435هـ) .
              • الموضوع : 137- 5ـ ان الكذب مما تبانى العقلاء على قبحه 6ـ والعرف 7ـ والشرع 8ـ وانه لا يطابق العالم السابق ـ البحث عن ( القبح العقلي ) سيال في كافة مسائل المكاسب المحرمة .

137- 5ـ ان الكذب مما تبانى العقلاء على قبحه 6ـ والعرف 7ـ والشرع 8ـ وانه لا يطابق العالم السابق ـ البحث عن ( القبح العقلي ) سيال في كافة مسائل المكاسب المحرمة

 بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 
 
كان البحث حول ما أشكل به السيد الخوئي والشيخ التبريزي وسبقهما في ذلك المحقق الايرواني على احتجاج الشيخ الأنصاري بالعقل على حرمة الكذب بقول مطلق، فقد قالوا إن العقل لا يحكم بقبح الكذب إلا لو ترتبت المفسدة عليه، وقد اجبنا عن ذلك بأن ملاك الحسن والقبح ليس هو فقط ترتب المصلحة والمفسدة، وإنما هنالك ملاكات أخرى متعددة، ولعل حصرهم كان ناشئا من عدم التفاتهم إلى تلك المناشئ والملاكات الأخرى، وقد ذكرنا خمسة من هذه المناشئ بتطبيقها على مبحث الكذب. 
 
الوجه السادس: تباني العقلاء على الحسن او القبح 
 
وأما المنشأ السادس من مناشيء الحسن او القبح فهو تباني العقلاء على ذلك، فان ما تبانى العقلاء على حسنه فهو حسن وما تبانوا على قبحه فهو قبيح([1]). 
 
بيان ذلك: لا شك ان العقلاء بنوا على قبح أقسام من الكذب، بل على قبح كل الأقسام([2])، وذلك كـ أ- الكذب سخرية ب- والكذب مزاحا مع عدم القرينة([3])، فإنهم يرون ذلك قبيحا، ج- وكذلك الحال في الكذب مع الأهل فان العقلاء يجدونه قبيحا, إلا لمصلحة راجحة وهذا خارج عن مفروض البحث او لأنهم من المتدينين و قد سمعوا الروايات على ان المولى قد أجاز بناء على تماميتها سنداً ودلالة ولكن هذا كلام آخر وكلامنا انه لو خلي الكذب وطبيعيُّه – وبدون مكتنفات([4]) – فسنجد أن بناء العقلاء هو على قبحه، 
 
د- وكذلك بناؤهم في خلف الوعد([5]) فانه يقبحونه اشد تقبيح، ومن اظهر مصاديقه هو قبح خلف وعد الله تعالى وهو من الأدلة التي يستدل بها المتكلمون على قبح خلف الوعد بقول مطلق؛ إذ لو لم نقل بذلك للزم ان يسقط الدليل الأهم لإثبات النبوات عند المتشرعة وللزم أيضا عدم الوثوق بوعد الله تبارك وتعالى ووعيده فانه لو لم يكن خلف الوعد قبيحا([6]) لجاز لله تعالى أن يخلف وعده([7]) بإدخال المؤمن الجنة والكافر النار([8]), هذا هو الوجه السادس للحسن والقبح 
 
الوجه السابع: تباني العرف العام وكذا الخاص على الحسن والقبح 
 
وأما المنشأ السابع فهو تبانى العرف العام او الخاص على حسن شيء او قبحه، وفي صغرى المقام نجد ان العرف يقبحون الكذب ويكرهون الكاذب بطبعه - إلا لو علموا انه كان في حالة استثنائية من حرج او ضيق او غيره -، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان الكاذب بنفسه لا يحب أن يعرف بهذه الصفة – وهو فرد من أفراد العرف- إلا مع كونه متسافلا ومتدنيا خلقيا بصورة كبيرة فان البعض تتحول عندهم المعصية والرذيلة الى عمل يتجمل ويتفاخر به أمام الآخرين وليس هذا إلا انحرافا شديدا عن مسار الفطرة السليمة والطبيعة الأولية للإنسان قال تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ)، والمهم إن كل إنسان بطبعه يكره ان يعرف بالكذب ان كذب، وينفر من ان يشتهر بين الناس بهذه الصفة، كما يكشف عن تباني العرف على قبح الكذب: فقدان اعتماد الناس على الكاذب وذهاب سمعته وصيته ووزنه الاجتماعي والعرفي. 
 
إذن: العرف يرى الكذب قبيحاً بكل أقسامه، وهذا هو المشاهد بالعيان وثابت بالوجدان 
 
الوجه الثامن: الحسن والقبح الشرعي 
 
وأما الوجه الثامن وهو ان القبيح هو ما قبحه الشرع، فان الشرع يرشد([9]) لقبح الكذب وتؤكد ذلك مجموعة من الروايات الكثيرة، منها خبر الحارث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: "لَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيَّهُ ثُمَّ لَا يَفِيَ لَهُ – وهذه صغرى - إِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ – وهذه بمنزلة العلة للحكم - وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى يُقَالَ كَذَبَ وَفَجَرَ وَمَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ يَكْذِبُ حَتَّى لَا يَبْقَى مَوْضِعَ إِبْرَةٍ صِدْقٌ فَيُسَمَّى عِنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً" فإن الإمام (عليه السلام) قد ذكر الحكم وعلته. 
 
معنيان للفجور: 
 
وقد فسّر الفجور بمعنيين: أما المعنى الأول فهو الميل عن الحق كما في قوله تعالى: (لا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً)([10]) وفي كتب اللغة تفسير الفاجر بالمائل عن الحق، وأما المعنى الآخر فهو البذاءة والفحش في القول و البهت عند الخصومة، ولا يخفى ان هذا التفسير أي : الثاني هو تفسير بالمصداق، والظاهر ان معنى الفجور هو الأول أي الميل عن الحق . 
 
إذن: الكذب قبيح بتقبيح الشارع إياه إما إنشاء او كشفا 
 
الوجه التاسع: عدم تطابق العوالم 
 
فان من مناشيء القبح: عدم تطابق العالم اللاحق رتبة بسابقه، كما في مسألة الإلحاق بالنسب او ادعاء الشهادة العلمية – (الدكتوراه مثلا )، فالمشكلة هنا ان عالم الوجود اللفظي لم يطابق عالم الوجود العيني فهذا هو منشأ القبح، والكذب كذلك. 
 
مناقشة كلام السيد الخوئي والشيخ التبريزي في صغرى البحث: 
 
وبعد اتضاح الوجوه الثمانية للحسن او القبح فانه سيظهر وجه مناقشة كلام العلمين, فان السيد الخوئي قال: "وكيف يحكم العقل بقبح الإخبار بالأخبار الكاذبة التي لا تترتب عليها مفسدة دنيوية او أخروية "، 
 
وهنا نقول: انه اتضح وجه حكم العقل ومنشؤه، فلا يصح نفي القبح مع انتفاء المفسدة وذلك لوجود جهات ثمانية أخرى للتحسين والتقبيح العقلين([11]), والحاصل: ان وجه القبح لا ينحصر بالمفسدة، كي ينفيه لانتفاءها وإنما توجد وجوه أخرى كالملائمة و المنافرة للنفس([12]), وكذلك ما خالف تباني العقلاء او العرف او الشرع عليه فما قبحوه فهو قبيح والا فلا، وكذلك عدم تطابق العوالم وغيرها([13]), 
 
والمتحصل: ان مناشيء القبح تسعة، بل عشرة وحصرها في احدها ليس بصحيح، هذا هو الجواب الأول ذوالوجوه الثمانية على كلامه (قدس سره). 
 
ومنه يظهر وجه مناقشة ما ذكره الشيخ التبريزي من (واما العقل فلا استقلال له بقبح مطلق الكذب حتى مع عدم ترتب فساد عليه من تلف عرض أو مال أو غيره من المفاسد) وذلك لوجود مناشئ أخرى للقبح كالنقص اوالمنافرة او انبغاء الترك او غيرها. 
 
إضافة مهمة: سيّالية التحليل السابق واستثماره في مواضع مختلفة من المكاسب المحرمة 
 
و قبل ان نكمل نضيف إضافة مهمة جدا وهي : 
 
إننا تتبعنا كلمات الشيخ الأنصاري في بقية مسائل المكاسب المحرمة فتأكد لدينا أن هذا البحث الذي عرضناه وبيناه من تعدد مناشئ الحسن والقبح وتعدادها هو بحث سيال ومهم وحيوي، ولذا ينبغي ان يركز عليه من هذه الجهة([14]), فان الاستدلال الذي ذكرناه والإيرادات والنقاش يمكن ان يستثمر في موارد عدة منها : 
 
مسائل كثيرة في المكاسب المحرمة مشتركة مع مسألتنا 
 
(النجش) 
 
وهذه مسألة مهمة حيث قد يستدل على حرمته بالأدلة الأربعة ومنها العقل وهنا ينبغي ان يستعرض حكم العقل بالمعاني العشرة التي ذكرناها للقبح. قال الشيخ (ويدل على قبحه العقل لأنه غش وتلبيس([15]) واضرار). 
 
بيع هياكل العبادة: 
 
ان الشيخ الأنصاري لم يستدل على حرمة ذلك بالعقل، ولكن يمكن ان يستدل بحكم العقل بالقبح في بيعها إما للمفسدة لو ترتبت وإما لسائر مناشئ القبح كالنقص او اللاانبغاء وغير ذلك مما ذكرناه، 
 
بيع الدراهم المغشوشة: 
 
ولم يستدل الشيخ عليها بالعقل ومجال الاستدلال به واسع كالكذب، فان العقل يحكم بقبح بيع الدراهم المغشوشة لما ذكره في (النجش) وغيره. 
 
وايضا مجال الاستدلال واسع في مسألة تدليس الماشطة والتطفيف وغيرها، 
 
حفظ كتب الضلال : 
 
وهنا نجد الشيخ قد استدل بالعقل ولكن بوجه خاص حيث قال: "ويدل عليه مضافا الى حكم العقل بوجوب قطع مادة الفساد ..." 
 
وهنا نجد انه استدل على الحرمة بالقبح العقلي الأخص، وقد ذكرنا مناشيء مختلفة لذلك القبح. 
 
الغيبة: 
 
قال الشيخ (حرام بالأدلة الأربعة) 
 
الولاية من قبل الحاكم الجائر فانه لم يستدل بالعقل، وكذلك مسألة الغش فانه لم يستند إلى العقل كدليل على الحرمة، مع ان مقتضى القاعدة كان ذلك 
 
وعليه: فان البحث الذي فتحناه هو بحث سيال وجار في كافة المحرمات الشرعية المذكورة في كتاب المكاسب وغيرها سواء قبلنا كبرى الملازمة او رفضناها وللكلام تتمة 
 
وصلى الله على محمد واله الطاهرين 
 
 
([1]) ولا يخفى إننا في مقام تنقيح الصغرى، وأما الكبرى وهي كل ما حكم به العقل او العقلاء حكم به الشرع فسنشير لها لاحقا بإذن الله تعالى. 
 
([2]) فتأمل لخروج مثل الكذب مع نصب القرينة. فتأمل 
 
([3]) بان كان موهِماً انه صدق. 
 
([4]) وتجويز المولى على فرضه كاشف عن مصلحة أقوى مزاحمة أو ما أشبه. 
 
([5]) أي الكذب في الوعد ويلحق به خلف الوعد. 
 
([6]) ولو لم يكن الكذب في الوعد قبيحاً. 
 
([7]) ولجاز له أن يكذب في وعده ووعيده – وهو محل الكلام – تعالى عن ذلك. 
 
([8]) كذلك الحال في أقسام الكذب الأخرى فانه حتى في القصص المخترعة فان القبح ثابت لولا الجهة الراجحة كما سبق فلاحظ 
 
([9]) ويؤكد أو يعمل مولويته – على ما فصلناه في الأوامر المولوية والارشادية في المستقلات العقلية.
 
([10]) قال الطوسي في التبيان (والفاجر مَن فَعَل الفجور وهي الكبيرة التي يستحق بها الذم). 
 
([11]) فان بعضها قد بنى عليه المشهور – وهو ما تباني عليه العقلاء – وبعضها مما ذكروه – كالمنافرة والملائمة - والبعض الآخر قد أضفناه 
 
([12]) المعروف على الألسن هو المنافرة للنفس أو للطبع، وقد أضفنا المنافرة للعقل والروح والجسد أيضاً، وقد ذكر السيد الروحاني في المنتقى ج4 ص439 الملائمة والمنافرة للقوة العاقلة, والكل على مقتضى القاعدة 
 
([13]) بل بعض هذه المناشئ هي اسبق رتبة من المصلحة والمفسدة كما هو الحال في الكمال والنقص الانبغاء والاقتضاء الذاتي 
 
([14]) وذلك لوجود عناوين مختلفة في كتاب المكاسب المحرمة يمكن تطبيق ما ذكرناه من تفصيل في حكم العقل القبح عليها . 
 
([15]) وجه قبح الغش والتلبيس، إذا كان قسيماً للاضرار، هو المناشئ الأخرى التي ذكرناها كاللا انبغاء والنقص ولا تطابق العوالم.. الخ

  • المصدر : http://www.m-alshirazi.com/subject.php?id=159
  • تاريخ إضافة الموضوع : السبت 21 ذو القعدة 1434هـ
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 29